طالت العديد من الانتقادات مسار صياغة مشروع الدستور الجديد لتونس -الذي عرضه الرئيس قيس سعيد للاستفتاء- بسبب اقتصار لجان الحوار التي أُنشئت لمناقشة محتواه على المقربين من الرئيس فقط، من سياسيين وخبراء قانون دستوري وجزء من النخبة الموالية لسعيد، وإقصاء المعارضين والمختلفين معه حول تصور الدستور الجديد. لكن الانتقادات لم تقف عند هذا الحد، وتوسعت المعارضة لهذا المسار منذ نشر مسودة الدستور الجديد، الذي سيتم الاستفتاء عليه بـ"نعم" أو "لا" بتاريخ 25 يوليو/تموز الجاري بالرائد الرسمي (الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية).
المثير في الموضوع أن الفصل ،139 من باب الأحكام الانتقالية في مسودة الدستور الجديد، ينص على أن الدستور يدخل حيز التطبيق من تاريخ الإعلان النهائي عن نتائج الاستفتاء من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، دون الإشارة صراحة وبشكل دقيق، كما هو الحال مع دساتير الدول الديمقراطية لنتائج الاستفتاء، وما إذا كانت ستعتمد لمعرفة مصير الدستور بعد التصويت أم لا، مما يفتح باب التأويل بالنسبة للمراقبين للعديد من الاحتمالات، من بينها إمكانية تمرير الدستور حتى لو تم التصويت بالرفض بما أن هذه الجزئية لم تُدرج في هذا الفصل.
ويتكوَّن مشروع الدستور الجديد من 10 أبواب و 142 فصلاً، توزَّعت على عدة محاور، أهمها الأبواب التي أُفردت للسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتلك التي أُفردت للحقوق والحريات والأحكام العامة.
الدستور التونسي الجديد.. نظام رئاسي، أم رئاسي تسلطي؟
يمنح مشروع الدستور الجديد رئيس الجمهورية حصانة وصلاحيات أكثر بكثير من دستور 2014، ويقلص دور البرلمان، بحيث يحرمه من حقه في مراقبة عمل الرئيس أو الحكومة الذي كان في السابق من أبرز صلاحيته.
وينص الدستور الجديد، في بابه الرابع المخصص للسلطة التنفيذية التي وردت تحت عبارة "الوظيفة التنفيذية"، على أن من مهام الرئيس تعيين رئيس للحكومة ويُعيّن أعضاؤها باقتراح من رئيسها، كما أن الحكومة مسؤولة في تصرفها أمام رئيس الجمهورية بدل رئيس الجمهورية، كما هو الشأن في السابق، ولا يتطرق مشروع الدستور الجديد لدور البرلمان في مراقبة عمل الرئيس أو الحكومة كما هو معمول به في الأنظمة النيابية وشبه النيابية.
بالإضافة إلى ذلك، وحسب الفصل الـ110، لا يُسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أداء مهامه من تجاوزات للدستور وحل للبرلمان والمؤسسات الدستورية دون مسوغات دستورية او قانونية واضحة، أو كذلك عزل القضاة دون المرور بالمسار التأديبي أو إعطائهم المجال للدفاع عن أنفسهم.
من ضمن الصلاحيات الأخرى التي يمنحها الدستور الجديد لرئيس الدولة "إسناد الوظائف العليا المدنية والعسكرية في الدولة باقتراح من رئيس الحكومة"، وهنا يكون دور رئيس الحكومة شكلياً؛ لأنه معيَّن من قبل الرئيس، ولا يستطيع الاعتراض على قراراته، وإلا يتعرض للعزل والإقالة.
هذا بالإضافة للعديد من الصلاحيات الأخرى الموجودة أصلاً في دستور 2014، سواء تلك المتعلقة برئاسة مجلس الأمن القومي، أو تخطيط سياسات الدولة الخارجية وإعلان السلم والحرب …إلخ.
ويرى مراقبون أن كل هذه الصلاحيات الموسّعة لرئيس الجمهورية فيها استحواذ على صلاحيات السلطة التنفيذية في إدارة شؤون البلاد، واتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية الضرورية في إدارة دفة الحكم، وعلى صلاحيات البرلمان في مراقبة أداء الحكومة ومساءلتها وسحب الثقة منها، في حين أنه لا يمكن في الدستور الجديد عزل الرئيس، حتى وإن خرق الدستور بشكل عميق.
والخميس 30 يونيو/حزيران 2022، قال مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في "اللجنة الدولية للحقوقيين" سعيد بن عربية لوكالة فرانس برس إن مشروع الدستور هذا "يطيح بمبدأ الفصل بين السلطات" ويؤسس "نظاماً رئاسياً بلا ضوابط أو توازنات مع رئيس مطلق الصلاحيات وبرلمان عاجز وقضاء مقلمة أظافره".
برلمان برأسين في تونس
جاء في الفصل الـ56 من الدستور الجديد أن الوظيفة التشريعية – وليس السلطة – يقوم بها مجلس نيابي أول يُسمى مجلس نواب الشعب ومجلس نيابي ثانٍ يسمى المجلس الوطني للأقاليم. هذا يعني أن مفهوم البرلمان القديم بغرفة واحدة انتهى، وأصبح هنالك مجلسان للبرلمان لا يمكن أن يتم تمرير قانون جديد أو قرار مصيري في الاقتصاد أو السياسة الخارجية أو الأمن دون مصادقة الغرفتين عليه، مما يعقِّد عمل البرلمان، ويطرح تساؤلات عن جدوى هذا التصور للبرلمان الذي يمكن أن يكون عائقاً ربما أمام قرارات الرئيس.
ملاحظون يعتبرون أن هذا التصور الجديد لمفهوم البرلمان يتقاطع مع توجهات الرئيس في التأسيس لنظام سياسي قاعدي يقوم على المجالس المحلية والإقليمية التي ستكون ممثلة في البرلمان، بما أن التصويت في انتخابات المجلسين النيابيين، حسب القانون الجديد، ستكون بطريقة غير مباشرة من القاعدة للقمة. بحيث سيتم انتخاب المجالس الجهوية أولاً، ثم بعد ذلك تعيين أعضاء من هذه المجالس ليمثلوهم في البرلمان الجديد.
وهو ما يتجانس تقريباً مع مخرجات الاستشارة الوطنية التي سبقت صياغة الدستور، وتنص على نظام الاقتراع على الأفراد بدل القائمات الحزبية، وتقنين مسألة سحب الوكالة من النواب في حال ارتأت السلطة التنفيذية ذلك. كل ذلك يتجانس ومفهوم الرئيس سعيد للنظام السياسي القاعدي الذي لا يعترف بالأحزاب والكيانات الوسيطة بين الشعب وحاكمه.
من جانبه، قال رئيس الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية (مستقلة) العياشي الهمامي إن "ركائز الدولة الديمقراطية غير متوفرة في الدستور الجديد".
وأضاف الهمامي في تصريح لوكالة الأناضول أن السلطات، وفق الدستور المنشور، "أصبحت بيد الرئيس الذّي قسّم السلطة التشريعية لجزأين (مجلس نيابي ومجلس جهات وأقاليم) مما ترك طريقة الانتخاب للمجالس التشريعية غامضة ليفتح الباب على نظام انتخابي قاعدي (يتم عبر المجالس المحلية وصولاً إلى المجالس النيابية)".
واعتبر أنه "تم المرور لمرحلة جديدة يستوفي فيها سعيد الاستيلاء على جميع دواليب الدولة التّونسية ليؤسس لدكتاتورية جديدة".
موقع الدين من الدستور التونسي الجديد
ألغى مشروع الدستور الجديد للرئيس قيس سعيد واحداً من أهم الفصول في دستور 2014، والذي جاء فيه أن "الإسلام دين الدولة التونسية"، ليلغي معه فصلاً آخر جاء ليخلق توازناً مع فصل دين الدولة، حيث يقر بـ"مدنية الدولة" وعوضهم بالفصل الخامس الذي ينص على أن "تونس جزء من الأمة الإسلامية، وتعمل الدولة على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية".
الداعية السلفي المعروف، البشير بن حسين، اعتبر أن الفصل الخامس من الدستور الجديد يلزم عليه منع توظيف الدين في العمل السياسي لأي حزب؛ لأن الدولة وحدها كافلة لشأن الدين وتحقيق مقاصده فقط، وتساءل "فهل ستلتزم دولتنا بذلك؟".
ورأى بن حسين، في تدوينة له على فيسبوك، أن الدستور الجديد أكثر "إسلاموية" إن صحّ التعبير من دستور 2014!
وفي ذات الاتجاه، أقر الأستاذ في القانون العام وأحد منظري الرئيس السابقين، الصغير الزكراوي، أمس الجمعة، أن "مشروع الدستور الجديد فيه ترضية لحركة النهضة؛ لأن رئيس الجمهورية كرَّس من خلاله بعض الأحكام الدينية مثل مقاصد الشريعة والإسلام.
واعتبر الزكراوي، في حديث لإذاعة شمس إف أم (محلية) أن رئيس الجمهورية أراد مغازلة التيارات القومية والإسلامية "بالمحافظة على مقاصد الشريعة".
بالمقابل، رأت نايلة الزغلامي، رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات (مستقلة) في تصريحات إعلامية، أن "إلغاء الفصل الثاني من الدستور -الذي ينص على مدنية الدولة- يعتبر ضرباً لمقومات ومكاسب المرأة".
وأضافت الزعلامي، "هذا إلى جانب إدراج مقاصد الشريعة والعرض والشرف، وهي مصطلحات غير قانونية قابلة للتأويل، وفي تأويلها يمكن أن تضيع الحقوق".
القضاء والهيئات الدستورية
لم يأتِ مشروع الدستور الجديد للرئيس سعيّد على الهيئات الدستورية على غرار الهيئة العليا لمكافحة الفساد والهيئة العليا للإعلام السمعي البصري، كما أنه تطرق للمجلس الأعلى للقضاء عرضاً كمؤسسة إدارية فاقدة للصلاحيات الدستورية، في حين أتى على ذكر الهيئة العليا للانتخابات التي قام بتعيين أعضائها بنفسه، والمحكمة الدستورية التي سيتم تعيين أعضائها التسعة من بين أقدم رؤساء دوائر قضائية بمحاكم التعقيب والمحكمة الإدارية ومحكمة المحاسبات، حسب ما جاء في الدستور الجديد، بلا انتخابات من مجلس النواب والمجلس الأعلى للقضاء كما كان معمولاً به في دستور سنة 2014.
تعيين أعضاء الهيئات الدستورية والقضائية بدل انتخابهم أو التوافق حولهم مع المؤسسات القطاعية التي تمثلهم يرى فيه البعض استنقاصاً من هيبة هذه المؤسسات واستحواذاً مباشراً على صلاحياتها بما أن التعيين يجعلها موالية لمؤسسة الرئاسة وفاقدة للاستقلالية.
يقول رئيس جمعية القضاة، أنس الحمايدي، إن توصيف الدستور الجديد للسلطة القضائية أنها "وظيفة قضائية" فيه تراجع كبير عن الضمانات الكبرى التي تضمنها دستور 2014.
واعتبر الحمايدي، في تصريحات إعلامية، أن رئيس الدولة أراد وضع نظرته الشخصية، لا نظرة التونسيين، والتي اعتبرها نظرة دونية للقضاء وانتقاصاً من دوره وفاعليته في المجتمع.
ردود فعل كثيفة ومتنوعة على صدور مسودة الدستور الجديد عبرت في أغلبها عن عدم رضا عن فحوى هذا الدستور، وخشية من أن يكون تأويل بعض الفصول المتعلقة بتغيير البنية السياسية للبرلمان لتتلاءم مع البناء القاعدي الذي يحلم سعيّد بإرسائه، وتوسيع صلاحيات الرئيس لتشمل السلطة الترتيبية للحكومة وصلاحيات البرلمان ستؤيد في النهاية لاستفراد الرئيس بالسلطة، والنزوع نحو الحكم الفردي المطلق.