بعد أعوام قليلة من تحول أمريكا إلى مصدر صاف للخام، عاد النفط إلى واجهة الأحداث وأصبح الشغل الشاغل لإدارة جو بايدن إقناع السعودية والإمارات بزيادة الإنتاج، فكيف يؤثر ذلك التحول على نووي إيران؟
السؤال طرحته صحيفة Haaretz الإسرائيلية في تحليل لها توقع أن تؤدي عودة الولايات المتحدة للاعتماد على النفط العربي إلى تراجع أهمية التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، الذي تعتبره تل أبيب تهديداً لها، من جانب الإدارة الأمريكية الحالية. أعد التحليل تسي برئيل، محلل شؤون الشرق الأوسط بالصحيفة الإسرائيلية.
وبحسب تحليل الصحيفة العبرية، فإنه عندما هبطت طائرة جو بايدن في السعودية، كانت المسألة الرئيسية في عقول وسائل الإعلام هي ما إن كان الرئيس الأمريكي سيكتفي بمصافحة القبضة مع محمد بن سلمان أم سيعانق ولي العهد فعلاً، الذي تعتبره وكالات الاستخبارات الأمريكية مسؤولاً بشكل مباشر عن قتل الصحفي (والمقيم بالولايات المتحدة) جمال خاشقجي.
تأكَّد بايدن، الذي زيَّن زيارته بعذر سامٍ، من تكرار القول بأنَّ النفط السعودي لن يكون في قلب مباحثاته مع قادة المملكة أو مع القادة العرب الذين اجتمعوا في جدة لحضور لقاء القمة، وتمثَّل الهدف المعلن للاجتماع في إنشاء آلية لمواجهة التهديدات في المنطقة، أي إيران، كما تقول الصحيفة الإسرائيلية.
النفط والسياسات الأمريكية
لكن لن يكون من قبيل المقامرة الكبيرة أن نفترض أنَّه إذا لم يضطر الأمريكيون لدفع أكثر من 5 دولارات مقابل جالون البنزين بسبب الحرب في أوكرانيا، ما كان بايدن ليصبح في عجلة من أمره للسفر إلى بلدٍ وصفه بـ"المنبوذ" خلال حملته الانتخابية.
أعلنت الولايات المتحدة قبل ثلاث سنوات أنَّها قد أصبحت مُصدِّراً صافياً للمنتجات البترولية، لكنَّ هذا لم يمنع الخبراء من ذكر أنَّ استقلالية أمريكا عن النفط العربي سمحت لدونالد ترامب بفك الارتباط مع الشرق الأوسط.
وكتب أحد المحللين أنَّ واشنطن حرَّرت نفسها من القبضة السعودية، وعزا خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط، والاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، والاعتراف بضم إسرائيل للجولان، إلى حقيقة أنَّ ترامب لم يعد يخشى من فرض حظر نفطي عربي.
لكنَّ هذا الاستقلال في مجال الطاقة كان له ثمن أيضاً. ففي عام 2020، تصارعت السعودية وروسيا على أسعار النفط. فزادت روسيا إنتاجها وبالتالي خفَّضت أسعار النفط العالمية، في محاولة للإضرار بإمكانية إنتاج الوقود من الصخر الزيتي، الذي عزَّز استقلالية أمريكا في مجال الطاقة. سرعان ما حذا السعوديون حذوهم للحفاظ على زبائنهم القدامى، وتمتَّع العالم بأسعار وقود زهيدة. فطالبت صناعة النفط الأمريكية ترامب بوقف نزيف الأرباح.
التقط ترامب، أقرب صديق أمريكي حظي به محمد بن سلمان على الإطلاق، في 2 أبريل/نيسان 2020، الهاتف ومنح ولي العهد إنذاراً: قلِّل إنتاج النفط وإلا لن أتمكَّن من منع الكونغرس من تمرير قوانين تجبرني على سحب القوات من المملكة. وبعد أيام قليلة، خفَّض السعوديون الإنتاج، وكذلك فعل الروس، بحسب تحليل هآرتس.
وبعد عامين، لا يزال بإمكان الأمريكيين الاستمتاع باستقلالهم في مجال الطاقة، لكنَّهم تعلَّموا أنَّ هذا لا يسمح لهم بإدارة السياسة الدولية بما يليق بقوة عظمى. إذ تترك العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا، وهي واحدة ضمن أولويتين في سياسة بايدن الخارجية، أثراً على كل أمريكي وأوروبي.
بايدن والموقف من السعودية
وتحتاج واشنطن مجدداً النفط والغاز العربيين، وقد تكون المملكة "المنبوذة"، التي لم يكن حاكمها الفعلي قد أجرى محادثة مباشرة مع بايدن حتى الآن بعد، هي قارب النجاة لإدارته. وهذه المرة، لا يعطي البيت الأبيض السعوديين إنذاراً.
حقوق الإنسان، قتل خاشقجي، التحول الديمقراطي، كل هذا قد دُسَّ عميقاً في الدرج. فهناك حاجة إلى تهدئة الأوروبيين والأمريكيين، إذ سيذهب الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع في انتخابات التجديد النصفي خلال 4 أشهر.
لا يتمثَّل السؤال فيما إن كان السعوديون يريدون المساعدة، بل إن كان يمكنهم المساعدة. السعودية ليست مُصدِّرة للغاز، وحجم البترول الذي يمكنها إضافته إلى السوق العالمية أمر محل نقاش. إذ تدَّعي شركة أرامكو السعودية أنَّ بإمكانها إنتاج أكثر من 12 مليون برميل يومياً، أي بزيادة نحو مليون ونصف عن إنتاجها الحالي.
يملك السعوديون احتياطيات كبيرة من النفط المُخزَّن في هولندا ومصر واليابان، وفي خمس مواقع سرية داخل المملكة أيضاً، وهذه الكمية متاحة لثلاثة أشهر تقريباً. وتساعد أيضاً حين يتعين على السعوديين وقف الإنتاج بسبب الصيانة، واستُخدِمَت هذه الاحتياطيات الاستراتيجية كذلك حين هاجم المتمردون الحوثيون اليمنيون منشآت أرامكو.
لكن حتى لو لم يكن بإمكان أرامكو استبدال النفط الروسي في أوروبا على الفور، فإنَّ مجرد إعلان زيادة الإنتاج قد يُهدِّئ حالة الذعر بخصوص الأسعار. ويجدر تذكُّر أنَّ الرئيس الأمريكي، في ظروف أخرى، كان يمكن أن تكفيه مكالمة هاتفية وليس زيارة.
بالنسبة لبايدن، سيُنظَر إلى التزام السعودية بزيادة الإنتاج باعتباره إنجازاً مهماً، وليس فقط بسبب النفط. فإعلان كهذا يعني جعل السعوديين يتعاونون مع الولايات المتحدة وأوروبا ضد روسيا. كانت هذه حقيقة واضحة وحجر زاوية في التحالف القائم منذ عقود بين واشنطن والرياض قبل عامين تقريباً.
لكنَّ الخلاف بين بايدن والأمير محمد بن سلمان أدَّى إلى التعاون الاقتصادي بين السعودية وروسيا. وأدَّت خطط السعودية لشراء أسلحة روسية ورفض الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى تقارب البلدان أكثر من أي وقتٍ مضى.
لا يعني هذا أنَّ السعودية تعتزم استبدال تحالفها مع واشنطن بآخر مع موسكو، بل إنَّ العلاقات الأمريكية السعودية قد "أُعِيدَ ضبطها" على حد قول بايدن. لكن يتضح أن الضبط قد يرتد على الضابط.
ماذا يعني كل ذلك بالنسبة للتعامل مع نووي إيران؟
في غضون ذلك، تظهر تصدُّعات في وجهة النظر التي ترى أنَّ إيران تهديد عالمي فوري. فلربما أعلن بايدن أنَّ طهران لن تحصل على أسلحة نووية في عهده، لكنَّ الخلاف بين الولايات المتحدة وإسرائيل يظل حول متى يمكن تعريف إيران على أنَّها دولة عتبة نووية. هل يكون ذلك حين تُخصِّب إيران اليورانيوم بنسبة 90%؟ أم حين تُخصِّبه بنسبة 20% أو 60% فقط؟
وليست الولايات المتحدة وحدها مَن تعترض على القراءة الإسرائيلية، فالبلدان الأوروبية تعترض أيضاً. ورأي هذه البلدان بالغ الأهمية، لأنَّه إذا قررت واشنطن في أي وقت أنَّه حان الوقت للخيار العسكري، ستكون بحاجة إلى نطاق عريض من الدعم الأوروبي، كما يقول تحليل هآرتس.
في الوقت نفسه، لم تحدد الإدارة الأمريكية تاريخاً ستتوقف بعده الجهود الدبلوماسية ويتم الانتقال إلى "وسائل أخرى". وفي هذا الإطار، قد يجد بايدن في الرياض شريكاً، وهي التي أجرت خمس جولات من المباحثات مع طهران بشأن استعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ عام 2016، وكذلك في الإمارات، التي وقَّعت سلسلة من الاتفاقيات مع إيران.
لا تهدِّئ هذه الاتفاقيات المخاوف التي تثيرها إيران في الخليج، ولكن هناك اختلاف كبير بين الاستعداد لنشر منظومة مضادة للصواريخ لمواجهة هجوم إيراني، والاستعداد للمشاركة في حملة عسكرية ستطلق العنان لحرب مدمرة. فإذا سمحت السعودية للطائرات الإسرائيلية بالتحليق فوق أراضيها أو سمحت برحلات حج طيران مباشرة للحجاج من إسرائيل، لا يعني هذا أنَّها ستود إرسال القاذفات السعودية للتحليق فوق إيران.
وأكَّدت إيران هذا الأسبوع أنَّ المباحثات النووية مع ثلاثة بلدان أوروبية لا تزال جارية، حتى بعد فشل المفاوضات الإيرانية الأمريكية في العاصمة القطرية، الدوحة، وفي الوقت الذي يحاول الاتحاد الأوروبي فيه معرفة كيف يمكن لرفع العقوبات عن إيران أن يساعد في حل مشكلة الطاقة لديه. يقول الدبلوماسيون الأوروبيون إنَّ إيران تظل مشكلة حتى بدون أسلحة نووية، وهذا الجهد العالمي هو لمنع استمرار تخصيب اليورانيوم.
لكنَّ إيران ليست تهديداً ملموساً بقدر روسيا بعد، التي أظهرت أنَّها مستعدة لغزو جار وخلق أزمة اقتصادية عالمية، وقال دبلوماسي أوروبي لصحيفة Haaretz الإسرائيلية إنَّ القدرة على احتواء البرنامج النووي الإيراني لا تزال عالية، على الأقل بمستواه الحالي.
هذا هو الأمر، لا يوجد داعٍ لحملة عسكرية في الوقت الراهن. ويبدو أنَّ أصدقاء إسرائيل في الشرق الأوسط وأوروبا، بل وحتى الولايات المتحدة –ناهيكم عن الصين وروسيا- لا يشاطرونها تعريفها لإيران باعتبارها خطراً واضحاً وراهناً. لا يمكن لطهران أيضاً إحلال النفط والغاز الروسيين المُقَاطَعين، فإيران تستهلك نحو 80% من غازها.
وكي تُصدِّر هذا الغاز إلى أوروبا، ستكون بحاجة إلى استثمار بنحو 100 مليار دولار لتطوير حقول الغاز وبناء منشآت إسالة. لذا، حتى لو رُفِعَت العقوبات غداً، سيستغرق الأمر عامين أو ثلاثة أعوام أخرى. كما أنَّ إيران مدينة بموارد الطاقة لديها للصين بموجب اتفاق متعدد السنوات وُقِّع قبل عامين.
وعلى رأس كل ذلك، لن تساعد إيران الغرب على الإبقاء على عقوباته القاسية على روسيا. لكن في ظل ارتباط أسعار النفط والغاز بمؤشر الجائحة، قد يكون لرفع العقوبات عن إيران تأثير فوري على ضبط الأسعار في الولايات المتحدة، وبايدن ليس غافلاً عن هذا الارتباط.