نكاية سياسية أم لتحقيق العدالة؟.. أبرز الأسباب التي لأجلها يحقق قضاء تونس مع الغنوشي

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/20 الساعة 09:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/20 الساعة 09:37 بتوقيت غرينتش
راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية - رويترز

بعد 20 سنة من المنفى في بريطانيا بسبب معارضته لنظام حكم زين العابدين بن علي، و10 سنوات من ثورة الحرية والكرامة والحكم الديمقراطي، أحيل بتاريخ 19 يوليو الجاري رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان المنحل، راشد الغنوشي إلى القضاء التونسي بتهم تتعلق بـ"الإرهاب وتبييض الأموال"، والتي نفاها زعيم الحركة تماماً، معتبراً أنها تهم كيدية ذات خلفيات سياسية.

وكان في استقباله أمام المقر القضائي لمكافحة الإرهاب العشرات من أنصاره الذين رفعوا شعارات تطالب باستقلالية القضاء وتندد بـ"التهم الكيدية" الموجهة لزعيم الحركة.

كما كان حاضراً في المحاكمة العديد من الشخصيات الوطنية والسياسيين والحقوقيين، على غرار زعيم جبهة الخلاص الوطني أحمد نجيب الشابي، والقيادي في جماعة مواطنون ضد الانقلاب جوهر بن مبارك، وعضو حملة مقاطعة الدستور رضا بلحاج، والقيادي في حركة النهضة نور الدين البحيري وغيرهم.

وأخلي سبيل الغنوشي في ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء بعد أن كان غالبية المتابعين لملفه يتوقعون أن يتم إيقافه على خلفية القضية المحال من أجلها.

رئيس حركة "النهضة" التونسية، راشد الغنوشي – Getty Images

وتتزامن هذه المحاكمة مع التحضيرات التي تقوم بها السلطة السياسية في تونس لإنجاز الاستفتاء على الدستور الجديد الذي أعدّه الرئيس التونسي قيس سعيد تحت إشراف لجنة صياغة استشارية اعتبر أغلب المتابعين للشأن التونسي أن دورها  "شكلي"، وأن الدستور أعدّ بشكل مسبق من قبل الرئيس.

ولم تكن محاكمة الغنوشي معزولة عن السياق السياسي العام في البلاد ولا عن محاكمات أخرى سبقتها، آخرها قضية رئيس الحكومة التونسية الأسبق، حمادي الجبالي، التي أوقف أربعة أيام بتهم تتعلق كذلك بـ"الإرهاب" و"تبييض الأموال" عن طريق جمعية "نماء" الخيرية.

فما طبيعة القضية التي يُحاكم من أجلها الغنوشي؟ وما هي خلفية المحاكمة والتهم الموجهة له؟ وهل السياق القضائي ملائم لمحاكمة عادلة؟

تهم ثقيلة وخطيرة

وجّهت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بمحافظة أريانة (شمال غرب تونس العاصمة) العديد من التهم الكبيرة بعضها له جوانب أمنية والبعض الآخر يتعلق بجرائم اقتصادية ومالية، وهنالك تهم تتعلق بأمن الدولة الخارجي والتخابر للأجنبي، كتلك التي وجهت للرئيس المصري الراحل محمد مرسي أثناء محاكمته.

وبحسب صحيفة الاتهام الموجهة لرئيس البرلمان المنحل، هنالك تهم تتعلق بتبييض الأموال عن طريق "جمعية نماء" الخيرية، وتهم مرتبطة بالإرهاب من خلال الانتماء لما يسمى "الجهاز السري" لحركة النهضة.

وبعدما قررت النيابة العامة فتح تحقيق ضد مسؤولين سابقين وحاليين من جمعية "نماء تونس" الخيرية من أجل جرائم تبييض وغسيل الأموال والاشتباه في تمويل أشخاص أو تنظيمات مرتبطة بالإرهاب سواء داخل التراب التونسي أو خارجه، تم استدعاء الغنوشي من قبل قاضي التحقيق.

وكانت لجنة التحاليل المالية قد أذنت للبنوك التونسية في وقت سابق بتجميد أموال الغنوشي وابنه معاذ وصهره رفيق عبد السلام، والأمين العام السابق للحركة حمادي الجبالي وابنتيه.

تونس راشد الغنوشي قيس سعيد
رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي/رويترز

وشرح القيادي السابق في حركة النهضة ومحامي الغنوشي، سمير ديلو، للإعلام التهم الموجهة إلى زعيم الحركة والمتمثلة في "الانضمام عمداً سواء بتراب الجمهورية أو خارجه لتنظيم وفاق إرهابي له علاقة بالجرائم الإرهابية، وتكوين تنظيم وفاق إرهابي له علاقة بالجرائم الإرهابية، واستعمال تراب الجمهورية وتراب دولة أجنبية لاستهداف وترهيب شخص أو مجموعة من الأشخاص بقصد ارتكاب جرائم إرهابية داخل تراب الجمهورية وخارجه".

ومن بين التهم الأخرى، حسب ديلو: "وضع كفاءات وخبرات على ذمة تنظيم وفاق إرهابي، وعلى ذمة أشخاص لهم علاقة بجرائم إرهابية، وإفشاء وتوفير ونشر معلومات مباشرة بأي وسيلة كانت لفائدة تنظيم وفاق إرهابي، ولأشخاص  لهم علاقة بجرائم إرهابية، قصد المساعدة على ارتكابها والتستر عليها، والتبرع بالأموال بطريقة مباشرة وغير مباشرة وجمعها واستخدامها من قبل أشخاص لهم علاقة بجرائم إرهابية، وتهم أخرى.

وقال عضو هيئة الدفاع عن جمعية "نماء تونس"، مختار الجماعي، إن الجمعية "تنموية وليست خيرية، وأهدافها العمل على دعم الجانب الاقتصاديّ والماليّ في البلاد"، وأكد أنها "تلتزم بشفافية على مستوى المالية، وكل نشاطاتها معلنة".

جاء ذلك في تصريحات أدلى بها المحامي، الجماعي، نقلتها وكالة الأنباء الحكومية التونسية (وات)، مساء الخميس الماضي

وفي 12 يوليو/تموز نفت هيئة الدفاع أن تكون الجمعية قد تلقّت أموالاً من الخارج، واعتبرت أن القضية لها "أهداف سياسية من قبل سلطة الانقلاب".

كما اعتبر سمير ديلو أنه "بناءً على المعطيات المتوفرة في ملف القضية، لا يوجد أي مبرر لإيقافه على ذمة التحقيق، وكذلك الغنوشي هو متهم، والمتهم يتمتع بقرينة البراءة".

أهداف سياسية وراء المحاكمة؟

إلى ذلك، اعتبرت حركة النهضة أن محاكمة الغنوشي تأتي في سياق تصفية حسابات سياسية مع رئيس الجمهورية قيس سعيد، خصوصاً بعد اشتداد الخلافات بين الطرفين إثر حل البرلمان وإقصاء رئيسه من المشاركة في الحوار الوطني ولجنة صياغة الدستور.

ويرى ملاحظون أن تزامن محاكمة الغنوشي وحمادي الجبالي وقيادات أخرى في حركة النهضة مع الاستفتاء على الدستور الجديد المقرر في 25 يوليو/تموز له دلالات رمزية وسياسية. 

وجاء في بيان لمجلس شورى حركة النهضة أن "استهداف رئيس الحركة راشد الغنوشي في حريته هو استهداف سياسي مفضوح للحركة ومناضليها وللتجربة الديمقراطية في تونس، ومحاولة للتغطية على الفشل المحتوم الذي ينتظر استفتاء 25 يوليو"، محمّلاً "مسؤولية ما قد يتعرض له رئيس الحركة لسلطة الانقلاب التي تستهدفه وتسعى لتوظيف القضاء في ذلك. 

تونس دستور تونس قيس سعيد
الرئيس التونسي قيس سعيد/رويترز

وقال عضو هيئة الدفاع عن جمعية نماء تونس، مختار الجماعي، إن قضية الجمعية تزامنت مع الظرف السياسي الذي تعيشه البلاد منذ 25 تموز/يوليو 2021، للتغطية على ما وصفه بالفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للسلطة، مضيفاً أن للقضية دوافع سياسية، إذ إن هناك إرادة سياسية لضرب طرف سياسي معين (حركة النهضة).

من جهتها، أكدت المحامية إيمان قزارة، عضو هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي، في تصريحات لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (وكالة رسمية)، أن القضاء التونسي وجه تهمة الإرهاب رسمياً إلى رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي و32 شخصية أخرى، موضحة أن الجرائم المرتكبة من قبلهم تتعلق بالانتماء إلى تنظيم إرهابي وغسيل الأموال.

كما صدر عن قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بمدينة أريانة قرار بمنع سفر راشد الغنوشي، على خلفية ملف الجهاز السري لحزبه والقضية التي تقدمت بها هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي في وقوف الجهاز السري وراء عمليات الاغتيالات السياسية.

هذا وعبرت حركة النهضة عن "رفضها رفضاً قاطعاً المحاكمات التي يتعرض لها نواب الشعب والصحفيون والمدونون والنشطاء"، معتبرة أن "ما تقوم به سلطة الانقلاب هو تصفية حسابات سياسية ضد المعارضين والرافضين للانقلاب من أجل إلهاء الرأي العام وصرفه عن قضاياه الحقيقية وعلى رأسها الفقر والبطالة وغلاء الأسعار وفقدان المواد الأساسية من السوق فضلاً عن عزل البلاد عن محيطها".

وقال الغنوشي عند دفاعه عن نفسه خلال محاكمته: "منذ انقلاب 25 يوليو وهم يتربصون بي ويعملون على تشويهي وعائلتي وتلفيق ‏التهم الباطلة لي، تُهَمٌ كيدية لا أساس لها من الصحة في الحقيقة والواقع، وتندرج هذه ‏التهم اليوم في إطار تمرير مشروع دستور يكرّس الانقلاب والاستبداد والحكم الفردي ‏المطلق وضرب قيم الجمهورية ومكاسبها ومزيد الزج بالبلاد في أزمة شاملة وعميقة ‏وعزلة في العالم". ‏

 وفي 28 يونيو، أعلنت الناطقة باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، حنان قدّاس، وجود شبهة قوية متعلقة بتبييض الأموال في ملف جمعية نماء، وقالت إن الجمعية وأعضاءها تحصّلوا على تمويلات تقارب 20 مليون دينار بين العامين 2011 و2021.

إلا أن سمير ديلو، عضو هيئة الدفاع عن الغنوشي، نفى أية علاقة لموكله بالجمعية لا بالمشاركة في نشاطها ولا بعضويتها ولا بالتبرع لها أو بربط علاقات مع الناشطين فيها.

وقال مسؤول بلجنة التحاليل المالية في تونس الثلاثاء لرويترز إن قاضي التحقيق بقطب مكافحة الإرهاب أذن بتجميد الحسابات المصرفية والأرصدة المالية لعشرة أشخاص من بينهم راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة وأفراد من عائلته.

من جانبه، رأى المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي أن "الشروع في محاكمة الغنوشي ومن ورائه حركة النهضة من شأنه أن يزيد في تأزيم الوضع السياسي في البلاد، ويدفع الأوضاع الداخلية نحو الصدام والتوتر والعودة إلى السياسات الأمنية والعصا الغليظة، وكأن تونس محكوم عليها أن تبقى مثل غيرها من دول المنطقة؛ ممنوعة من الديمقراطية".

وأشار الجورشي إلى أنه من السابق لأوانه الحكم بمدى جدية التهم والحجج التي ستعتمد في هذا الملف أو في بقية الملفات القادمة، لكن المؤكد أن التخلص من حركة النهضة لن يكون بالأمر الهيّن، وأن تحقيق ذلك ستكون كلفته عالية.

توظيف القضاء

تأتي محاكمة رئيس حركة النهضة وقيادات أخرى من الحركة في الوقت الذي يشهد فيه القضاء التونسي العديد من المشاكل والمعضلات، لعل أبرزها حلّ الرئيس سعيّد للمجلس الأعلى للقضاء (هيئة دستورية منصوص عليها في دستور 2014) وتعويضه بمجلس أعضاؤه معينون من قبل الرئيس، وهو ما يرى فيه خبراء ضرباً لاستقلالية قطاع القضاء بما أنه أصبح تحت تصرف السلطة التنفيذية.

لكن القطرة التي أفاضت الكأس، بحسب متابعين للشأن التونسي، هي عزل الرئيس سعيّد لــ57 قاضياً بلا محاكمة وعدم تمكينهم من حقهم في الدفاع عن أنفسهم أمام مجلس تأديبي.  

ويرى خصوم الرئيس أن إحكام سيطرته على القضاء وتحويله لقضاء تابع ينفذ أوامر السلطة التنفيذية ويعمل بأوامر رئاسية بدل القانون من شأنه أن يؤثر على القضايا والمحاكمات ويتم توظيفه من قبل الرئاسة لتحقيق أغراض سياسية أو اقتصادية، كما هو الحال مع قضايا الغنوشي وقيادات النهضة المتهمين بـ"الإرهاب" و"تبييض الأموال".

وقال الغنوشي في مقابلة مع رويترز: "الأنظمة الديكتاتورية تسعى لاستخدام القضاء وتوظيف الأجهزة الأمنية كما فعل بن علي ضد المعارضة".

من جانبه أكد زعيم جبهة الخلاص الوطني، أحمد نجيب الشابي، في تصريحات للصحافيين، أنه لا يوجد دليل على الاتهامات الموجهة ضد رئيس البرلمان المنحل راشد الغنوشي.

وأشار الشابي إلى أن هذه القضايا سياسية بحتة وتهدف إلى قمع منتقدي رئيس الجمهورية قيس سعيد. وأضاف: "كلنا سواسية أمام العدالة، ولكن القضاء العادل تحترم الحقوق والحريات ولا تخدم أي طرف لا في السلطة ولا قوى الضغط".

قضاة تونس
الرئيس التونسي قيس سعيد / الرئاسة التونسية على فيسبوك

كما اعتبر أن تجميد حسابات وأرصدة راشد الغنوشي "دليل على أن القضاء يعمل تحت ضغط السياسة، ويوجد تسرع في اتخاذها لأنه لا يوجد أدلة ضد الغنوشي".

توقعات قوية انتشرت في الأيام القليلة الماضية بإيقاف رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان المنحل راشد الغنوشي عند مثوله أمام القضاء، إلا أن الأخير اكتفى بنتائج التحقيق معه وأخلى سبيله.

ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها التحقيق مع قياديي حركة النهضة الذين تم إيقاف أغلبهم على ذمة التحقيق، لكن هل ستكون الأخيرة؟ هل أثبت القضاء فعلاً، بإخلاء سبيل الغنوشي أنه -عكس ما يروج عنه- لم يخضع فعلياً أو على الأقل بشكل كامل لرئيس الدولة وأن معركة الاستقلالية ما زالت قائمة وتثمر؟ أم أن ما حدث هو مجرد مناورة ليمر الاستفتاء على الدستور بهدوء خصوصاً لتأثير الغنوشي خارجياً ووزنه داخلياً ثم استئناف الملاحقات القضائية وربما الاعتقالات لاحقاً؟

تحميل المزيد