لم يسبق أن كان السفر براً إلى مناطق السعودية النائية بهذه البساطة منذ تخريب الضابط في الجيش البريطاني والدبلوماسي، توماس إدوارد لورنس، الشهير بـ"لورنس العرب" لسكة حديد الحجاز، التي كانت تربط دمشق بالمدينة المنورة، خلال الحرب العالمية الأولى قبل نحو 100 عام. إذ انطلق أول قطار ركاب من العاصمة الرياض باتجاه الشمال في 31 من مارس/آذار 2022، ليقطع مسافة 1,215 كيلومتراً فوق الكثبان الرملية، وصولاً إلى القريات قرب الحدود الأردنية.
بعد 100 عام من تدمير سكة حديد الحجاز.. مسارات القطارات تعود للشرق الأوسط
تقول مجلة The Economist البريطانية، إن منطقة الشرق الأوسط بدأت تشهد عودة مسارات السكك الحديدية التي يرجع تاريخها إلى ما قبل الحقبة الاستعمارية، بعد سدّ طرقها أو تدميرها نتيجة الصراعات أو الإهمال. إذ تستثمر الحكومات من مراكش في المغرب إلى مشهد في إيران عشرات المليارات من الدولارات لتوسيع الشبكات المتداعية.
ويصل طول مسارات السكك الحديدية الحالية إلى 25 ألف كيلومتر تقريباً، ومن المتوقع أن تنمو بعشرات الآلاف من الكيلومترات بحلول عام 2040. إذ ستزيد السعودية شبكة قطاراتها بمقدار ثلاثة أضعاف. وتمتلك المنطقة في الوقت الراهن خطين للقطارات عالية السرعة، التي تنقل المسافرين بسرعةٍ تصل إلى 300 كيلومتر في الساعة، ويجري بناء مزيد منها حالياً، بحسب المجلة البريطانية.
لماذا يعاد إحياء هذه الخطوط الآن؟
لكن إعادة إحياء الخطوط للسكك الحديدية هذه تأخرت كثيراً بحسب الإيكونومست، ويرجع السبب جزئياً إلى انعدام التكامل الإقليمي. إذ أدى استقلال دول المنطقة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، والقوى الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا، إلى قطع الخطوط التي امتدت على مساحات شاسعة من الأراضي. حيث أغلقت الدول المستقلة حديثاً حدودها وهدمت الجسور. وجاء تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 ليُحدِث صدعاً في الخطوط التي تربط آسيا بإفريقيا.
علاوةً على أن غالبية الحكومات أعطت الأولوية لوسائل النقل الخاصة على العامة. ولم تُثمر خطط إنشاء شبكة السكك الحديدية الدولية في المشرق العربي، مع مركزٍ في بغداد، عن أي نجاح. بينما لم تقدم ست دول خليجية أكثر من الكلمات في ما يتعلق بمشروع سكة حديدية للربط بينها جميعاً، من الكويت وحتى عُمان.
لكن عوامل ازدحام الطرق، وزيادة أعداد السكان، والتغير المناخي بدأت تدفع دول المنطقة لإعادة النظر في الأمر. إذ قال عبد العزيز العويشق، الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، إن الناس بحاجة للانتقال باستخدام وسيلة أسرع وأكثر نظافة من الطرقات الملوّثة والمزدحمة. ويستغرق وقت الرحلة في خط قطارات جديد مقترح بطول الإمارات، من أبوظبي إلى الفجيرة، نصف وقت الرحلة نفسها بالسيارة. أما خط قطارات إيران عالي السرعة من طهران إلى أصفهان، فيُقلص زمن الرحلة من خمس ساعات إلى 90 دقيقة فقط.
فوائد كبيرة تحاول دول المنطقة جنيها
ويتعيّن على مصر هي الأخرى تحديث خطوط قطاراتها الرئيسية، حيث ارتفع حجم المسافرين بـ15 ضعفاً منذ الثلاثينيات، ولا يزالون يستخدمون نفس السكك الحديدية التي لم تتغير كثيراً.
وبدأت قطارات الأنفاق في الانتشار أيضاً. إذ وسّعت الجزائر، ودبي، والدوحة، والقاهرة، وطهران قطارات أنفاقها. وتستعد الرياض لافتتاح قطار أنفاقها العام المقبل. فيما ستضم العاصمة الإدارية الجديدة بمصر أول قطار مونوريل داخل منطقة شمال إفريقيا.
وسيستفيد السياح والحجيج على حدٍّ سواء من قطارات السعودية الجديدة. إذ يربط أول قطارات السعودية عالية السرعة بين المدينتين المقدستين مكة والمدينة المنورة. ووقَّعت مصر للتو عقداً لبناء مسارٍ سريع من القاهرة بطول النيل، وصولاً إلى معبد أبوسمبل على بُعد 1,100 كيلومتر جنوباً، قرب حدود السودان. ويُخطط المغرب كذلك لإنشاء خط قطارات عالية السرعة يصل إلى مدينة مراكش السياحية.
وستؤدي هذه السكك الحديدية الجديدة إلى تحسين التجارة أيضاً. حيث من المقرر افتتاح أول خط قطارات عالية السرعة في مصر عام 2027، ويمتد من ميناء العين السخنة على البحر الأحمر، وصولاً إلى ميناء مرسى مطروح على البحر المتوسط، ليوفر بذلك بديلاً لقناة السويس المزدحمة.
وتخطط السعودية لإنشاء خط قطارات سريع ينطلق من ميناء جدة، مروراً بالرياض، ووصولاً إلى الخليج العربي. ويوفر الخط الجديد الواصل إلى الفجيرة -على المحيط الهادئ- وسيلةً لدخول البضائع وخروجها من الإمارات، حتى تتجنب البضائع العبور من مضيق هرمز الاستراتيجي، الذي تهدد إيران بإغلاقه من وقتٍ لآخر.
ويأمل المغرب أن يمر قطاره عالي السرعة من طنجة بطول الساحل ذات يوم، ليمر عبر منطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها، ويصل إلى أسواق غرب إفريقيا. وشهدت البلاد أيضاً طرح فكرة إنشاء نفق تحت الماء وصولاً إلى إسبانيا.
لاعبون من خارج المنطقة يحاولون الاستثمار في خطوط قطاراتها
أما الصين، الدولة الرائدة عالمياً في مجال القطارات عالية السرعة، فتريد الربط براً بين آسيا وأوروبا، مروراً بالشرق الأوسط. وذلك بغرض دعم مبادرتها الحزام والطريق. وناقشت مثل هذه الخطط مع إيران، وإسرائيل، والإمارات. لكن شركة Siemens الألمانية نجحت في اقتناص عقد بناء مسارات القطار المصري عالي السرعة. بينما وقَّع المغرب مع شركة فرنسية، ووقعت السعودية مع أخرى إسبانية من أجل مشروعاتها لبناء القطارات السريعة. فيما فاز ائتلاف شركات بريطانية وألمانية بغالبية عقود خط القطارات الإماراتي.
لكن لم تلحق كل دول المنطقة بالركب. إذ تُعاني فلسطين، والعراق، ولبنان، وليبيا، والسودان، وسوريا، واليمن بدرجةٍ تمنعها من استعادة سككها الحديدية القديمة بسبب الفقر أو الحرب أو الخلل الوظيفي الشديد. وتضغط شركات الطيران الحكومية من أجل الحفاظ على رحلاتها القصيرة المربحة. بينما لا تزال بعض الحكومات تشعر بالقلق. حيث تراجعت عُمان لحذرها الدائم من التشابكات المعقدة. في ما تخشى الكويت أن ترتبط بالعراق لقلقها من الغزو. وحتى قطر التي خططت في وقتٍ من الأوقات لبناء خطوط قطارات سريعة تربطها بالبحرين والرياض قبل كأس العالم لكرة القدم العام الجاري، فقد اضطرت لتعليق خططها بعد أن حاصرها جيرانها لأسباب سياسية.
ويمكن القول إن حقيقة توقف الخطوط الجديدة على مسافةٍ من حدود الدول تُبرهن على مثل هذه الحساسيات. حيث يقع خط قطارات "السلام" الذي أنشأته حكومة الاحتلال على بعد ثمانية كيلومترات فقط من حدود الأردن. بينما يبعد خط قطارات السعودية الجديد من الرياض إلى الشمال نحو 28 كيلومتراً فقط عن الأردن، الذي يشعر بالقلق من إنشاء خطٍّ يربط مباشرةً بين مكة والقدس المحتلة.
وعلى الناحية الأخرى، يظل الخط الرابط بين المغرب والجزائر مغلقاً بشكلٍ حاسم، رغم تشييد المغرب لمحطةٍ جديدة رائعة في وجدة. ويواجه حلم الصين بالوصول إلى بلاد الشام عقبةً تكمن في خطٍ مفقود بطول 22 كيلومتراً، بين إيران والعراق. ولا تزال خريطة سكك حديد الشرق الأوسط مثقوبة بفعل العث التاريخي، رغم الحديث الدائم عن التكامل الإقليمي وخطوط الحرير الجديدة، كما تقول الإيكونومست.