كان مشهد إضرام المتظاهرين النار في قصر رئيس وزراء سريلانكا، ثم اقتحامهم للقصر الرئاسي صادماً للعالم أجمع، ولكن خلفه تقع مأساة اكتوى بها الناس أوصلتهم إلى هذه الحالة من الهياج، إنها أزمة الوقود في سريلانكا التي شكلت أخطر مظاهر المحنة الاقتصادية للبلاد.
وفرّ الرئيس السريلانكي غوتابايا راغابكسا من مقره الرسمي في العاصمة كولومبو، أمس السبت، بعد اقتحام متظاهرين للمجمع الرئاسي، فيما أكد رئيس البرلمان ماهيندا أبيواردانا أن الرئيس راغابكسا وافق على التنحي الأسبوع المقبل. من جهته أعرب رئيس الوزراء رانيل ويكريميسنغه عن استعداده للاستقالة، لإفساح المجال لتشكيل حكومة تضم جميع الأحزاب.
وأظهر بث مباشر على فيسبوك من داخل القصر الرئاسي مئات المحتجين– وقد لفّ بعضهم الأعلام حول جسده- وهم يحتشدون في غرف القصر الرئاسي وممراته، ويرددون شعارات مناهضة لراغابكسا.
ولم يكن الرئيس ولا رئيس الوزراء موجودين حينما هاجم الناس مسكنيهما.
وتشهد سريلانكا أسوأ أزمة اقتصادية منذ استقلالها عام 1948، ما دفع المحتجين إلى المطالبة باستقالة الرئيس وحكومته، بعد فشلهم في تجنب الانهيار الاقتصادي.
أسباب الكارثة في الدولة التي كانت تحسدها الهند على دخلها
كانت سريلانكا دولة متوسّطة الدخل تتمتّع بمستوى معيشي تحسدها عليه الهند المجاورة، ولكنّها تأثرت بفقدان عائدات السائحين، في أعقاب هجوم جهادي في العام 2019، ثم جائحة كوفيد-19.
في نهاية عام 2019، كان لدى سريلانكا 7.6 مليار دولار من احتياطيات العملات الأجنبية.
بحلول مارس/آذار 2020، انخفض هذا المبلغ إلى 1.93 مليار دولار، وقالت الحكومة مؤخراً إنه لم يتبقَّ سوى 50 مليون دولار.
كما تراكمت على الحكومة ديون ضخمة لدول من بينها الصين، لتمويل ما وصفه منتقدون بمشاريع البنية التحتية غير الضرورية.
ترجع أزمة سريلانكا إلى حد كبير إلى سوء الإدارة الاقتصادية المذهل، جنباً إلى جنب مع تداعيات الوباء، والتي أدت إلى جانب الهجمات الإرهابية لعام 2019 إلى تدمير صناعة السياحة المهمة فيها. كما عطلت أزمة فيروس كورونا تدفق التحويلات من السريلانكيين العاملين في الخارج.
أخذت الحكومة على عاتقها ديوناً كبيرة، وخفضت الضرائب في عام 2019، ما أدى إلى استنزاف الخزانة تماماً، كما ضرب COVID-19 فانخفضت احتياطيات النقد الأجنبي، ما جعل سريلانكا غير قادرة على دفع ثمن الواردات أو الدفاع عن عملتها المحاصرة، الروبية، لتخفيف الواردات منعت الحكومة استيراد الأسمدة، داعية إلى استخدام الأسمدة العضوية، ما أدى إلى انهيار الإنتاج الزراعي.
في يونيو/حزيران 2022، أعلن رئيس الوزراء رانيل فيكرمسينغ انهيار اقتصاد بلاده بالكامل، وعدم قدرتها حتى على دفع مستحقات واردات النفط.
أزمة الوقود في سريلانكا لا تشبه غيرها
ما يحدث في هذه الدولة الجزرية الواقعة في جنوب آسيا، والتي يبلغ عدد سكانها 22 مليون نسمة هو أسوأ من الأزمات المالية المعتادة، التي نشهدها في العالم النامي، إنه انهيار اقتصادي كامل ترك الناس يكافحون لشراء الطعام والوقود والضروريات الأخرى، وأدى إلى الاضطرابات والعنف، حسبما ورد في تقرير لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية.
تظهر مثل هذه الكوارث بشكل أكثر شيوعاً في البلدان الفقيرة أو في إفريقيا، جنوب الصحراء، أو في أفغانستان التي مزقتها الحرب.
من أكبر الأسباب التي دعت الناس إلى النزول للشوارع والتظاهر، أزمة نقص الوقود في سريلانكا.
فبعد أن نفد رصيد الاحتياطي النقدي الأجنبي للدولة الواقعة جنوب شرق آسيا، ولم تعد قادرة على استيراد الوقود، ما أصاب اقتصادها بالشلل التام، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
أدى النقص الحاد في إمدادات الوقود إلى عدم إمكانية نقل المواد الغذائية والأدوية، أو نقل منتجات المزارع إلى المدن والأسواق، أو حتى تنقل الأفراد باستخدام السيارات أو الحافلات أو القطارات، بل وطلبت الحكومة من شركات الطيران الأجنبية التأكد من وجود ما يكفي من الوقود في طائراتها لرحلات العودة، بسبب عدم قدرتها على توفير الوقود للطائرات.
قال وا ويجيواردينا، الاقتصادي ونائب محافظ البنك المركزي السابق في سريلانكا: "يشعر الناس بالغضب الشديد بسبب عدم توافر الوقود، لا يمكنهم فعل أي شيء".
طلبوا العون من بوتين
قبل هروبه من البلاد دفعت أزمة نقص الوقود في سريلانكا، الرئيس إلى طلب مساعدة نظيره الروسي فلاديمير بوتين. ونشر حساب راجاباكسا يوم الأربعاء، 6 يوليو/تموز، على منصة تويتر، أنه تحدث إلى الرئيس الروسي هاتفياً، ليطلب منه "دعماً ائتمانياً" لاستيراد الوقود.
وكشف مسؤول بوزارة الكهرباء والطاقة في سريلانكا عن وصول ممثلين لشركتي نفط روسيتين إلى بلاده، لبحث استمرار إمدادات النفط الروسي.
يقول الخبراء إن قرار استعانة راجاباكسا بروسيا يوضح أن خيارات سريلانكا محدودة في ظل الارتفاع الهائل في أسعار الغاز والنفط، بسبب الحرب في أوكرانيا. حتى الهند، الحليف الأقرب لسريلانكا، رفضت تزويدها بمزيد من الوقود، دون أن تدفع سريلانكا مقدماً. يذكر أنه منذ شهر يناير/كانون الثاني الماضي، قدمت الهند لسريلانكا ما قيمته 3.5 مليار دولار من المواد الغذائية والوقود والأدوية.
السريلانكيون العاديون- وخاصة الفقراء- يدفعون الثمن. ينتظرون في طوابير لمدة أيام للحصول على الوقود اللازم الغاز والبنزين، يمكن أن تمتد لأكثر من كيلومترين (1.2 ميل)، في بعض الأحيان، يعودون إلى المنزل بدون أي شيء.
أغلقت الحكومة المدارس الحضرية وبعض الجامعات، وتمنح موظفي الخدمة المدنية إجازة كل يوم جمعة لمدة ثلاثة أشهر، لتوفير الوقود وإتاحة الوقت لهم لزراعة الفاكهة والخضراوات الخاصة بهم.
ويبلغ تضخم أسعار المواد الغذائية 57%، وفقاً لبيانات حكومية، وأفاد 70% من الأسر السريلانكية التي شملتها الدراسة التي أجرتها اليونيسيف الشهر الماضي عن تقليص استهلاك الغذاء. تعتمد العديد من العائلات على معونات الأرز الحكومية والتبرعات من الجمعيات الخيرية والأفراد الأسخياء.
ولقي ما لا يقل عن 16 شخصاً حتفهم حتى الآن وهم ينتظرون البنزين، كان أحدهم رجلاً يبلغ من العمر 63 عاماً، تم العثور عليه داخل سيارته في ضواحي كولومبو.
ذات ليلة في يونيو/حزيران 2022، شوهد جندي يعتدي على ضابط شرطة في محطة وقود في خلاف حول توزيع البنزين. تم نقل ضابط الشرطة إلى المستشفى. وتحقق الشرطة والجيش بشكل منفصل في الحادث.
العودة للحياة البدائية
أشار ويجيواردينا إلى أن قادم الأيام ستشهد تضحية الشعب السريلانكي بمظاهر الحياة العصرية المريحة. وقال: "سنضطر إلى السير بسبب عدم إمكانية استخدام السيارات".
وأضاف: "أصبح الوقود مهيمناً ومسيطراً على اقتصادنا الحديث بشكل تام".
بسبب عدم تمكنهم من الحصول على الوقود، تخلى البعض عن قيادة السيارات ولجأوا إلى الدراجات أو وسائل النقل العام.
بسبب عدم قدرتهم على الحصول على غاز الطهي يلجأ العديد من السريلانكيين إلى مواقد الكيروسين أو الطهي على النيران المكشوفة بالحطب وبقايا الأشجار.