تشير تحركات روسيا خلال الأسابيع الأخيرة إلى تغير جذري في تعاملها مع الغرب، من زيارة بوتين الأولى للشرق الأوسط منذ بدء الهجوم على أوكرانيا، إلى معاقبة إسرائيل، وجولات لافروف الإفريقية، يبدو أن موسكو تحولت من الدفاع إلى الهجوم، فماذا حدث؟
كان الغرب بقيادة الولايات المتحدة قد شن حملة غير مسبوقة من العقوبات على روسيا بسبب الحرب الأوكرانية، التي يصفها الغرب بأنها غزو وعدوان لا مبرر له. ولم تتوقف العقوبات الغربية عند حدود الاقتصاد، بل شملت جميع المجالات السياسية والرياضية وحتى الفنية، في استراتيجية هدفها النهائي عزلة روسيا بشكل كامل.
لكن مع دخول الحرب، التي تصفها روسيا بأنها عملية عسكرية خاصة تهدف إلى منع عسكرة أوكرانيا وانضمامها لحلف الناتو، يبدو أن موسكو ورئيسها فلاديمير بوتين، الذي أصبح العدو اللدود للغرب، قد غيرت استراتيجيتها الدبلوماسية من الدفاع والتبرير إلى الهجوم، فما أبرز مظاهر ذلك التغيير؟
جولات لافروف في إفريقيا
الأحد 24 يوليو/ تموز، وصل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى العاصمة المصرية القاهرة في مستهل جولة إفريقية ستأخذه أيضاً إلى إثيوبيا وأوغندا وجمهورية الكونغو.
وتهدف جولة لافروف، التي تأتي مع دخول الهجوم الروسي على أوكرانيا شهره السادس، إلى الاستفادة من رغبة بعض الدول في الانضمام إلى تحالفات غير غربية في الوقت الذي تقاوم فيه موسكو الانتقادات الدولية بشأن الحرب في أوكرانيا، بحسب تقرير لرويترز.
والتقى لافروف في مصر بمسؤولين يحاولون رفع مستوى العلاقات القوية مع روسيا لمستوى علاقتهم الوثيقة بالولايات المتحدة، التي سعت مع قوى غربية أخرى إلى عزل روسيا من خلال فرض عقوبات صارمة عليها منذ فبراير/شباط الماضي. كما التقى مع أعضاء جامعة الدول العربية في القاهرة.
وتتمتع مصر بعلاقات استراتيجية واقتصادية مهمة مع روسيا، والتي كانت مصدراً رئيسياً في السنوات الأخيرة للقمح والأسلحة، وكذلك للسائحين حتى اندلاع الحرب التي أدت إلى تعقيد خطط السفر.
وبدأت شركة "روس أتوم" الروسية للطاقة المملوكة للدولة هذا الأسبوع بناء أول محطة نووية في مصر بعد أن تأخرت طويلاً، وهو أكبر مشروع روسي مصري منذ اكتمال السد العالي في أسوان عام 1970.
وقال دبلوماسيون لرويترز إن تلك العلاقات تثير غضب الدول الغربية التي قدمت مجموعة منها طلبات للحكومة المصرية وجامعة الدول العربية قبل زيارة لافروف بعدم تأييد التفسيرات الروسية للأحداث في أوكرانيا.
فمصر لا تزال تتمتع بعلاقات استراتيجية قوية مع الولايات المتحدة. وتماشياً مع موقف الغرب، رفضت القاهرة شحنة قمح روسية واحدة على الأقل قالت أوكرانيا إنها سُرقت من مناطقها المحتلة.
وقال إتش.إيه. هيليار من معهد الوكالات الملكية المتحدة، وهو مركز أبحاث في بريطانيا، إن الموقف الغربي من الحرب لم يكتسب سوى قدر محدود من الزخم في العالم العربي وإفريقيا، وهما منطقتان تبدي الحكومات فيهما استعداداً لقبول البدائل غير الغربية.
وأضاف لرويترز أن مصر "تدرك أن العالم يتجه بشكل أوضح لأن يكون متعدد الأقطاب، ولا تريد أن تحصر نفسها في علاقة تميل للغرب على حساب أي شيء آخر".
شرح وجهة النظر الروسية
يأتي اختيار لافروف لمحطات جولته الإفريقية، إضافة إلى التوقيت، كمؤشر في حد ذاته على ما تسعى موسكو إلى تحقيقه. فمصر من أكثر دول المنطقة، وربما العالم، تأثراً بتداعيات الحرب في أوكرانيا، إذ تستورد القاهرة أكثر من 80% من حاجتها من القمح من كل من موسكو وكييف. والغرب يوجه اللوم لروسيا في نقص المعروض من القمح وارتفاع أسعاره بصورة قياسية، وبالتالي يسعى لافروف إلى شرح وجهة النظر الروسية وجهاً لوجه.
وفي هذا السياق، قدم وزير الخارجية الروسي تطمينات لمصر بخصوص إمدادات الحبوب الروسية، رغم حالة الغموض بشأن اتفاق لاستئناف صادرات الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود.
وقال لافروف في مؤتمر صحفي مع نظيره المصري سامح شكري: "أكدنا التزام مصدري الحبوب الروس بالوفاء بجميع التزاماتهم". وأضاف: "ناقشنا معايير محددة للتعاون في هذا المجال، واتفقنا على مزيد من الاتصالات بين الوزارات المعنية، ولدينا فهم مشترك لأسباب أزمة الحبوب".
وتبادل الغرب وروسيا اللوم بخصوص أزمة الحبوب، والتي أوشكت أن تتسبب في مجاعة فعلية في كثير من دول العالم؛ كون موسكو وكييف مصدريْن لنحو ثلث واردات العالم من تلك السلعة الرئيسية. فالغرب يلوم الحصار الروسي للموانئ الأوكرانية، بينما تقول روسيا إنها لا تمنع مرور السفن المحملة بالحبوب، لكن الأوكرانيين هم من أوقفوها ولغموا الموانئ.
وفي هذا السياق، قالت روسيا إن الصاروخ الذي انفجر في ميناء أوديسا، الأحد 24 يوليو/تموز، استهدف سفينة محملة بصواريخ غربية وليست سفينة تجارية تحمل حبوباً، أو أن الهدف منه تعطيل اتفاق شحن الحبوب الذي تم توقيعه بوساطة تركية وأممية في اليوم السابق على الهجوم الصاروخي.
وبالتالي فإن وجود لافروف في القاهرة في هذا التوقيت يعتبر خطوة هجومية دبلوماسية من الجانب الروسي، تهدف إلى شرح وجهة نظر بوتين مباشرة من جهة، وفي الوقت نفسه التأكيد على قوة العلاقات مع مصر، التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الغرب.
ويشير تقرير لرويترز إلى أن السفارات الغربية في القاهرة قد مارست ضغوطاً على مصر وجامعة الدول العربية قبيل زيارة لافروف، التي تضمنت محادثات مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وممثلين لجامعة الدول العربية، في مؤشر واضح على فشل الضغوط الغربية.
وقال لافروف، في القاهرة، إنه يأمل في أن تنجح الأمم المتحدة في إزالة "القيود غير المشروعة" على الشحن. وأضاف "لا تزال هناك 70 سفينة أجنبية من 16 أو 17 دولة تقف هناك رهينة على ما يبدو، ومنها بالمصادفة سفينة محاصرة في الموانئ الأوكرانية بسبب خطر الألغام من المفترض أن تجلب أغذية إلى مصر".
كما قال وزير الخارجية الروسي لجامعة الدول العربية في وقت لاحق إنه سيتم تفتيش أي سفن قادمة لنقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية؛ للتأكد من أنها لا تحمل أسلحة.
عودة روسيا إلى إفريقيا
كما أن توجه وزير الخارجية الروسي إلى إثيوبيا ثم أوغندا وجمهورية الكونغو، والدول الثلاث علاقاتها مع الغرب متوترة بالفعل، يشير إلى أن روسيا قد عادت إلى استئناف علاقاتها بشكل طبيعي، وأنها لا تعاني من العزلة التي أرادها الغرب، بعد أكثر من 5 أشهر من العقوبات.
وفي مقابلة مع وسائل الإعلام الروسية الرسمية، الأربعاء 20 يوليو/تموز، سلّط لافروف الأضواء على دعم الاتحاد السوفيتي لإنهاء الاستعمار الغربي خلال حقبة الحرب الباردة، وسعي موسكو لاستعادة الروابط والعلاقات في إفريقيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، قائلاً إن من المقرر عقد قمة روسية إفريقية ثانية العام المقبل.
"لم نعطهم (الدول الإفريقية) دروساً قط، لقد ساعدناهم على الدوام في حل المشكلات بما يسمح لهم بأن يعيشوا في بلادهم بالطريقة التي يريدونها"، بحسب لافروف، الذي أوضح التناقض مع ما يقول إنها جهود أمريكية لدفع الدول في المنطقة بعيداً عن روسيا والصين.
وقال تيودور ميرفي، مدير برنامج إفريقيا بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن روسيا وجدت فرصاً لاستعادة نفوذها في إفريقيا من خلال تقديم المساعدات الأمنية بشروط أقل من الغرب وغطاء سياسي من النقد الغربي.
ومن بين الدول التي أقامت معها روابط إثيوبيا، التي توترت علاقاتها مع الغرب بعد اندلاع الصراع في منطقة تيغراي الشمالية في عام 2020، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تعليق دعم الموازنة ودفع الولايات المتحدة إلى تعليق اتفاق تجاري يمنح إثيوبيا ميزات تفضيلية في الوصول إلى الأسواق.
وتوترت العلاقات أيضاً بين أوغندا الغنية بالنفط والغرب بسبب مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان على أيدي قوات أمن الدولة، والعنف الانتخابي واستشراء الفساد. وقال مورفي إنه في الوقت الذي تبحث فيه الدول الإفريقية عن بدائل، فإنها تواجه تكلفة "تكاد لا تُذكر" في إقامة علاقات مع روسيا، نظراً لإحجام الغرب عن تقديم المساعدات وتمويل التنمية في المنطقة.
معاقبة إسرائيل وقمة بوتين شرق الأوسطية
بعد أيام قليلة من زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأولى إلى الشرق الأوسط، كان نظيره الروسي يقوم بزيارته الأولى للمنطقة أيضاً، منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، فيما وصفه محللون أنه المؤشر الأبرز على فشل المحاولات الغربية لإظهار عزلة موسكو على الساحة الدولية.
التقى بوتين، في طهران، مع نظيريه الإيراني إبراهيم رئيسي والتركي رجب طيب أردوغان، وعلى الرغم من أن ملف الأزمة السورية كان هو العنوان الأبرز للقمة، إلا أن الحرب في أوكرانيا والعقوبات وغيرها من الملفات الأخرى كان لها نصيب واضح. فبعد أيام قليلة من تلك الزيارة، تم توقيع اتفاق نقل الحبوب من موانئ أوكرانيا، كما توصلت موسكو وطهران إلى اتفاقيات مهمة تتعلق بالتبادل التجاري والتخلي عن الدولار وتسليم طائرات دون طيار للقوات الروسية وغيرها من الاتفاقيات.
وحقيقة الأمر هي أن مقارنة ما حققه بوتين من زيارته لطهران وما حققته زيارة بايدن الأولى للشرق الأوسط قد تصب في صالح الرئيس الروسي، حيث عاد بايدن من المنطقة دون أن يحقق أياً من أهدافه، فلا زيادة للنفط ولا إدانة للهجوم الروسي ولا إعلان "الناتو العربي" ولا تطبيع سعودي – إسرائيلي. على الجانب الآخر، يبدو أن بوتين قد حقق ما جاء لإيران من أجله، وإن كان في حده الأدنى تحدي صورة "المعزول" على المستوى الدولي.
وأخيراً يأتي المؤشر الأبرز على التحول الدبلوماسي الروسي من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، والمقصود به هو ذلك العقاب الذي أنزلته موسكو بتل أبيب رداً على إدانة الهجوم على أوكرانيا.
فقبل أيام قليلة، قالت محكمة في موسكو إن وزارة العدل الروسية طلبت تصفية الفرع الروسي من الوكالة اليهودية، وهي منظمة غير ربحية تساعد على الهجرة إلى إسرائيل. وقال الموقع الإلكتروني لمحكمة باسماني الجزئية في موسكو إن الوزارة أقامت الدعوى يوم 15 يوليو/تموز، وإن نظرها سيبدأ يوم 28 يوليو/تموز. ولم يُذكر سبب لإقامة الدعوى، بحسب تقرير لرويترز.
تأتي هذه الخطوة ضد الوكالة اليهودية، التي تتخذ من القدس مقراً لها، كما أنها أكبر منظمة يهودية غير ربحية في العالم، عقب انتقاد إسرائيل لحرب روسيا في أوكرانيا. وكان يائير لابيد، وهو في منصب وزير خارجية إسرائيل، في أبريل/نيسان، قد اتهم روسيا بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
وقال نخمان شاي وزير شؤون الشتات رداً على التقارير التي تناولت إقامة الدعوى: "لن يتم احتجاز اليهود رهائن بسبب الحرب في أوكرانيا. محاولة عقاب الوكالة اليهودية بسبب موقف إسرائيل من الحرب مؤسفة وعدائية".
وذكرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية مطلع يوليو/تموز أن السلطات الروسية تشتبه بأن الوكالة اليهودية تجمع معلومات بطريق غير قانوني عن المواطنين الروس، في حين تربط هذا التحرك بالتوتر بين إسرائيل وروسيا بسبب أوكرانيا وسوريا. وهاجر نحو 7 آلاف يهودي من روسيا إلى إسرائيل في العام الماضي بحسب بيانات الحكومة الإسرائيلية.
ورغم أن إسرائيل لم ترسل مساعدات عسكرية لأوكرانيا، فقد أدانت الهجوم الروسي وتبنت وصف الغرب له بأنه "غزو"، وفي مايو/أيار تدهورت العلاقات القوية تقليدياً مع موسكو بعد أن قال لافروف إن الزعيم النازي أدولف هتلر له أصول يهودية، وهو ما أثار غضب إسرائيل. لكن يبدو أن الرد الروسي قد تم تأجيله في هذا التوقيت، الذي يبدو فيه أن موسكو قد انتهت من مرحلة الدفاع وانتقلت إلى الهجوم في مواجهة الغرب.