لا يزال الشارع التونسي يعيش على وقع ذلك الجدل الذي أحدثته التصريحات الصادمة لرئيس هيئة إعداد الدستور التونسي الجديد، الصادق بلعيد، بعد إعلانه أن فحوى مشروع الدستور الذي نشره الرئيس التونسي قيس سعيّد مساء الخميس 30 يونيو/حزيران في الجريدة الرسمية، مختلف عن مسودة مشروع الدستور الذي أعدَّته الهيئة، ولا يمتُّ لها بِصلة، بدايةً من صلاحيات رئيس الجمهورية وغياب سلطة مضادة له كما هو الحال في الأنظمة الرئاسية.
يُصنِّف مشروع قيس سعيّد السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، كوظائف، ويقرُّ بأنه لا سلطة إلا للشعب التونسي. في حين وصل مشروع الدستور الذي صاغته لجنة بلعيد في نفس نهج تقسيم السلطات الثلاث. ويتيح مشروع دستور سعيّد كذلك له تعيين الحكومة وإقالتها دون وجوب موافقة البرلمان.
أصبح من الواضح لدى جزء كبير من النخب في تونس أن الرئيس قيس سعيّد ماضٍ، بالفعل، في مشروع البناء القاعدي مع تحويل النظام السياسي للبلاد إلى نظام يصفه المختصون بـ"النظام الرئاسوي"، بعد ما ورد في مشروع الدستور الذي صاغه سعيّد من تجميع مخيف للسلطات في يد الرئيس دون وجود أي سلطة مضادة له.
هذا ويتألف مشروع الدستور الذي نشره قيس سعيّد، من 142 فصلاً، تسبقها توطئة، وموزعة على 10 أبواب، منها الباب الأول الذي يتعلق بالأحكام العامة، والباب الثاني الذي يتعلق بالحقوق والحريات. ومن المنتظر أن يُطرح مشروع الدستور المنشور في الجريدة الرسمية للاستفتاء الشعبي يوم 25 يوليو/تموز المقبل.
نوضح في هذا التقرير أبرز وأهم النقاط المختلفة بين المسودتين، ودلالات هذا التغيير الذي قام به الرئيس التونسي على المسودة الأصلية.
محاسبة رئيس الجمهورية
نصت مسودة الدستور التي أعدّتها اللجنة الاستشارية، والتي نشرها رئيسها الصادق بلعيد في جريدة الصباح اليومية، على إمكانية سحب الثقة من رئيس الجمهورية وعزله في حال ارتكابه خرقاً جسيماً للدستور، عبر لائحة موقَّع عليها من طرف أغلبية الثلثين في البرلمان.
لكن في المقابل، سكت مشروع الدستور الذي نشره الرئيس سعيد عن تلك الوضعية، ولم يتناول بتاتاً الحالات التي يُمكن فيها عزل الرئيس أو الجهة التي لها تلك الصلاحية.
صلاحيات تشريعية للرئيس
منح سعيد لنفسه صلاحية تشريعية بمواصلة إصدار المراسيم إلى حين انتخاب برلمان جديد، وانطلاقه في عمله التشريعي دون إفساح المجال أمام قابلية الطعن في المراسيم بالتنصيص. فيما اقترحت اللجنة الاستشارية أن تكون المحكمة الإدارية هي الجهة التي تُمارس رقابة تالية على المراسيم التي سيواصل الرئيس قيس سعيد إصدارها خلال الفترة المقبلة.
شغور منصب الرئيس
أما في حالة الشغور الدائم لمنصب رئيس الجمهورية، فتُحال الصلاحيات إلى رئيس مجلس النواب بحسب مشروع الدستور المنشور في جريدة الصباح، في المقابل نص دستور قيس سعيّد على أن رئيس المحكمة الدستورية هو من يتولى مهام الرئيس في حال شغور المنصب.
تمديد ولاية الرئيس
الفرق الأخطر بين مشروعي الدستورين، وخلافاً لتجميع كل السلطات بيد رئيس الجمهورية وغياب سلطة مضادة، وفق عديد من المختصين في القانون الدستوري من ضمنهم العميد الصادق بلعيد، هو ما نصّ عليه مشروع سعيّد في فصله التسعين من إمكانية تمديد ولاية الرئيس بقانون في حال تعذَّر إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد (قبل 3 أشهر من المدة الرئاسية) بسبب حرب أو خطر داهم.
من برلمان إلى غرفتين
أحد أهم الفروقات بين مشروعي الدستورين، والتي تثير المخاوف؛ لفتحها الباب أمام تنفيذ مشروع الرئيس سعيد المتمثل في البناء القاعدي، هو ما نصّ عليه مشروعه من وجود غرفتين تمارسان الوظيفة التشريعية بتفويض من الشعب التونسي صاحب السيادة دون التنصيص على صيغة انتخابهما سواء بصفة مباشرة كما هو الحال للرئيس أو غيرها من الصيغ الانتخابية.
ففي مقابل اقتراح اللجنة الاستشارية لصياغة مشروع الدستور اضطلاع برلمان يُنتخب مباشرة من الشعب بالسلطة التشريعية، نص دستور سعيد على وجود مجلس نيابي أوّل يسمّى "مجلس نوّاب الشعب" ومجلس نيابي ثانٍ يسمى "المجلس الوطني للجهات والأقاليم"، وهو الذي يثير تخوفات كبيرة جدّاً؛ لكونه الباب المفترض لتنفيذ الرئيس قيس سعيد مشروع البناء القاعدي.
سحب الوكالة وإسقاط الحكومة
في نفس اتجاه مشروع البناء القاعدي الذي دأب سعيد على ترويجه منذ عام 2011 عقب سقوط نظام بن علي في تونس، ينصّ مشروع دستوره على إمكانية سحب الوكالة من نائب البرلمان، والتي كان سعيد يقول عنها في كل خطاباته السابقة: "سحب الوكالة ممن خان الأمانة"، فيما لا يتطرّق مشروع اللجنة الاستشارية إلى نقطة سحب الوكالة من النائب إطلاقاً.
كما يتيح مشروع النص الدستوري الذي نُشر في صحيفة الصباح الأحد، للبرلمان توجيه لائحة لوم للحكومة التي يُعيِّنها الرئيس مع شرط توقيع ثلث أعضاء البرلمان لتقديمها والأغلبية المطلقة للمصادقة على لائحة اللوم وإسقاط الحكومة، إلا أن مشروع سعيّد نصّ على وجوب توافر نصف أعضاء الغرفتين التشريعيتين، أي البرلمان والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، لتوجيه لائحة اللوم ضدّ الحكومة وتصويت أغلبية الثلثين لأعضاء المجلسين مجتمعين عليها لإسقاط الحكومة.
المحكمة الدستورية
المشروع الذي صاغه بلعيد، نصَّ على أن المحكمة الدستورية متنوعة التركيبة، حيث تتكون من أساتذة قانون وقضاة سامين ومحامين ويُعيَّنون بالتساوي بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، إلا أن الرئيس سعيّد أورد في مشروعه أن تركيبة المحكمة الدستورية تتركب فقط من القضاة حسب الأقدمية في مناصب قضائية عُليا، والتي من المرجّح أن يُصدر قانوناً يخصّ نفسه بتعيينهم فيها.
من باب اقتصادي إلى معركة الهوية
أحد أكبر الاختلافات بين النصين الدستوريَّين يتمثّل كذلك، في تخصيص مشروع دستور اللجنة الاستشارية باباً كاملاً، وهو الباب الأول، للجانب الاقتصادي التنموي للدولة والذي ينص على دور الدولة في الشأن الاقتصادي والتنموي، إلا أن سعيد ألغى الباب الاقتصادي بالكامل وعوَّضه بباب يتناول هوية الشعب التونسي ويعتبره جزءاً من الأمة الإسلامية، فيما يوصف بأنه مزيج من ترضيات للقوميين وقواعد الإسلاميين.
تفعيل الدستور في كل الأحوال
ينصُّ باب الأحكام الانتقالية في مشروع دستور الصادق بلعيد، على أن دخول الدستور حيّز النفاذ يكون إثر إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بأن نتائج الاستفتاء أفضت إلى موافقة الشعب بأغلبية الأصوات المصرح بها، إلا أن الرئيس سعيّد أورد في الفصل الـ139 من مشروع دستوره أنه يدخل حيز النفاذ "ابتداءً من تاريخ الإعلان النهائي عن نتيجة الاستفتاء من قِبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات"، دون التنصيص على وجوب الموافقة عليه.
دستور مُخيف
أستاذ القانون الدستوري خالد الدبابي اعتبر في حديث مع "عربي بوست"، أن مشروع الدستور الذي نشره الرئيس قيس سعيد في الجريدة الرسمية "مخيف"، ولا يُمكن أن يؤدي إلا إلى نظام رئاسوي صرف وديكتاتوري بعدما منح الرئيس قيس سعيد لنفسه صلاحيات شبه مُطلقة، دون تحديد لسلطة يُمكن أن توقف تغوُّله أو تغوُّل من سيليه بالرئاسة، في عودة بالبلاد إلى ما قبل ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011.
كما أبدى أستاذ القانون الدستوري تخوُّفه مما نصَّ عليه الدستور من إمكانية التمديد للرئيس في ولايته بقانون في حال وجود خطر داهم مع إفراده بتأويل الخطر الداهم، وغموض طريقة تعيين أعضاء المحكمة الدستورية، التي من المفترض أن يكون لها الحسم في تأويل صورة الخلاف.
إضافة إلى ذلك، طرح المختصّ في القانون الدستوري خلال حديثه مع "عربي بوست"، إشكالية وجود أغلبية في البرلمان مُعارضة للرئيس، حيث يُمكنها رفض كل مشاريع الحكومة التي يعيّنها الرئيس دون توجيه لائحة لوم ضدّها، مما يعيد البلاد إلى دائرة مُفرغة من الأزمات دون إمكانية حلّ البرلمان في تلك الحالة من طرف رئيس الجمهورية.
هذا وقد أعلن الرئيس التونسي، في 25 يوليو/تموز 2021، دخول البلاد في حالة استثنائية جمع وفقها كل السلطات بيده بعد قراره إقالة الحكومة وتعليق أعمال البرلمان ومن ثم حلّه لاحقاً، ليكشف بعد ذلك عن خارطة طريق سياسية بدأت باستشارة إلكترونية، وستمرّ باستفتاء على مشروع الدستور في 25 يوليو/تموز المقبل، قبل إجراء انتخابات تشريعية في 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل.