جاء انخفاض اليورو بشكل كبير ليصبح مساوياً للدولار، ليضع العملة الأوروبية تحت الأضواء ويثير مخاوف من إمكانية تعرضها لنكسة كبيرة مع استمرار الحرب الأوكرانية والأزمة الاقتصادية العالمية.
وتساوى اليورو لأول مرة منذ عشرين عاماً مع الدولار الأمريكي، متراجعاً بنسبة كبيرة خلال الأشهر الماضية.
يعني هذا التراجع أن الشركات والمستهلكين الأوروبيين سيدفعون أكثر مقابل السلع والخدمات التي يستوردونها ، بينما ستصبح الصادرات الأوروبية أرخص على الفور في الأسواق الدولية.
والآن بعد عشرين عاماً على إطلاق اليورو، تستخدمه 19 دولة وأكثر من 340 مليون أوروبي "اليورو"، ويعتبر الآن ثاني أهم عملة في العالم بعد الدولار الأمريكي؛ حيث تستخدمه أيضاً 60 دولة ومنطقة خارج الاتحاد الأوروبي أو تربط عملتها به، كما يمثل نحو ربع احتياطات النقد الأجنبي التي تحتفظ بها البنوك المركزية
تاريخ اليورو
تم تقديم الأوراق النقدية والعملات المعدنية باليورو لأول مرة في 12 دولة أوروبية في 1 يناير/كانون الثاني 2002، لتحل محل عملات هذه الدول الوطنية.
كان اليورو موجوداً قبل ذلك بثلاث سنوات، وإن كان في شكل إلكتروني فقط.
كان الهدف من إطلاق اليورو هو جعل الحياة أبسط، باستخدام نفس العملة للعمل والأعمال في جميع أنحاء منطقة اليورو وللسفر والعيش في الخارج.
يهدف الدور الدولي القوي لليورو أيضاً إلى حماية اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي والنظام المالي من صدمات الصرف الأجنبي، وتقليل الاعتماد على العملات الأخرى، وضمان انخفاض التكاليف لشركات الاتحاد الأوروبي.
على مدى السنوات القليلة المقبلة، من المقرر أن تتبنى رومانيا وبلغاريا اليورو، ووافق الاتحاد الأوروبي الفعل على اعتماد كرواتيا لليورو كعملة محلية بدءا من العام القادم
من المتوقع أن تنضم جميع دول الاتحاد الأوروبي باستثناء الدنمارك إلى الاتحاد النقدي وإدخال اليورو بمجرد استيفاء معايير التقارب.
التضحية بفقراء أوروبا من أجل الحفاظ على اليورو
رغم ذلك هناك انتقادات كبيرة لليورو داخل المجموعة الأوروبية، فبينما أدى وجود عملية قوية موحدة لقدر كبير من الاستقرار النقدي والمالي، ولكن في المقابل، قيد صلاحيات الدول في السياسات النقدية وأصبحت هناك سياسة مالية ونقدية أوروبية واحدة، رغم اختلاف ظروف الدول.
كما أن وجود عملة أوروبية موحدة جعل بعض الدول تدفع ثمن أخطاء لم ترتكبها، أو على الأقل أصبحت هناك حالة من تبادل إلقاء اللوم، واتهامات بمعاملة غير عادلة من قبل الاتحاد الأوروبي ومؤسساته المركزية تجاه الدول الأعضاء؛ حيث يقال إن فرنسا وألمانيا تُعاملان بشكل أفضل كثيراً من دول مثل إيطاليا وغيرها من دول جنوب وشرق أوروبا.
ومنذ تنفيذ معاهدة ماستريخت في عام 1992 والتي أدت إلى إنشاء العملة الموحدة لليورو، واجهت دول الاتحاد الأوروبي المختلفة مشكلات في تلبية متطلبات المعاهدة للحفاظ على العملة، لا سيما الالتزام بعدم وصول العجز في ميزانية أي دولة لنسبة أكبر من 3٪ من ناتجها المحلي الإجمالي.
ومن الأمثلة على ذلك اليونان، التي استخدمت في عام 1992 كميات كبيرة من الحيل المالية لتبدو كأنها تمثل لهذه المطالب، ثم وقعت في كثير من الأحيان في انتهاك واضح لها.
اليورو منحاز لدول شمال أوروبا على حساب جنوبها
ويعتقد الكثيرون أن قوة اليورو كانت في صالح دول أوروبا الغنية مثل ألمانيا وهولندا وغيرها من دول شمال أوروبا، بينما أضر بدول جنوب أوروبا تحديداً مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال.
لأن دول شمال أوروبا اقتصادياتها قوية ومنتجاتها عالية الجودة وقيمتها كبيرة؛ مما يجعلها لا تحتاج إلى سعر عملة منخفض، لتحقيق تنافسية صادراتها، على عكس دول جنوب أوروبا التي تواجه صادراتها منافسة كبيرة من المنتجات الآسيوية والتركية.
فالسيارة المرسيدس الألمانية منافسوها قليلون، وهي في الأصل باهظة الثمن، وتستهدف شريحة ثرية، بينما سيارات فيات الإيطالية تواجه منافسة من السيارات اليابانية والكورية والصينية والمصنوعة في تركيا، الأمر الذي يجعل السعر عاملاً رئيسياً في ترويجها.
كما أن القيود التي يفرضها البنك المركزي الأوروبي على العجوزات في ميزانيات الدول، يعني أنها في حالة أن واجهت أي أزمة مالية فإن هذه الدول لا تستطيع توسيع العجز، وطبع العملة كما تفعل العديد من دول العالم الأخرى، ورغم أن هذا له عواقبه مثل التضخم، ولكن أيضاً الخيار البديل الذي تجبر عليه الدول الأوروبية حالياً مثلما حدث مع اليونان في أزمتها المالية، هو ضغط النفقات بما في ذلك تقليل الرواتب، ورواتب التقاعد، وهي سياسة تؤدي إلى الانكماش، والدخول في دائرة مغلقة من الركود.
ألمانيا صممت على معاقبة اليونان على إسرافها
في عام 2012، كانت اليونان تأمل في أن يمنحها الاتحاد الأوروبي مساحة لالتقاط الأنفاس لحل صعوباتها المالية، بما في ذلك التخلف عن السداد المحتمل لصندوق النقد الدولي.
اتخذت ألمانيا، بصفتها أقوى عضو في البنك المركزي الأوروبي، موقفاً متشدداً للغاية تجاه أي إنقاذ واسع النطاق لأثينا. وأصرت على أن اليونان يجب أن تخفض ميزانيتها، بغض النظر عن الألم الاقتصادي الذي قد يسببه ذلك لدافعي الضرائب اليونانيين، حسبما ورد في تقرير لمجلة Forbes الأمريكية.
كانت ألمانيا قلقة من أنه، في حالة حدوث خطة إنقاذ، فإنها ستدفع الحصة الأكبر بسبب اللامسؤولية المالية اليونانية؛ لذلك طالبت بأن يعاني اليونانيون الأفراد من انخفاض كبير في مستوى معيشتهم من أجل الموافقة على خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي واستمرار مشاركة اليونان في اليورو.
دفعت اليونان ثمناً باهظاً لتبقي داخل اليورو، وقيل إن كثيراً من اليونانيين باعوا فضياتهم للتغلب على الشروط المالية القاسية التي فرضت على بلادهم.
العملة الأوروبية تجاوز أزمات خطيرة
ولكن لسنوات تقبل الأوروبيون هذه العيوب في اليورو، بالنظر إلى الميزات التي وفرها وهي الأداء القوى والتضخم المنخفض.
ويعتقد الكثيرون؛ مثل وزير المالية الأيرلندي، باسشال دونوهو، أن اليورو قد أثبت مرونته عند اختباره، أولاً مع الأزمة المالية العالمية عام 2008 ثم مع العواقب الاقتصادية لوباء كورونا.
كانت الأزمة المالية اليونانية وجائحة كورونا بمثابة اختبار ناجح لليورو، ولكن الأزمة الأوكرانية وموجة التضخم الحالية أضرت باليورو بشكل غير مسبوق.
يرجع ذلك لأسباب عديدة بعضها مرتبط بأوروبا وبعضها مرتبط بالدولار نفسه.
لماذا تبدو الأزمة الحالية أصعب على اليورو؟
فرغم تعدد الأزمات المالية التي مرت بالاتحاد الأوروبي، فإن أغلبها كان في أطراف الاتحاد الفقيرة، ولكن المتضرر الأساسي من الأزمة الحالية هو ألمانيا البلد الأغنى في التكتل والذي كان دوماً صاحب الفوائض المالية التي تنقذ بقية الدول، ولكن أزمة الطاقة والتضخم الحالي، أديا إلى عجوزات مالية ألمانية غير مسبوقة منذ سنوات، إضافة إلى التهديد بدخول أكبر اقتصادات القارة في ركود، خاصة لو منعت روسيا الغاز هذا الشتاء.
كما بدأت ألمانيا في توسيع نفقاتها العسكرية لمواجهة التهديدات الروسية، وجزء من هذه النفقات سوف يكون عبر شراء أسلحة من الولايات المتحدة وليس من خلال الصناعة المحلية؛ مما يعني أنها أموال سوف تخرج من البلاد.
وبصفة عامة فإن أوروبا المستورد الكبير للطاقة، تعاني أكثر من غيرها من ارتفاع أسعار النفط والغاز عكس الولايات المتحدة المصدر الصافي، لهذه الموارد أو الصين التي تحصل عليها بخصومات من روسيا حالياً.
ورغم أنه لسنوات تمتع الاتحاد الأوروبي بفائض في ميزان التبادل التجاري مع الولايات المتحدة عبر فيض الصادرات الألمانية تحديداً، لكن تثبت الأزمة الأوكرانية هشاشة الوضع الأوروبي عامة مقارنة بالقوة الأمريكية.
فأوروبا تعتمد بالكامل على الحماية الأمريكية في مواجهة روسيا، وبينما يخشى الأوروبيون من أن يتجمدوا برداً إذا قطع بوتين الغاز، ويناشدون المصريين والقطريين والإسرائيليين والجزائريين تزويدهم بالغاز، فإن السفن المحملة بالنفط والغاز الأمريكيين تتقاطر على أوروبا وآسيا في تذكرة واضحة بالفارق الهائل بين الموارد الطبيعية للقارة الأمريكية الشابة والقارة الأوروبية العجوز.
ويشير هذا التراجع لليورو إلى أن الاقتصاد الأوروبي يتجه نحو ركود عميق نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا.
العملة الأمريكية أصبحت أقوى أمام الجميع
في المقابل، فجزء من أسباب تراجع اليورو أمام الدولار، مرتبط بأداء الدولار والسياسات النقدية الأمريكية.
إذ ارتفع الدولار أمام أغلب العملات الدولية، مع تزايد مخاوف التضخم والركود التضخمي، ورفع أسعار الفائدة الأمريكية، حيث يقدر مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في مؤسسة Moody's Analytics ، حدوث زيادة بنسبة 10٪ في الدولار خلال العام الماضي مقابل العملات الأجنبية من بينها اليورو.
فلقد أصبحت العملة الأمريكية الملاذ المفضل لأغلب المستثمرين الذين يهربون من كل الأوعية الاستثمارية والادخارية الأخرى حتى الذهب للدولار.
كما أن توقعات المحللين بحدوث زيادة أخرى في سعر الفائدة الرئيسي للدولار بمقدار 0.75 نقطة مئوية من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي هذا الشهر يجعل الدولار أقوى مما كان متوقعاً، وفي الوقت ذاته يبدو البنك المركزي الأوروبي أكثر حذراً في مسألة رفع الفائدة من نظيره الأمريكي.
ولكن في حين أن الدولار القوي قد يساعد المستهلكين الأمريكيين على شراء المزيد من السلع المستوردة بشكل أرخص، إلا أنه ليس جيداً للصادرات الأمريكية، وقد يؤدي لزيادة العجز المالي الأمريكي.
ولكن على الجانب الآخر، فقد تستفيد الصادرات الأوروبية من انخفاض اليورو لتعزيز تنافسيتها، إلا أنه نظراً لأن القارة الأوروبية مستوردة للمواد الخام بشكل كبير، فإنه من المتوقع أن الانخفاض في أسعار السلع الأوروبية لن يكون كبيراً لأنها تحوي مدخلات خارجية كبيرة.
للدولار دولة تحميه
بينما قد تستفيد الشركات الأوروبية المصدرة من انخفاض اليورو في ترويج سلعها خارج القارة، وبالتالي زيادة الصادرات الأوروبية، ولكن تراجع اليورو بهذه النسبة الكبيرة يلقي بظلال قاتمة على تجربة هذه العملة التي لا يزيد عمرها على 20 عاماً.
فعلى عكس معظم العملات الأخرى التي لها دولة تحميها، فإنه يتم قبول اليورو لأن الناس يقبلون عن طيب خاطر أنه يمثل معياراً للقيمة يمكن الوثوق به.
كما أن قوة اليورو، تستند بشكل كبير لقوة الاقتصاد الألماني واقتصادات دول شمال وغرب أوروبا؛ مثل هولندا والنمسا وفرنسا، ولكن إذا رأت هذه الدول أن من ليس مصلحتها الدفاع عن اليورو، أو أن الدفاع عنه سيشكل عبئاً عليها فإن هذا يمثل مشكلة.
كما أن تباين مصالح الدول التي تعتمد على اليورو، يزيد من تعقيد التعامل مع الأزمات.
في الأزمات السابقة، كانت برلين في وضع اقتصادي قوي وأملت شروطها على الباقين بدعم من دول شمال أوروبا، ولكن اليوم ألمانيا تتحول تدريجياً إلى رجل أوروبا المريض.
بمجرد أن تضعف عوامل القوة هذه، قد تصبح موثوقية العملة نفسها موضع شك.
يتخوف البعض أن يكون اليورو أحد ضحايا الحرب الروسية على أوكرانيا لدرجة حديثهم عن إمكانية زوال العملة الأوروبية الموحدة.
وقد لا يكون سيناريو نهاية اليورو مرجحاً، ولكن الأرجح أن الأزمة الحالية تلقي بشكوك حقيقية على دور اليورو كعملة تداول عالمية ومخزون للقيمة منافس للدولار.
فالخسارة الكبيرة التي تكبدها حائزو اليورو منذ الأزمة الأوكرانية، تجعله خياراً غير جذاب لغير الأوروبيين، وتعزز سيادة الدولار على التجارة العالمية، وقد تراجعت بالفعل احتياطات البنوك المركزية من اليورو، بل إن هذه الأزمة تؤشر إلى أنه إذا كانت هناك عملة ستنافس الدولار على المدى البعيد فإنها ستكون اليوان الصيني وليس اليورو الذي سيظل دوماً عملة مهمة ولكن ليست قائدة.