لا تزال قارة إفريقيا تمثل أرضاً خصبة للصراع بين القوى الكبرى، وبعد أن نجحت الصين من خلال الاستثمارات في تلوين القارة السمراء باللون الأصفر، سارع الغرب برصد 600 مليار دولار لإقناع الأفارقة بالتخلي عن أموال بكين، فما فرص نجاح ذلك التحرك؟
كان قادة مجموعة السبع، الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وألمانيا وفرنسا واليابان، قد أعلنوا عن رصد مبلغ الـ600 مليار دولار خلال قمتهم الأخيرة في ألمانيا، والهدف من تلك الأموال هو تمويل البنية التحتية المطلوبة في الدول النامية ومواجهة مشروع الحزام والطريق الصيني.
القصة إذاً واضحة ومعلنة ولا مجال للتخمينات: الأموال الغربية تهدف بالأساس إلى محاصرة النفوذ الصيني المتنامي في القارة السمراء، وهو ما يطرح عدة تساؤلات بشأن الاختلافات الأساسية بين الاستثمار الغربي والاستثمار الصيني.
شروط الاستثمارات الغربية لإفريقيا
رصد تقرير لموقع الإذاعة الألمانية دويتش فيله الاختلافات الرئيسية بين الغرب والصين فيما يتعلق بالاستثمار في القارة السمراء، انطلاقاً من دراسة نشرتها مؤسسة فريدريش ناومان الألمانية في يونيو/حزيران الماضي، استطلعت رأي مئات المسؤولين في صناديق الاستثمار الأوروبية في إفريقيا.
وأظهرت الدراسة أن هناك تقدماً واضحاً للشركات المملوكة للصين على منافساتها الأوروبية، فيما يتعلق بتنفيذ وإنجاز المشروعات، من حيث القرارات السريعة والتنفيذ السريع لمشاريعها في قارة إفريقيا.
الاستطلاع الذي أجرته المؤسسة المقربة من الحزب الديمقراطي الحر في ألمانيا شهد إجراء مقابلات في نيروبي مع 1600 شخص من صناع القرار الأفارقة ينتمون إلى 25 دولة من دول القارة السمراء، بما في ذلك كبار المديرين وموظفي المنظمات غير الحكومية وموظفي الدول.
وترسم خلاصة إجاباتهم صورة للقارة العجوز تسعى أولاً وقبل كل شيء إلى تصدير "القيم الأوروبية"، وفي المقابل تأتي القروض والحفارات والعمال من الصين دون تعقيدات.
وتم عرض نتائج الاستطلاع الإلكتروني الذي أجراه مركز الأبحاث الكيني في دراسة بعنوان: "صراع الأنظمة – التصورات الإفريقية عن مشاركة الاتحاد الأوروبي والصين".
وفي هذا السياق ربما يكون من اللافت أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد ركز على هذه النقطة خلال جولته الإفريقية الحالية، والتي بدأها من العاصمة المصرية الأحد 24 يوليو/تموز.
ففي مقابلة مع وسائل الإعلام الروسية الرسمية الأربعاء 20 يوليو/تموز، سلَّط لافروف الأضواء على دعم الاتحاد السوفييتي لإنهاء الاستعمار الغربي خلال حقبة الحرب الباردة، وسعي موسكو لاستعادة الروابط والعلاقات في إفريقيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، قائلاً إن من المقرر عقد قمة روسية إفريقية ثانية العام المقبل.
"لم نعطهم (الدول الإفريقية) دروساً قط، لقد ساعدناهم على الدوام في حل المشكلات بما يسمح لهم بأن يعيشوا في بلادهم بالطريقة التي يريدونها"، بحسب لافروف، الذي أوضح التناقض مع ما يقول إنها جهود أمريكية لدفع الدول في المنطقة بعيداً عن روسيا والصين.
وقال تيودور ميرفي، مدير برنامج إفريقيا بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، لرويترز إن روسيا وجدت فرصاً لاستعادة نفوذها في إفريقيا من خلال تقديم المساعدات الأمنية بشروط أقل من الغرب وغطاء سياسي من النقد الغربي.
ومن بين الدول التي أقامت معها روابط إثيوبيا، التي توترت علاقاتها مع الغرب بعد اندلاع الصراع في منطقة تيغراي الشمالية في عام 2020، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تعليق دعم الموازنة ودفع الولايات المتحدة إلى تعليق اتفاق تجاري يمنح إثيوبيا ميزات تفضيلية في الوصول إلى الأسواق.
استثمارات الصين تأتي بلا "دروس أخلاقية"
مدير مشروع شرق إفريقيا ومركز الشراكة العالمية في مؤسسة فريدريش ناومان، شتيفان شوت، قال لدويتش فيله إنه من اللافت للنظر أن الدراسة توصلت إلى أن الأوروبيين أفضل (من الصينيين) في معظم مؤشرات الأداء، خصوصاً في المعايير الاجتماعية وتوفير فرص العمل للسكان المحليين والمعايير البيئية وجودة المنتجات.
إذ إنه في قائمة تشمل 17 معياراً، جاء أداء الصينيين أفضل (من الأوروبيين) في أربعة مؤشرات فقط، وهي أنهم يتخذون القرارات وينفذون المشاريع بشكل أسرع، ويتدخلون بشكل أقل في الشؤون الداخلية، ولديهم تردد أقل بشأن الفساد.
ولا شك أنه في ظل التاريخ القريب للغرب واستعماره الممتد لدول القارة السمراء ونهب خيراتها سيكون من الصعب تقبل "الدروس الأخلاقية أو التدخل في الشؤون الداخلية" من جانب المستعمر القديم. وعلى الرغم من دول الاستعمار الأوروبي، وبخاصة فرنسا، قد سعت قبل إنهاء الاستعمار العسكري إلى ضمان استمرارية نفوذها من خلال دعم أشخاص وأطراف بعينها في أعلى مراتب السلطة في مستعمراتها القديمة، إلا أن الأمور بدأت تتغير بشكل واضح خلال العقد الماضي، مع وجود بدائل تتمثل في الصين وروسيا بالأساس.
وقال شوت لدويتش فيله: "من الواضح أن هذه هي أهم العوامل، ولا توجد طريقة أخرى لتفسير نجاح الصينيين في إفريقيا"، مضيفاً أنه يتعين على الأوروبيين استخلاص النتائج من ذلك، ومشيراً إلى أن هذا ينطبق أيضاً على سُمعتهم في فرض الإملاءات. ويؤكد شوت أن "السلوك الأبوي للأوروبيين يمثل مشكلة، والأفارقة يواجهون صعوبات في ذلك".
ومنذ أن أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة الحزام والطريق عام 2013، بات واضحاً أن بكين تولي القارة السمراء أهمية خاصة، ولا أدلّ على ذلك من أن أول قاعدة بحرية أقامتها الصين بعيداً عن حدودها كانت في جيبوتي على ساحل القرن الإفريقي، وهي القاعدة الصينية الوحيدة في أعالي البحار حتى الآن.
هل خسر الغرب الحرب قبل أن تبدأ إذاً؟
الرئيس الأمريكي جو بايدن وقادة دول مجموعة السبع الآخرون أعادوا إطلاق مشروع "الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار"، في تسمية جديدة لمشروع مشابه كانوا قد أعلنوا عنه سابقاً لكنه لم يرَ النور، وذلك خلال اجتماعهم السنوي الذي انعقد في قصر إلماو جنوب ألمانيا الشهر الماضي.
وقال بايدن إن الولايات المتحدة ستجمع 200 مليار دولار من المنح والأموال الاتحادية والاستثمارات الخاصة على مدى خمس سنوات لدعم المشروعات في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل لمساعدتها في معالجة تغير المناخ وكذلك تحسين الصحة العالمية والمساواة بين الجنسين والبنية التحتية الرقمية.
وأضاف بايدن: "أريد أن أكون واضحاً. هذه ليست معونة أو عمل خيري. إنه استثمار سيحقق عوائد للجميع"، مشيراً إلى أن ذلك سيسمح للبلدان "برؤية الفوائد الملموسة للشراكة مع الدول الديمقراطية".
بينما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إن أوروبا ستجمع 300 مليار يورو لهذه المبادرة خلال نفس الفترة لبناء بديل مستدام لمبادرة الحزام والطريق.
أما خطة مبادرة الحزام والطريق الصينية فهي عبارة عن مبادرات تنموية واستثمارية في أكثر من 100 دولة، مع مجموعة من المشاريع تتضمن السكك الحديدية والموانئ والطرق السريعة.
لكن بينما ينشغل قادة الغرب بوضع الكثير من اللوائح والشروط من أجل بناء مشاريع في إفريقيا، يرى خبراء أن الصين تتقدم في القارة السمراء وتنفذ مشاريعها بسرعة وتوسع نفوذها، فهل انتهت الحرب قبل أن تبدأ وخسر الغرب إفريقيا لصالح الصين وربما روسيا أيضاً؟
"لن ننصح أبداً بالتخلي عن القيم الأوروبية للديمقراطية وحقوق الإنسان والاستدامة. هذا من شأنه أن يضر بموقف أوروبا"، بحسب شوت، لكنه يشير إلى أنه يتعين على الدول الأوروبية أن تتساءل بشكل نقدي عما إذا كان ينبغي التعامل مع الظروف في إفريقيا وفقاً للمعايير الأوروبية، أو عما إذا كان هذا مبالغاً فيه.
ويضيف لدويتش فيله: "إذا كانت أفضل المعايير عالية لدرجة أن الصينيين يقومون بالأعمال دائماً، فإن المرء لم يفعل بذلك شيئاً جيداً للوضع الاجتماعي"، موضحاً أن الاتحاد الأوروبي يتحدث عن القيم، و"لكن عندما يصل طريق مكتمل إلى قرية، فهذه أيضاً قيمة".
وطرح شوت فكرة إنشاء بنك استثمار أوروبي لديه تفويض لاتخاذ قرارات سريعة، "حتى لا يتم أخذ آراء جميع الدول الـ 27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أولاً، فهذا يؤدي إلى البطء". ويؤكد شوت أيضاً على ضرورة التحقق من إقامة "علاقات على قدم المساواة" بالفعل مع الشركاء الأفارقة، وهي كلمات يحب السياسيون الأوروبيون التأكيد عليها. ويوضح: "المشاركون في الاستطلاع لا يرون ذلك، لكنهم ينظرون إلى إفريقيا على أنها متلقية للمساعدات".
الاقتصادي الكيني جيمس شيكواتي أكد على هذا النقطة، وقال لدويتش فيله إنها النقطة الحاسمة، "فالأوروبيون عالقون في نظرتهم القديمة لإفريقيا ويملون على الأفارقة ما يحتاجون إليه وهم محاصرون في نظام قيمهم الخاص، وهذا ما يعيقهم".
ويوضح شيكواتي أن أوروبا "تعطي أهمية للحوكمة"، والصينيون لـ"العتاد" والبنية التحتية الملموسة، ويتابع ضاحكاً: "(الصينيون) يسألون: أي شارع يجب أن يتم إنشاؤه ومن أين إلى أين. لكن الأوروبيين يتحققون أولاً من عدد الحشرات التي تمشي فوقه". لكن جوهر الاستعارة التي استخدمها واضح: "الأمور لا تسير بهذه الطريقة في إفريقيا"، على حد تعبيره.