رغم المساعدات العسكرية الضخمة التي يقدمها الغرب لأوكرانيا، فإن روسيا تمكنت من تحقيق انتصارات صريحة، واقتربت بشدة من تحقيق أهداف الرئيس فلاديمير بوتين، فمتى يعترف الغرب بالهزيمة أمام موسكو؟
المؤشرات على أن سيناريو هذا الاعتراف بالهزيمة ليست صادرة عن موسكو، بل تأتي من واشنطن، حيث يشكك مسؤولو إدارة جو بايدن "سراً" في قدرة كييف على استعادة السيطرة على أراضيها التي سيطرت عليها موسكو خلال الشهور الأربعة الماضية من الحرب، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
إذ إن الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، يمثل مواجهة جيوسياسية أوسع كثيراً من حدود أوكرانيا بين روسيا من جهة والغرب بقيادة أمريكا من جهة أخرى، على خلفية توسع حلف الناتو شرقاً نحو حدود موسكو، وهو ما يعتبره بوتين تهديداً لأمن بلاده القومي.
الإطاحة ببوتين وهزيمة روسيا عسكرياً
وفي هذا السياق الجيوسياسي، وضع الغرب أهدافه الخاصة من تلك المواجهة، رغم عدم الإعلان رسمياً عن تلك الأهداف، التي تمثلت في الإطاحة ببوتين من الحكم وإيقاع هزيمة عسكرية بروسيا، تُجبرها على الانسحاب من أوكرانيا، وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 24 فبراير/شباط الماضي، يوم بدء الهجوم الروسي.
وعبّر مسؤولون غربيون عن تلك الأهداف في تصريحاتهم العلنية مراراً وتكراراً، فالرئيس جو بايدن قالها صريحة: "لا يمكن أن يستمر بوتين في السلطة!"، ثم سعى البيت الأبيض للتخفيف من تلك التصريحات، واعتبرها "زلة لسان". بينما أكد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ووزيرة خارجيته ليز تراس على أن "بوتين لا يمكنه أن ينتصر في أوكرانيا"، وهي الرسالة التي يرددها كثير من الزعماء الغربيين.
ولتحقيق تلك الأهداف، اتبع الغرب سياسة مزدوجة، شقها الأول يتمثل في فرض عقوبات كاسحة وغير مسبوقة ضد روسيا، وُصفت بأنها "حرب اقتصادية نووية"، بينما تَمثّل شقها الثاني في تزويد أوكرانيا بمساعدات عسكرية ضخمة تخطت قيمتها حتى الآن عشرات المليارات من الدولارات، ولا تزال تتدفق تلك الأسلحة والعتاد دون توقف.
كما فتحت الدول الغربية أبوابها أمام مواطنيها من العسكريين السابقين "الراغبين" في الانضمام للفيلق الدولي، الذي أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن تشكيله للمساعدة في الدفاع عن بلاده أمام الهجوم الروسي. هذا بالطبع بخلاف التقارير التي تتحدث عن وجود مكثف لعملاء الاستخبارات المركزية الأمريكية على الأراضي الأوكرانية، لتزويد الأوكرانيين بسيل متدفق من المعلومات حول الجيش الروسي وتحركاته وعدته وعتاده.
وخلال أقل من أربعة أشهر عقد حلف الناتو اجتماعَي قمة لزعمائه، إضافة للاجتماعات مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع، والهدف الرئيسي هو مواصلة خنق روسيا اقتصادياً وسياسياً، ودعم أوكرانيا عسكرياً ومعنوياً، وفتح الاتحاد الأوروبي بابه أمام انضمام كييف رسمياً.
ولأن حلف الناتو ليس موحداً تماماً في موقفه من الحرب في أوكرانيا، فتركيا ثاني أقوى قوة عسكرية في الحلف تتبنى موقفاً أقرب للحياد، وتستضيف مفاوضات سلام بين موسكو وكييف، سعت إدارة بايدن إلى تشكيل ما يمكن وصفه بتحالف الراغبين لهدف واحد محدد ومعلن، وهو مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا على المدى البعيد، بهدف "إضعاف روسيا للأبد"، وهذه ليست تحليلات ولا توقعات من مراقبين، بل استراتيجية معلنة على لسان لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي نفسه.
لماذا تغيّر الموقف الأمريكي إذا؟
لكن الواضح أن الحقائق على الأرض تجبر الغرب، وبخاصة إدارة بايدن، على إعادة التفكير في سياسة النفس الطويل فيما يخص الحرب في أوكرانيا، وقال مستشارون لبايدن لشبكة CNN إنهم "يتناقشون داخلياً الآن بشكل مبدئي بشأن ما إذا كان على زيلينسكي أن يغير تعريفه لمصطلح انتصار أوكراني، بحيث يفتح الباب أمام احتمال أن تتقلص مساحة بلاده للأبد".
والمقصود هنا بطبيعة الحال هو أن زيلينسكي قد يضطر في نهاية المطاف للقبول بضم روسيا لبعض الأقاليم الشرقية، مثل دونباس وغيره، رغم أن هؤلاء المسؤولين، الذين تحدثوا للشبكة شرط عدم ذكر هويتهم، شددوا على أن إدارة بايدن لا تمارس ضغوطاً على كييف لتقديم تنازلات بهدف إنهاء الحرب.
وقال أحد المساعدين في الكونغرس، مطلع على تلك المناقشات، للشبكة الأمريكية، إن تقلص مساحة أوكرانيا لصالح روسيا ليس "سيناريو حتمياً" حتى الآن، لكنه أضاف أن الأمر يتوقف بشكل رئيسي على "مدى الدعم الذي تقدمه واشنطن لكييف"، مشيراً إلى أن الجيش الأوكراني كان قد طلب 48 نظاماً متعدداً لإطلاق الصواريخ والقذائف المدفعية كحد أدنى، لكن الأمريكيين لم يقدموا سوى 8 أنظمة فقط.
وفي مطلع يونيو/حزيران الجاري، كان بايدن قد عبر عن إصراره على مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا، حتى تتمكن من تحقيق انتصارات على الأرض، تجعل لها "اليد العليا" في مفاوضات وقف إطلاق النار وتسوية الصراع لاحقاً، وهو ما نتج عنه بالفعل تزايد الشحنات العسكرية وتنوعها، ليس فقط من جانب الإدارة الأمريكية، ولكن أيضا من جانب حلفائها الغربيين.
لكن النتيجة على الأرض خلال الأسابيع القليلة الماضية جاءت معاكسة تماماً لما يعمل من أجله بايدن وحلفاؤه، إذ تمكنت القوات الروسية من تحقيق انتصارات كبيرة وتقدُّم لافت على الأرض، قبل أن يتوج ذلك كله بإحكام السيطرة على مدينة سيفيردونيتسك الاستراتيجية في منطقة لوغانسك، ضمن إقليم دونباس.
فالسبت 25 يونيو/حزيران، قالت روسيا وأوكرانيا إن القوات الروسية سيطرت بالكامل على مدينة سيفيرودونيتسك، في أكبر انتكاسة لكييف بساحة المعركة منذ ما يزيد على شهر، وفي أعقاب واحدة من أكثر المعارك دموية في الحرب، بحسب رويترز.
وتمثل منطقتا لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتان معاً إقليم دونباس، وكان اعتراف بوتين باستقلالهما قبل الهجوم بثلاثة أيام- رغم إعلانهما الاستقلال عام 2014- إيذاناً بأن الحرب باتت وشيكة بالفعل. إذ إن الانفصاليين كانوا يسيطرون فقط على ثلث أراضي إقليم دونباس، بينما يسيطر الأوكرانيون على الثلثين، وكانت قوات الطرفين متواجهة على طول خط التماس، الذي فرضته اتفاقيات مينسك عام 2015.
وسبق ذلك الانتصار الروسي في سيفيردونيتسك انتصار آخر لا يقل أهمية، تمثّل في فتح "ممر بري" يربط شبه جزيرة القرم بإقليم دونباس عبر الأراضي الروسية، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الثلاثاء 7 يونيو/حزيران، أن القوات المسلحة الروسية أوجدت "الشروط اللازمة للاستئناف الكامل لحركة السكك الحديدية بين روسيا ودونباس وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم"، وبدأت في تسليم البضائع إلى المدن الأوكرانية ماريوبول وبيرديانسك وخيرسون على امتداد 1200 كيلومتر من خطوط السكك الحديدية التي أُعيد فتحها.
اعتراف غربي "مبطن" بانتصار روسيا
تلك الانتصارات التي حققتها روسيا على الأرض في دونباس بدأت تنعكس بشكل واضح في تصريحات المسؤولين الغربيين، وأيضاً في التغطية الإعلامية الغربية للحرب الأكبر في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.
فرئيس الوزراء البريطاني جونسون تحدث قبل أيام عن أن كييف قد تجد نفسها مضطرة إلى قبول "سلام سيئ"، والمصطلح هنا يعني أن تستسلم أوكرانيا لفكرة أن أقاليمها الشرقية، وبخاصة دونباس، قد نالت مصير شبه جزيرة القرم من قبل، وأصبحت تحت السيطرة الروسية. وهذا السيناريو هو أحد الاحتمالات في تحليلات ما قد تنتهي إليه الحرب في أوكرانيا، منذ بداية الهجوم الروسي.
وتوجهت شبكة CNN بسؤال مباشر إلى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال وجوده مع بايدن في قمة السبع: "هل تحقق روسيا انتصارات على أوكرانيا"؟، حيث استهل جيك تابر، مقدم البرامج البارز في الشبكة، سؤاله بالإشارة إلى الانتصارات الروسية في دونباس والصواريخ التي تسقط على كييف وباقي المدن الكبرى في الغرب، إضافة إلى زيارة وزير الدفاع الروسي لقواته في شرق أوكرانيا.
ولنتوقف سريعاً أمام إجابة بلينكن: "جيك، دعنا لا نخلط بين الأهداف التكتيكية والأهداف الاستراتيجية. كان لبوتين أهداف استراتيجية محددة تتمثل في إنهاء سيادة أوكرانيا ومحوها من على الخريطة، وضمها إلى روسيا تماماً، وقد فشل في تحقيق هذه الأهداف، فأوكرانيا دولة ذات سيادة وستظل موجودة للأبد. أما الأهداف التكتيكية فهي تتغير، فالقتال في شرق أوكرانيا شرس ويحقق طرف مكاسب هنا بينما يحقق طرف مكاسب هناك وهكذا".
إجابة بلينكن بطبيعة الحال تعكس وجهة النظر الغربية، لكن ماذا عن وجهة النظر الروسية هنا؟ كان بوتين قد حدد خطوطاً عريضة للأهداف الاستراتيجية التي تسعى موسكو لتحقيقها من خلال ما سماها "عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا"، فكلمتا الحرب أو الغزو لا تردان على لسان بوتين أو أي من مسؤوليه على الإطلاق.
"منع عسكرة كييف، والقضاء على القوميين النازيين الذين يضطهدون الأقلية الروسية في أوكرانيا، وتحرير إقليم دونباس"، تلك هي الأهداف التي قال بوتين إنه يسعى لتحقيقها. وفي هذا السياق، بدأ الهجوم الروسي كاسحاً ومنتشراً في جميع الأراضي الأوكرانية، وتم فرض حصار على العاصمة كييف وجميع المدن الكبرى، تحت غطاء كثيف من الضربات الجوية الصاروخية، وباستخدام الطائرات المقاتلة، وتمكنت روسيا من فرض سيطرة شبه كاملة على الأجواء الأوكرانية، بعد أن دمرت البنية العسكرية الرئيسية للجيش الأوكراني.
وبعد مرور أقل من شهرين من بدء العمليات العسكرية، أعلنت موسكو انتهاء المرحلة الأولى من الهجوم، وبدأت في سحب قواتها من الغرب الأوكراني، ومن مشارف كييف وغرب نهر دنيبرو بصفة عامة.
وأعلنت روسيا تركيز عملياتها العسكرية في شرق أوكرانيا، وقال بوتين يوم 9 مايو/أيار الماضي، في خطابه بمناسبة احتفالات النصر على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، إن الهدف الآن هو "تحرير" إقليم دونباس بالكامل، وهو ما يعني ببساطة أن إحكام روسيا سيطرتها على الإقليم يعني تحقيق بوتين أهدافه بصورة شبه كاملة، أو باختصار تحقيق "الانتصار".
متى يقبل الغرب الأمر الواقع إذاً؟
تسيطر القوات الروسية حالياً على أكثر من 80% من أراضي إقليم دونباس، وتقترب من تطويق ما تبقّى من القوات الأوكرانية بشكل كامل، ويبدو أن المساعدات العسكرية الضخمة من الغرب لأوكرانيا قد لا تنجح في قلب موازين المعركة على الأرض هناك، باعتراف الخبراء الغربيين أنفسهم.
فأوكرانيا تعتمد بشكل أساسي على الأسلحة السوفييتية، شأنها شأن روسيا بطبيعة الحال، وتواجه القوات الأوكرانية في دونباس نقصاً حاداً في الذخائر الخاصة بأنظمة السلاح السوفييتية، وكما جاء في تقرير CNN، فإن مخازن الذخيرة السوفييتية تتقلص بشدة، لكنها لم تنفد بعد.
ونقلت الشبكة عن مسؤول بارز في البنتاغون قوله إن "البحث عن تلك الأنواع من الذخيرة مستمر، وهناك دول في أوروبا الشرقية تمتلك مخزوناً منها، لكن تخلي تلك الدول عن مخزونها يكون رهناً بتعويضها عنه بمقابل غربي حديث وهي عمليات تستغرق بعض الوقت".
وفي هذا السياق تقلب أمريكا وحلفاؤها الأرض بحثاً عن الذخائر التي تعود للحقبة السوفييتية، وتُناسب المدافع وأنظمة التسليح الأوكرانية، مثل ذخائر المدافع عيار 152 ملم، حيث إن مدافع الناتو تستعمل ذخائر أضخم عيار 155 ملم. لكن أحد المسؤولين في البنتاغون أخبر الشبكة الأمريكية بأن البحث عن تلك الذخائر قد أوشك على نهايته لأنها ببساطة لم تعد موجودة.
وقد يتبادر إلى الذهب سؤال منطقي: ماذا عن الأسلحة الغربية؟ يواجه الغرب مشاكل تتعلق بصعوبة توصيل تلك الأسلحة لمناطق القتال في دونباس من جهة، ومن جهة أخرى يحتاج الأوكرانيون أسابيع، وربما شهور للتدريب على تلك الأسلحة، وهو وقت غير متوفر بطبيعة الحال، كما أن نقل الجنود من ساحة القتال إلى الغرب لفترة التدريب رفاهية غير متوفرة أيضاً، في ظل احتدام المعارك وتقدم الروس بقوة.
الخلاصة هنا هي أن روسيا أصبحت قريبة للغاية من إحكام قبضتها على دونباس، وهو ما يعني أن الغرب سيكون مضطراً للاعتراف بانتصار بوتين في نهاية المطاف، خصوصاً أن العالم يواجه أزمات خانقة من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء ونقص الحبوب والتضخم، بينما لا يبدو أن الاقتصاد الروسي يعاني بنفس قدر أوروبا والولايات المتحدة.