يبدو أن إيران لم تستفِد من الأزمة الأوكرانية كما كانت تتوقع في بدايتها، فلم تحقق صادرات النفط الإيرانية الأرباح التي كانت تتوقعها من أزمة الطاقة، فيما تراجعت إيراداتها من تصدير الصلب، وكل ذلك بسبب حيلة لجأت لها روسيا ألحقت ضرراً كبيراً بطهران.
ففي بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، رأت إيران فيها فرصة سانحة، وعوَّلت على استفادة متوقعة من الارتفاع العالمي في أسعار الصلب والنفط، وظنَّت أن الحرب ستكون سبيلاً لتحصيل المزيد من الأرباح عبر زيادة صادرات النفط الإيرانية، لا سيما أنها جاءت في وقت اشتدت فيه وطأة العقوبات الغربية على النفط، الذي يعد مصدر دخلها الرئيسي.
لكن الرياح لم تأتِ بما اشتهت سفن إيران، فقد أخذت روسيا تقتطع من حصة إيران لبيع النفط في أسواقها الرئيسية، بما عمدت إليه من تقديم خصومات جذابة على بيع النفط والصلب، وبذلك انتزعت من إيران هيمنتها التقليدية على المعروض الرخيص من هذه السلع، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
الصين هي السوق الرئيسي للنفط الإيراني
كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قد انسحب من الاتفاق النووي عام 2018، وأعاد فرض العقوبات على إيران، وكان أشدها صرامة فرض عقوبات على أي مشترٍ للنفط الإيراني.
ومنذ فرض العقوبات الأمريكية على طهران تزايدت وتيرة تهريب صادرات النفط الإيرانية، حيث يجرى نقلها بين السفن في أعالي البحار، إضافة إلى تهريبها بشاحنات عبر العراق وأذربيجان، حيث يعتقد أن معظم صادرات النفط الإيراني تذهب إلى الصين، ثم بعدها بفارق كبير إلى سوريا.
ولكن انخفضت صادرات النفط الإيرانية إلى الصين على مدى الأشهر الماضية، وأصبحت روسيا قبلة الصين لاستيراد المزيد من النفط. وكلما زادت العقوبات الغربية على نفط موسكو، قلَّ الطلب عليه في أوروبا، وزادت كميات النفط الخام المتجهة إلى الصين.
كيف تغلبت موسكو على صادرات النفط الإيرانية الرخيصة؟
للتعويض عن انخفاض الطلب من أسواقها التقليدية في أوروبا بعد العقوبات الغربية وحتى قبلها، سعت موسكو إلى زيادة الصادرات إلى آسيا من خلال تقديم خصومات على أسعار خاماتها بنحو 30 دولاراً للبرميل في الأسواق الآسيوية، وهو ما يزيد بمقدار 10 دولارات للبرميل عن خصم إيران لعملائها الآسيويين، وخاصة الصين، بحسب رويترز.
وتراجعت صادرات النفط الإيرانية، حيث تقطعت السبل بنحو 40 مليون برميل من النفط الإيراني – أي ما يقرب من نصف النفط الخام الذي انتجته إيران في مارس/آذار وأبريل/نيسان- على ناقلات في انتظار العملاء.
وقال حميد حسيني، رئيس اتحاد مُصدري النفط والغاز في إيران، في تصريحات نقلتها وسائل إعلام محلية، "إن صادرات النفط الإيرانية إلى الصين تراجعت بنسبة 34% في شهر مايو/أيار. فالصين تقع إلى جنوب روسيا، وهما جارتان، وروسيا لديها ميناء في هذه المنطقة يمكِّنها من نقل النفط الخام بسهولة إلى الصين. ولا تقتصر أسواق روسيا في هذه المنطقة على الصين، فقائمة العملاء المحتملين لروسيا تشمل دول جنوب شرق آسيا أيضاً".
وقالت شركة البيانات كبلر" Kepler"، التي توفر أيضاً خدمات تتبع الناقلات، إن التقديرات الأولية أظهرت أن النفط الخام الإيراني ومكثفات الغاز التي تم تحميلها في مايو/أيار كانت حوالي 400 ألف برميل يومياً، مقارنة بـ820 ألف برميل في أبريل/نيسان و908 آلاف برميل في مارس/آذار.
طهران تفقد أسواقها التقليدية
شهد الاقتصاد الإيراني قدراً من النمو العام الماضي، فقد أظهرت أحدث التقارير الواردة ارتفاعَ الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.1% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الفارسي الأخير، الذي انتهى في مارس/آذار. لكن هذا النمو ينقص معدله إلى 3.8% إذا نزعنا منه الدخل الوارد من بيع النفط، وهو ما يبرز أهمية صناعات النفط والغاز في النمو الاقتصادي لإيران.
لم ينفِ وزير النفط الإيراني، جواد أوجي، التقارير التي تحدثت عن منافسة روسيا لإيران في أسواق النفط. وقال في 18 مايو/أيار، إن "روسيا عرضت خصومات على مشتري النفط، لكن إيجاد الزبائن يستغرق بعض الوقت من روسيا، بسبب العقوبات التي فرضها الغرب عليها".
وقال خبير إيراني في مجال الطاقة، لموقع Middle East Eye، إن "موسكو توجهت إلى الهند والصين بعد اندلاع الحرب على أوكرانيا، وهما من الأسواق الرئيسية لاستيراد النفط الإيراني. كان يمكن لإيران أن تغتنم ارتفاع أسعار النفط في العالم لاستعادة بعض أسواق النفط التي فقدتها، لكن ما نشهده الآن هو أسوأ مسار على إيران، فحتى أسواقها الرئيسية تُؤخَذ منها".
وأضاف الخبير الإيراني: "التنسيق مع الروس كان يمكن أن يساعد إيران في تقليص خسائرها، لكنني سمعت أن الروس لا يريدون حتى التنسيق مع طهران بشأن الخصومات والأسعار".
الخسارة الإيرانية الكبرى في مجال الصلب
عندما شنَّت روسيا الحرب على أوكرانيا، رأى مصنعو الصلب الإيرانيون فرصة كبيرة في ذلك لزيادة صادراتهم. لكن الأمور لم تسِر كما أرادوا، فقد عرضت موسكو منتجاتها من الصلب بسعر مخفض، واستقطبت إليها مشترين اعتادوا استيراد الصلب من إيران.
قال خبير اقتصادي إيراني إن "إيران كانت تستحوذ على حصة جيدة من سوق تصدير الصلب إلى الدول المجاورة ودول شرق آسيا، وخاصة إلى الصين، التي تعد من أكبر مستوردي الصلب، لكن روسيا والحكومة الإيرانية أفسدتا ذلك كله".
وأوضح الخبير الاقتصادي أن "أفغانستان والصين وكوريا الجنوبية وتايلاند كانوا عملاء رئيسيين لشراء الصلب الإيراني في آسيا، لكنهم الآن يتوجهون نحو روسيا. وهذا يمثل خطراً على أرباح إيران البالغة 6 مليارات دولار من تصدير الصلب".
وقال مصدر في صناعة الصلب الإيرانية، إن العقوبات المفروضة على إيران تجعل حصتها من سوق تصدير الصلب محدودة بالفعل، لكن إيران "تمكنت من تعزيز مكانتها في هذا السوق وبناء الثقة بها. وهي تقدم أسعاراً أقل بنسبة 20% من أسعار بيع الصلب في السوق السوداء".
كانت إيران تحتل الترتيب العاشر في قائمة الدول المنتجة للصلب في عام 2021، وكانت روسيا في المركز الخامس، والصين في المركز الأول. وقبل الحرب على أوكرانيا، كانت شركات صناعة الصلب الروسية هي أكثر الشركات ربحاً من هذه الصناعة.
أما الآن، فإن شركات الصلب الروسية الكبرى، مثل "سفرستال" Severstal، تقدم ألواح الصلب للمستوردين في آسيا بخصومات تصل إلى 40% عن سعر السوق. وبطبيعة الحال، فإن هذه الخصومات تنتقص بشدة من أرباح المنتجين الإيرانيين.
وقال المصدر من شركة الصلب الإيرانية لموقع MEE: "نشهد الآن تراجعاً حاداً لصادرات إيران من الصلب، والسبب في ذلك هو الخصومات الكبيرة التي يقدمها الروس".
الحكومة فرضت ضريبة على تصديره
بعيداً عن تأثير الخصومات الروسية، فإن شركات الصلب الإيرانية تتهم حكومة طهران بنصيبٍ من المسؤولية عن الأزمة التي تشهدها صناعة الصلب في البلاد، فقد فرضت الحكومة في أبريل/نيسان تعريفة جمركية بلغت نسبتها 18% على تصدير الصلب الخام، ولم تفعل شيئاً يذكر لمعالجة انقطاع التيار الكهربائي في مختلف مناطق البلاد.
كتب رسول خليفة سلطاني، رئيس رابطة منتجي الصلب الإيرانية، خطاباً إلى وزارة الصناعة والتعدين والتجارة الإيرانية، قال فيها إن "صناعة الصلب الإيرانية عجزت عن بلوغ إنتاجها المستهدف في السنة المالية 2021-2022، والذي كان من المقرر أن يبلغ 6 ملايين طن. وقد أدى هذا العجز إلى خسارة 4 مليارات دولار"، وأشار إلى أن "القيود المفروضة على إمدادات الطاقة، وانقطاع التيار الكهربائي، كانت السبب الرئيسي في هذه الخسائر".
وقال الخبير الاقتصادي إن حكومتي طهران وروسيا منعتا صناعة الصلب الإيرانية من الاستفادة من ارتفاع أسعار الصلب في السوق العالمية.
ويرى الخبير أن "الحكومة الإيرانية لما رأت ارتفاع الأسعار العالمية للصلب والأرباح الضخمة التي حققتها شركات تصدير الصلب، قررت السعي من أجل الحصول على حصة من هذا الربح. وهذا هو السبب في أنها أعلنت عن تعريفات جديدة. وقد حملت هذه القرارات الشركات المصنعة الإيرانية على زيادة أسعارها للعملاء الأجانب، وتزامن ذلك مع تقديم روسيا خصومات كبيرة للمشترين، فخسرت الشركات الإيرانية كثيراً من زبائنها في العالم".
وأضاف: "هذه الأزمة التي واجهتها صناعة الصلب الإيرانية ستكون لها تداعيات ضارة على النمو الاقتصادي الإيراني، ومن المحتمل أن تنحط بقيمة العملة الإيرانية مقابل الدولار، لأن صناعة الصلب لطالما كانت مصدراً مهماً للعملة الأجنبية في طهران خلال العقوبات الأمريكية الثقيلة على البلاد".
روسيا تنفي تعمدها منافسة إيران وترى فرصة للتعاون في مجال آخر
من جانب آخر، قال أندرو كوريبكو، المحلل السياسي المقيم في موسكو، لموقع MEE، إن موسكو لم تقصد الإضرار بحصة إيران في أسواق النفط والصلب، و"لم تحاول عن عمد انتزاع الأسواق من إيران، أو أي دولة أخرى".
ومع ذلك، أشار كوريبكو إلى أن "توجيه الحديث عن المنافسة في سوق الموارد بين روسيا وإيران يتجاهل سبيلاً محفزاً للتعاون بينهما ظهر في الوقت نفسه. وهذا السبيل هو تجدد الاهتمام بممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب".
ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب هو شبكةٌ يبلغ طولها 7200 كيلومتر من خطوط السكك الحديدية والسفن والطرق، التي ترمي إلى نقل البضائع بين الهند وإيران وأفغانستان وروسيا وآسيا الوسطى وأوروبا. وإيران وروسيا كلاهما عضو في هذا المشروع.
وقال كوريبكو: "لذلك، من المهم أن نضع هذه الفرصة طويلة الأمد في اعتبارنا عند الحديث عن المنافسة قصيرة الأمد بين روسيا وإيران على سوق الموارد في آسيا. فكلا البلدين يمكنه كسب المزيد إذا أقبل على زيادة التعاون مع نظيره في المجال اللوجستي، وهو أمر يحظى بأهمية كبيرة الآن".