أطلقت زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن المرتقبة إلى المملكة العربية السعودية والمنطقة، العنان "للثرثرة" في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية. وكانت بعض ردود الفعل، بما في ذلك تلك الصادرة من السياسيين الديمقراطيين المؤثرين، سلبية بلا تحفظ. قال عضو الكونغرس الديمقراطي آدم شيف: "حتى تُحدِث السعودية تغييراً جذرياً في مجال حقوق الإنسان فلا أريد أي صلة به"، في إشارة إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. لكن المدافعين عن قرار زيارة بايدن يجادلون بأنَّ المصالح الأمريكية وحقائق القوة في الشرق الأوسط تتطلب علاقة استراتيجية مع السعوديين، رغم سجلهم السيئ في حقوق الإنسان والديمقراطية.
ومؤخراً، كتبت مجلة Foreign Affairs، أنَّ السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط يجب أن تعطي الأولوية لفرض النظام على الأهداف الأخرى، وهذا يعني التعامل مع الأنظمة والقادة الذين تلطخت أيديهم بالدماء، إذا كان ذلك يخدم المصالح الأمريكية. وتتوافق إعادة الانخراط مع المملكة العربية السعودية مع هذه الأجندة. رغم أنَّ زيارة بايدن قد لا تتماشى مع خطابه السابق والقيم المعلنة، لكنها ستساعد في تصحيح علاقة يمكن أن تساعد في استقرار أسواق النفط العالمية، وتمديد الهدنة في الحرب الأهلية اليمنية، واحتواء الطموحات الإيرانية، إذا استُغِلت هذه العلاقة استغلالاً صحيحاً، كما تقول المجلة.
الشرق الأوسط.. أولويات بايدن تتغير بعد أن أصبح في مركز الحكم
منذ تولى بايدن منصبه كان منفتحاً -جزئياً على الأقل- لإعطاء الأولوية "لحفظ النظام في الشرق الأوسط" على الأهداف الأخرى؛ مثل حماية حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية. وبرغم كل شيء أعاد بايدن فتح المحادثات مع إيران (بوساطة أوروبية) حول استعادة خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي لعام 2015).
عندما انسحب الرئيس دونالد ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة، جدّدت إيران برنامجها النووي، واقتربت منذ ذلك الحين من التسليح المحتمل. ومع ذلك كانت إدارة بايدن على استعداد لتنحية قائمة طويلة من القضايا الشائكة مع طهران جانباً- بما في ذلك دعمها للمنظمات المسلحة ونظام بشار الأسد الوحشي في سوريا وترسانتها المتنامية من الصواريخ الباليستية- لمحاولة وقف برنامج إيران النووي أو إبطاء تقدمه. وليس هناك ما ينذر بزيادة الصراع وعدم الاستقرار في المنطقة أكثر من احتمال امتلاك إيران قدرات أسلحة نووية، بحسب فورين آفيرز.
وتمثل زيارة بايدن للسعودية خطوة أخرى نحو رؤية بايدن بـ"تحقيق النظام والاستقرار". ففي ظل الحرب الروسية في أوكرانيا التي عطّلت أسواق الطاقة العالمية، تجددت أهمية دور الرياض بصفتها أكبر مصدر للنفط. وتتطلب استعادة النظام في سوق النفط من السعوديين استخدام طاقتهم الإنتاجية الخاملة للتعويض على الأقل عن بعض الإمدادات الروسية المفقودة بسبب العقوبات. وبدافع جزئي من "اتفاقات إبراهام" التي أبرمتها إدارة ترامب، والتي توسطت في تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، بدأت السعودية بالتواصل مؤقتاً مع إسرائيل، وهو تطور سيسهم أيضاً في شرق أوسط "أكثر تنظيماً" بالنسبة لأمريكا.
تجاهل حقوق الإنسان
تقول مجلة Foreign Affairs الأمريكية في تقرير حديث، إنَّ تحقيق هذه المصالح الأمريكية الملموسة يبرر التقليل من أهمية التراجع عن اعتراضات بايدن على انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية، وتقليل التوترات في العلاقة الأمريكية السعودية. وهذا التحول يؤتي ثماره بالفعل. فقد مُدِّد وقف إطلاق النار في الحرب الأهلية اليمنية، نتيجة جزء من الدبلوماسية الأمريكية مع المملكة العربية السعودية، لمدة شهرين آخرين، في يونيو/حزيران. وقد وافق السعوديون بالفعل على تسريع الزيادات المخطط لها في إنتاج النفط خلال الصيف.
وليست إدارة بايدن وحدها هي التي تتجاهل المزيد من الأهداف الأيديولوجية بحثاً عن شرق أوسط أكثر تنظيماً؛ بل تشاركها في ذلك أيضاً الحكومات في المنطقة. ففي الأشهر الأخيرة، أجرت المملكة العربية السعودية وإيران سلسلة من المحادثات الثنائية بوساطة من الحكومة العراقية. كما أعادت الإمارات العربية المتحدة الانخراط المباشر مع إيران.
في السنوات الأخيرة، وبّخ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان محمد بن سلمان علناً بشأن مقتل خاشقجي، وسعى على نطاق أوسع لتحدي القيادة السعودية للدول الإسلامية في الشرق الأوسط. لكن في نهاية يونيو/حزيران، استقبل أردوغان ولي العهد في العاصمة أنقرة. وفي خطوة أكثر إثارة للجدل من وجهة نظر الولايات المتحدة، استضافت حكومة الإمارات رئيس النظام السوري في زيارة في مارس/آذار، بعد دعم الثورة ضده لعدد من السنوات. كانت هذه أول زيارة للأسد لدولة عربية منذ بدء الحرب الأهلية السورية في عام 2011.
ولا تعني أيٌّ من هذه التطورات أنَّ السلام على وشك أن يسود المنطقة، إذ لا تزال فرص الصراع على عدة محاور؛ مثل صراعات إيرانية-إسرائيلية، وإيرانية-سعودية، وإسرائيلية-لبنانية، وسورية-تركية، وسعودية-يمنية، من بين محاور أخرى، مرتفعة. لكن الخطوات نحو التقارب تشير بالفعل إلى أنَّ القادة الإقليميين بدأوا في إعادة النظر في تكاليف عدم الاستقرار وفوائد النظام. يجب أن تشجع الدبلوماسية الأمريكية هذا الاتجاه وتشارك فيه، كما تقول فورين آفيرز.
عودة إلى المسار الأمريكي الحقيقي تجاه المنطقة
تقول المجلة الأمريكية، إن أسس العلاقات الأمريكية السعودية تآكلت؛ ويتضح أنها تتعلق بالمعاملات، لكنها جاءت بفوائد للطرفين خلال الرئاسات الأمريكية الثلاث الأخيرة. ونتيجة الجمع بين زيادة إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة، وانخفاض أسعار النفط في النصف الثاني من عام 2010، والقلق بشأن تغير المناخ، فقد دفع كل ذلك الكثيرين إلى الاستنتاج في الولايات المتحدة أنَّ المملكة العربية السعودية ونفطها لم يعودا بهذه الأهمية.
وشن كل من أوباما وترامب وبايدن حملة لإعادة توجيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعيداً عن الشرق الأوسط. وبرغم أنَّ تخوف القيادة السعودية من "الانسحاب" الأمريكي من الشرق الأوسط "مبالغ فيه"، بالنظر إلى استمرار الوجود العسكري والسياسي الأمريكي في المنطقة، لكن المشاعر حقيقية.
وعلى الجانب الأمريكي، أدى احتضان ترامب العلني الشديد لمحمد بن سلمان إلى جر العلاقة إلى سياسات حزبية مُستَقطَبة. إذ ينظر المزيد من الديمقراطيين الآن إلى السعوديين على أنهم يميلون نحو الجانب الجمهوري. وكان تورط ترامب في السياسة الداخلية السعودية، الذي شجع على صعود ولي العهد، "غير لائق ولا ضروري" كما تصف ذلك المجلة الأمريكية. وعندما طلب جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشار السياسة الرئيسي، وستيفن منوشين، وزير الخزانة في عهده، استثمارات سعودية في صناديق التحوط الخاصة بهما بعد فترة وجيزة من ترك الخدمة العامة، خلق ذلك مظهراً من المقايضة. ويستحق السعوديون جزءاً كبيراً من اللوم في هذا الأمر، ويحتاجون إلى تغيير نهجهم تجاه واشنطن لإعادة العلاقة إلى أسس أكثر صلابة وثنائية الحزبين.
في النهاية، تخلص المجلة إلى أن تحرك بايدن لـ"دفن الأحقاد" مع ولي العهد السعودي هو رد فعل ضروري ومفهوم للعالم؛ ليس فقط نتيجة السياسات المحطمة للشرق الأوسط، بل أيضاً في ضوء الاضطرابات العالمية التي سببتها الحرب الروسية في أوكرانيا. ويمثل هذا إقراراً بأنَّ العمل من أجل مصالح واشنطن وفرض قدرٍ من النظام في الشرق الأوسط الفوضوي يتطلب التعامل مع حكام يترأسون دولاً مستقرة نسبياً ويمارسون نفوذاً خارج حدودهم. قد يتواجد هؤلاء الحكام في مصر وإيران وسوريا، ويمكن العثور عليهم بالتأكيد في المملكة العربية السعودية.