إعلان الجيش الفرنسي مؤخراً إكمال انسحابه من مالي مع نهاية الصيف الحالي لم يكن مفاجئاً، بعد أن سبقه حديث الرئيس إيمانويل ماكرون، في فبراير/شباط الماضي، عن انسحاب منظم خلال 4 إلى 6 أشهر.
إلا أن هذا الانسحاب العسكري الفرنسي من مالي سيكون له انعكاساته وتداعياته على عدة أطراف، ويعيد ترتيب "أحجار الدومينو" بالمنطقة، بل في العالم.
فروسيا دخلت منطقة الساحل الإفريقي لخلط الأوراق وملء الفراغ الفرنسي ومحاولة للالتفاف على حلف شمال الأطلسي (الناتو) من الجنوب، كورقة ضغط أمام سعيه للاقتراب من حدودها الغربية.
وتسعى روسيا للتمدد في مناطق النفوذ الرخوة للدول الغربية في إفريقيا، واكتساب أصدقاء جدد، واستعادة الأصدقاء القدامى للاتحاد السوفييتي (1917-1991)، وإعادة تشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب بمساعدة الصين، بدل نظام القطب الواحد الذي تقوده حالياً الولايات المتحدة منفردة.
خلفيات الانسحاب
الانسحاب الفرنسي من مالي الذي تقرّر منذ نحو عام، وصل إلى مرحلته ما قبل النهائية، بعدما انسحبت قوات برخان (الفرنسية) من قاعدة ميناكا، في 13 يونيو/حزيران الجاري، قبل الانسحاب الأخير والنهائي المرتقب، في أغسطس/آب المقبل.
قاعدة ميناكا تقع في الجنوب الشرقي لمالي بمنطقة الحدود الثلاثة الملتهبة أمنياً، وتمثل المعقل الرئيسي لتنظيم داعش في الصحراء الكبرى، لذلك من المتوقع أن تسارع القوات المالية بدعم من عناصر شركة فاغنر الروسية للتمركز بها لمنع أي فراغ أمني.
وجاء هذا الانسحاب بعد إصرار السلطات الانتقالية في مالي على رحيل القوات الفرنسية من البلاد "فوراً" و"دون تأخير"، رافعة بذلك عنها أي غطاء قانوني أو شرعي لاستمرار وجودها على أراضيها، وإلا اعتبر ذلك بمثابة احتلال.
كما أنه يأتي عقب ضمان ماكرون ولاية رئاسية ثانية، في أبريل/نيسان الماضي؛ ما أتاح له الشروع في انسحاب هادئ من مالي بعد الانتهاء من ترتيب البيت الداخلي.
إلا أن احتدام الانتخابات البرلمانية الفرنسية بين التحالف الذي يقوده ماكرون وتحالف أحزاب اليسار بقيادة جون لوك ميلونشون، بين دورتي الانتخابات (12 و19 يونيو)، من شأنه أن يجعل من الانسحاب من مالي ورقة يلعبها الرئيس لاستمالة الناخبين الرافضين لتورط جيش بلادهم في الرمال الإفريقية المتحركة، بعد سقوط عشرات القتلى منهم في حرب لا تبدو لها نهاية قريبة.
فتوقيت الإعلان عن هذا الانسحاب لا يخلو من أجندة انتخابية، خاصة أنه تزامن أيضاً مع إلقاء القبض على قيادي في تنظيم داعش بالصحراء الكبرى، عشية الدور الأول من الانتخابات البرلمانية.
وكان الجيش الفرنسي أعلن، في 15 يونيو/حزيران، القبض على أمية ولد البقاعي، القيادي البارز في تنظيم داعش بالصحراء الكبرى، في مساء 11-12 يونيو/حزيران، خلال عملية لقوات برخان.
ويحاول الجيش الفرنسي من خلال هذا الإعلان التغطية على اضطراره للانسحاب تحت ضغط شعبي ورسمي في مالي، دون تحقيق أهدافه كاملة تاركاً المجال لروسيا لتحل مكانه.
لكن هذا النجاح الصغير (اعتقال قيادي في داعش) لم يكن كافياً لمنح تحالف الأحزاب الداعمة لماكرون الحفاظ على أغلبيتها في البرلمان.
فتحالف اليسار بزعامة ميلونشون، واليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان، أفسد على ماكرون فرحة الانتصار، ما سيجبره على التحالف مع أحزاب منافسة لتشكيل حكومة ائتلافية.
مَن يطوّق من؟
لم يمنع انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا من تعزيز وجودها في مالي، رغم استدعائها عناصرَ من فاغنر من ليبيا للقتال في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا، بحسب إعلام غربي.
ويعكس ذلك أهمية مالي في الاستراتيجية الروسية للبحث عن فضاءات حيوية جديدة لمنع تطويقها في فضائها الأوراسي، من خلال تحقيق انتصارات على فرنسا دون مواجهة مباشرة في الساحل الإفريقي.
وبعد يومين من انسحاب القوات الفرنسية من قاعدة ميناكا في مالي، توجه ماكرون إلى أوكرانيا رفقة زعيمي ألمانيا وإيطاليا، إلى أوكرانيا، لتأكيد دعم أكبر ثلاثة اقتصاديات أوروبية لكييف في مواجهة الجيش الروسي.
فماكرون ترك الحملة الانتخابية لحزبه جانباً ورمى بثقله في الحرب الأوكرانية ضد روسيا، وألقى بتصريحات صحفية ذات دلالات عميقة، من كييف قال فيها: "أوكرانيا تنتمي إلى العائلة الأوروبية، وهذه إشارة قوية نرسلها لروسيا، ندعم أوكرانيا، وسنقدم كل ما بوسعنا لتحقيق النصر".
إنها رسالة فرنسية لموسكو، يمكن تلخيص دلالاتها بجملة واحدة بأنكم أيها الروس "إذا انتصرتم علينا في مالي.. فسنجعلكم تتألمون في أوكرانيا".
فالمواجهة الروسية الفرنسية لن تتوقف في إفريقيا، بل سيتم نقلها إلى شرق أوروبا، حيث تعتقد باريس أن المعركة هناك ستكون أكثر عدلاً، وسيتم فيها استنزاف الروس عسكرياً وإعلامياً وحقوقياً.
إذ تعرضت عملية برخان الفرنسية في مالي لهجمات إعلامية وسيبرانية روسية، واتهامات لها باستهداف مدنيين أبرياء وانتهاكات لحقوق الإنسان في المنطقة.
وأحرجت هذه الاتهامات باريس دولياً، خاصة أن تحقيقات مستقلة أكدت صحة بعضها، ما شوّه صورة فرنسا التي لطالما "صدّعت" دول العالم بدفاعها عن حقوق الإنسان، بينما ممارساتها على الأرض المالية كانت "بشعة"، وفق مراقبين.
القوات الأممية هل تكون الضحية
تمثل القوات الأممية في مالي "مينوسما"، الحلقة الأضعف في الصراع بين فرنسا وروسيا، رغم أن تعدادها كبير ويبلغ نحو 12 ألف عسكري، وأكثر من 1700 شرطي، وأكثر من 1800 مدني، أي ما مجموعه أكثر من 15 ألف و500 عنصر، بحسب قناة "فرنس24".
ومعلوم أنه ليس من مهام القوات الأممية مطاردة الجماعات المسلحة، وهي بالكاد تستطيع الدفاع عن نفسها، ناهيك أن تحمي المدنيين في شمال مالي، ما جعلها أكثر عرضة للاستهداف من الجماعات المسلحة.
ففي مطلع يونيو/حزيران، قتل عنصر من القوات الأممية وأصيب 3 آخرون أثناء تصديهم لهجوم مسلح في منطقة كيدال (شمال)، كما قتل عنصران آخران من القوات الأممية، وأصيب آخر في انفجار عبوة ناسفة قرب دوينتزا (وسط).
وقال ستيفان دوجاريك، المتحدث الأممي: "هذا هو الحادث السادس، الذي تتعرض فيه قافلة من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة للهجوم منذ 22 مايو/أيار".
ويتزامن اشتداد الهجمات المسلحة على القوات الأممية، مع الانسحاب الفرنسي والصراع مع الروس، الذي امتد إلى أروقة مجلس الأمن الدولي، الذي بحث في 13 يونيو/حزيران الجاري، تجديد الولاية القادمة للبعثة الأممية في مالي لعام كامل.
فالوضع في مالي شديد التعقيد، وقد تسعى فرنسا لعرقلة تجديد ولاية البعثة الأممية، أو تقليص مدة ولايتها، أو حتى عدد أفرادها والميزانية المخصصة لها، لزيادة الأعباء الأمنية على الجيش المالي وحلفائه الروس.
فالجيش المالي يسعى لبسط سيطرته على شمال البلاد، ويتولى مسلحو الطوارق تأمين المنطقة بالتنسيق مع القوات الفرنسية والأممية.
وبعد رحيل الفرنسيين، فمن شأن دخول الجيش المالي إلى المناطق الشمالية دون تنسيق مع الطوارق أن يؤدي إلى وقوع احتكاكات بين الجانبين، تهدد بنسف اتفاق الجزائر المُوقّع في 2015.
الوضع في مالي حرج، ويحتاج إلى ترتيبات أمنية جديدة، لمنع انهيار الوضع، أمام اشتداد الضربات الإرهابية على القوات الأممية والطوارق على حد سواء، وتصاعد الصراع الروسي الفرنسي من خلال محاولة ربط جبهة أوروبا الشرقية بالساحل الإفريقي.