تمر سريلانكا بأزمة اقتصادية خانقة، وغير مسبوقة، أثارت احتجاجات حاشدة، أجبرت رئيسها السابق غوتابايا راجاباكسا على الاستقالة بعد فراره من البلاد. ووسط هذا الاضطرابات، أصبحت سريلانكا، بموقعها الاستراتيجي على مفترق طرق الشحن المزدحم، ساحة للتنافس الجيوسياسي والمنافسة البحرية بين الهند والصين. فمن يظفر بمعركة النفوذ على هذا البلد الآسيوي المتهالك اقتصادياً؟
ما قصة النفوذ الهندي في سريلانكا؟
في خضم ديون هائلة وتضخم مرتفع للغاية، نفدت من سريلانكا الدولارات الأمريكية اللازمة للدفع مقابل واردات السلع الأساسية، وهو ما ترك المواطنين ينتظرون لساعات من أجل شراء الوقود، وتدافعت المدن الكبرى لإبقاء الأنوار مضاءة.
وخلال الاحتجاجات المستمرة المناهضة للحكومة في سريلانكا، هتف المتظاهرون بشعارات ضد الرئيس السابق راجاباكسا وعائلته، لكنهم رفعوا أيضاً هتافات ضد الهند، مثل: "لا تبيعوا البلاد للهند والولايات المتحدة"؛ "سريلانكا ليست ولاية هندية أخرى"؛ و"الهند: لا تستغلي وضع سريلانكا"، حيث انتشرت هذه الشعارات على نطاق واسع خلال المظاهرات.
ولكن بينما لا تزال مثل هذه المشاعر المعادية للهند قائمة، فإن الطريقة التي ينظر بها السريلانكيون إلى الهند قد تتغير، بينما ترزح البلاد تحت وطأة أزمة خانقة من الفوضى السياسية والاقتصادية.
يقول تقرير لشبكة BBC البريطانية إنه على مر السنين، لطالما نظرت بعض أطراف النظام السياسي في سريلانكا بارتياب إلى وجود جارتها الأكبر والأقوى، الهند. وقد خرج العديد من الاحتجاجات المناهضة للهند في سريلانكا من قبل الغالبية السنهالية القوميين والأحزاب اليسارية.
لكن عندما وجدت سريلانكا نفسها فجأة في فوضى اقتصادية عارمة قبل بضعة أشهر، لجأت إلى الهند واستجابت حكومة حزب بهاراتيا جاناتا في دلهي بمساعدة مالية. ولم تكن هذه هي المرة الأولى، إذ لم تساعد أي دولة أو مؤسسة أخرى سريلانكا بقدر مساعدة الهند لها في العام الماضي، بحسب BBC.
يقول الخبراء إن الحاجة المالية الماسة لسريلانكا، ساعدت دلهي بصورة أو بأخرى على استعادة نفوذها في تلك الدولة التي يبلغ عدد سكانها 22 مليون نسمة، بعد أن حققت الصين تقدماً من خلال تقديم القروض وأشكال أخرى من المساعدات المالية لمشاريع البنى التحتية في السنوات الـ15 الماضية.
وقال ساجيث بريماداسا، زعيم المعارضة الرئيسي في سريلانكا، لـ"بي بي سي": "لقد لعبت الهند دوراً حاسماً للغاية، خاصة خلال هذا المنعطف الحرج الذي تشهده البلاد. لقد مررنا بأزمة هائلة كدولة، وبادرت الهند ودعمتنا".
استثمارات ضخمة في البنية التحتية.. الصين تنافس الهند على النفوذ في سريلانكا
يقول تقرير لشبكة دويتشه فيله الألمانية، إن بين الهند وسريلانكا روابط ثقافية ودينية واقتصادية وثيقة تمثل علاقة قديمة عمرها قرون عديدة. وكانت دلهي شريكاً تجارياً رئيسياً لكولومبو، التي تستورد الكثير من المنتجات، وخاصة المواد الغذائية، من الهند. كما تشترك أقلية التاميل التي تعيش على الجزيرة في روابط ثقافية وعرقية وثيقة مع سكان ولاية تاميل نادو جنوبي الهند.
لكن كولومبو ابتعدت عن دائرة النفوذ الهندي ابتداء من عام 2005، بعد انتخاب ماهيندا راجاباكسا رئيساً. وقد تم تعزيز التحول التدريجي خلال فترة ولايته الثانية، التي شهدت عدة اتفاقيات مع الصين بشأن مشاريع البنى التحتية، مثل ميناء في بلدة هامبانتوتا الجنوبية.
وعندما شرعت سريلانكا في حملة ضخمة للبنية التحتية بعد نهاية حرب أهلية استمرت عقوداً في عام 2009، ضخت الصين الأموال في البلاد ، بتمويل الطرق والموانئ والمطارات على سبيل المثال، حيث ظهرت سريلانكا كنقطة حيوية في طريق الحرير البحري، في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية الواعدة.
وتظهر الأرقام أن الصين أقرضت أكثر من 5 مليارات دولار لسريلانكا حتى الآن، أي حوالي 10% من إجمالي الدين الخارجي لسريلانكا. لكن على الرغم من سعي سريلانكا للحصول على قروض إضافية لمعالجة مشاكلها الحالية – النقص الحاد في الوقود وارتفاع أسعار المواد الغذائية – لم تلتزم بكين بعد بأي قروض جديدة.
من ناحية أخرى، قدمت الهند حوالي 3.5 مليار دولار على شكل ائتمان ومقايضة للعملة. وكجزء من خط الائتمان، أرسلت عدة شحنات من الوقود والأغذية والأسمدة التي اشتدت الحاجة إليها في سريلانكا في الأشهر الأخيرة.
ويعزو الخبراء التحول في النظرة العامة لدى السريلانكيين إلى المساعدة المالية الهندية المقدمة لبلادهم، والتي تقدَّر بمليارات الدولارات. وتقول ميلاني جوناتيلاكي، الناشطة الاجتماعية، إنها ممتنة لشعب الهند على "إظهاره التضامن والدعم المذهلين الذي جاء في الوقت المناسب".
اتهامات للصين بإيقاع سريلانكا في دبلوماسية "فخ الديون"
تسببت علاقات الصين الوثيقة مع سريلانكا في زعزعة الاستقرار في الهند، وهي أقرب شريك اقتصادي وسياسي لكولومبو. ولكن لم يكن كل هذا التعاون قابلاً للاستمرار من الناحية المالية، لا سيما المشاريع الضخمة الممولة بالديون مثل ميناء هامبانتوتا ومطار ماتالا راجاباكسا الدولي.
في عام 2017، اضطرت كولومبو إلى تسليم ميناء هامبانتوتا وآلاف الأفدنة من الأراضي المحيطة بها إلى بكين لمدة 99 عاماً، مما أدى إلى اتهام الصين بإيقاع سريلانكا في دبلوماسية "فخ الديون" لكسب النفوذ والسيطرة على الأصول الرئيسية في البلاد.
ويقول باحثون اقتصاديون وأمنيون من سريلانكا إن في العام 2021، اكتسبت الصين بصمة كبيرة في السياسة الخارجية لسريلانكا من خلال دبلوماسية البنية التحتية، وهو ما أثار مخاوف بشأن المشروعات الصينية بسبب الغموض ونقص الشفافية وأسعار الفائدة المرتفعة للقروض الصينية، حيث إن الصينيين عرضوا قروضاً على سريلانكا بمعدلات أعلى بكثير من المقرضين الآخرين.
وبحسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية، فقد موَّلت القروض الصينية على مدار العقد الماضي مجموعة متنوعة من المشروعات السريلانكية، بما في ذلك طرق، ومحطات طاقة، ووصلات سكك حديدية، الموانئ، ومطار دولي، وملعب للكريكت. ساعد بعضها، مثل محطة طاقة لاكفيجايا الواقعة على بُعد نحو 80 ميلاً (129 كم تقريباً) شمالي كولومبو، في توفير الكهرباء للمرة الأولى في تاريخ سريلانكا لبعضٍ من أكثر المناطق الريفية تخلفاً في البلاد. لكنَّ الكثير من المشروعات الأخرى لم تكن ناجحة بالقدر الذي كانت الحكومة تأمله.
إذ استضاف ملعب الكريكت عدداً قليلاً من الفعاليات الدولية منذ إنشائه من أجل بطولة كأس العالم للكريكت عام 2011. ويحقق المطار، الذي بُني لاستيعاب مليون زائر دولي، خسارة. ولم تهبط هناك أي رحلات تجارية في أبريل/نيسان ومايو/أيار الماضيين.
لكن الهند أيضاً لا تعطي أموالاً مجاناً.. هذا ما تريده من سريلانكا
لكن في الوقت نفسه، يقول خبراء إن قرار الهند بتقديم المساعدة لسريلانكا له أيضا أهمية استراتيجية، فهو قرار يمنح دلهي نفوذاً على جارتها. فبعد الإعلان عن خط الائتمان الأولي من قبل الهند، اتفقت الدولتان في يناير/كانون الثاني 2022، على التشغيل المشترك لـ61 خزان نفط عملاقاً تم بناؤها خلال الحرب العالمية الثانية في شمال شرق ميناء ترينكومالي السريلانكي، لأكثر من 30 عاماً، كانت الهند تحاول الوصول إلى المنشأة التي تعود إلى الحقبة البريطانية والتي ستمكنها من تخزين احتياطيات النفط الاستراتيجية.
وفي سبتمبر/أيلول، مُنحت مجموعة Adani الهندية حصة الأغلبية في عقد لبناء وتشغيل محطة الحاويات الغربية في ميناء كولومبو الاستراتيجي في سريلانكا.
وقالت هاريني أماراسوريا، عضو البرلمان عن تحالف القوى الشعبية الوطنية اليسارية لشبكة بي بي سي: "لا أعتقد أن أي دولة ستساعدنا دون أن ترغب في شيء في المقابل، والهند بطبيعة الحال ستبحث عن مصالحها".
وترى أماراسوريا أن "سريلانكا تحتاج إلى اتخاذ قرارات تخدم مصالحها الأساسية، ويبقى أن نرى ما إذا كان سيتعين على البلاد التخلي عن السيطرة على مواقعها الاقتصادية والاستراتيجية.
الفوضى فرصة الهند لاستعادة النفوذ الذي سلبته منها الصين
يقول خبراء إن مسألة أقليات التاميل في سريلانكا، ومطالبتهم بحقوقهم ستستمر أيضاً في التأثير على المفاوضات الدبلوماسية مع الهند رغم قدمها. فقد توترت العلاقات الثنائية بعد أن لجأ العديد من جماعات التاميل المتمردة السريلانكية إلى الهند أكثر من مرة خلال العقود الماضية، واتهمت كولومبو دلهي بتقديم الأسلحة والتدريب للمتشددين، الذين كانوا يقاتلون من أجل وطن منفصل للتاميل في سريلانكا.
وقد انتهت الحرب الأهلية بهزيمة المتمردين في مايو/أيار 2009، ووقفت الهند إلى جانب الحكومة السريلانكية خلال الحرب.
ومع ذلك، فإن سريلانكا لم تنفذ بالكامل اتفاقية السلام بين الهند وسريلانكا لعام 1987، والتي وعدت بقوانين جديدة لنقل السلطات إلى جميع المقاطعات، بما في ذلك المنطقة، حيث كان التاميل يشكلون أغلبية.
تقول أماراسوريا: "في الماضي، كان هناك دائماً قلق من أي تدخل مباشر من قبل الهند من الناحية السياسية". لكن الآن من المتوقع أن تطغى الأزمة الاقتصادية الحالية على المخاوف السياسية بين البلدين.
وبالفعل، قد لجأ العديد من السريلانكيين، ولا سيما من الشمال الذي يسيطر عليه التاميل، إلى ولاية تاميل نادو الهندية بسبب الأزمة الاقتصادية، ويمكن أن تزداد أعدادهم إذا ساء الوضع الاقتصادي أكثر في البلاد.
لطالما تطلعت الأقليات التاميلية في سريلانكا إلى الهند عندما واجهت مشاكل وأرادت حقوقا متساوية. لكن الجدير ذكره أن العديد من أفراد المجتمع السنهالي، وعلى الرغم من الحساسيات القديمة، باتوا يقدرون أيضاً مساعدة الهند في الأشهر الأخيرة.
يقول محمد سفيان الباحث في سريلانكا للشبكة البريطانية: "لا تزال مؤسسة النفط الهندية تقدم بعض الإمدادات التي تجعلنا نواصل العمل، لولا الهند، لكانت محطات الوقود في جميع أنحاء البلاد قد أغلقت بالكامل".
ويرى خبراء أن الهند تعتبر ما يحصل الآن في سريلانكا فرصة لعودة تعزيز نفوذها في البلاد على حساب الصين، حيث تحركت نيودلهي سريعاً لمساعدة سريلانكا بإمدادات الوقود والأدوية والقروض.
يقول شاو شو ليو، الباحث في المعهد الوطني للاستراتيجية الدولية في الصين، إنه من الواضح أن هناك حدوداً لسخاء الهند في سريلانكا بسبب احتياجاتها الخاصة، ومع ذلك، نظراً للأهمية التي توليها نيودلهي لجارتها الصغيرة ومخاوفها من النفوذ الصيني في البلاد، فهي لا تزال تتصرف بحذر".
ووقعت نيودلهي في مارس/آذار الماضي اتفاقاً لإقامة مشروعات طاقة هجينة في جزر في شمال سريلانكا بعد أن قالت الصين في ديسمبر/كانون الأول إنها علقت خططها لبناء مصانع في ثلاث جزر لأسباب أمنية. في نفس الشهر، ألغت كولومبو أيضاً اتفاقية مع شركة صينية لبناء مزرعة رياح بقيمة 12 مليون دولار في البلاد، وعرضت المشروع بدلاً من ذلك على منافس هندي.
لكن على الرغم من أن الهند تبدو كأنها تستعيد الأرض التي خسرتها، فإن المشاعر المعادية للهند لا تزال قائمة بين قطاعات من السكان السريلانكيين، نظراً للشكوك والمخاوف بشأن الهيمنة الهندية.