تحظى زيارة ولي عهد السعودية إلى مصر باهتمام كبير محلياً وإقليمياً ودولياً أيضاً، فماذا يدور بعيداً عن الإعلام؟ وما أسرار انزعاج الرياض والقاهرة من دور الإمارات في المنطقة؟ وما علاقة إيران وإسرائيل بما يحدث خلال الجولة التي تنتهي في تركيا؟
كانت زيارة محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للسعودية، إلى مصر، مقررة خلال مايو/أيار الماضي، لكنها تأجلت إلى يونيو/حزيران، وأصبحت جولة ستأخذه إلى الأردن ثم تركيا، فيما يوصف بأنه جهود سعودية لتعزيز دورها الإقليمي قبل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط في يوليو/تموز المقبل.
وفي ظل التحولات الكبيرة في تحالفات المنطقة منذ مطلع العام الماضي، تأتي جولة ولي العهد السعودي هذه كمقدمة لتحولات أخرى على الأرجح ستخرج إلى العلن خلال الأشهر وربما الأسابيع القليلة المقبلة، وفي القلب منها ما يمكن وصفه بتغييرات في محور التحالف السعودي – الإماراتي – المصري على وجه الخصوص.
ما أسباب الانزعاج السعودي من الإمارات؟
يمكن القول إن ولي العهد السعودي يسعى الآن إلى إعادة تقديم نفسه كزعيم إقليمي قادر على المساعدة في إحداث التوازن في العلاقات بين دول منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في ملفاتها الشائكة والمضطربة، في الوقت الذي تتجه الولايات المتحدة إلى الانسحاب من منطقة نفوذها التقليدية لأسباب تخص أروقة السياسة هناك في واشنطن.
ولا شك أن التحالف بين السعودية ومصر والإمارات، منذ تولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كان يمثل المحور الإقليمي الذي يحظى بدعم الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب، لكن منذ فوز جو بايدن بالرئاسة، وقبل حتى أن يتولى منصبه رسمياً، اختلفت الأمور بشكل جذري، وجرى بالفعل إعادة "ضبط" لتحالفات المنطقة، كانت هناك عوامل ومتغيرات كثيرة تدفعه، حتى جاء التغيير في البيت الأبيض ليعجل به.
لكن هذه التحولات شهدت أحياناً تضارباً في المصالح بين ما يسعى إليه ولي العهد السعودي وبين ما يريده الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد، وقد يكون أبرز هذا التضارب ما حدث ويحدث في ملف الحرب في اليمن؛ فالسعودية والإمارات قادتا تحالف دعم الشرعية في اليمن منذ مارس/آذار 2015، لكن مع مرور الوقت بدا واضحاً أن لكل منهما أهدافه الخاصة.
إذ إن دعم الإمارات للمجلس الانتقالي الجنوبي، الساعي لانفصال جنوب اليمن عن شماله، ثم إعلان الإمارات انسحابها من الحرب من طرف واحد، بعد أن ضمنت مصالحها هناك عن طريق القوات التي مولتها ودربتها وباتت تسيطر على كثير من أراضي الجنوب، قد أصاب جهود التحالف في القضاء على الحوثيين في مقتل. وعلى الرغم من التطورات الأخيرة، وتعرض الإمارات لقصف صواريخ الحوثي، إلا أن دعم أبوظبي للمجلس الانتقالي الجنوبي لا شك يغضب الرياض، التي كانت تريد القضاء على فرص تولي الحوثيين، المدعومين من طهران، السلطة على حدود المملكة، لكن يبدو أن تلك باتت الآن مهمة شبه مستحيلة.
وهناك أيضاً ملف العلاقات مع إيران، الذي يبدو واضحاً تماماً أن الإمارات تتبع فيه نهجاً مختلفاً تماماً عن النهج السعودي؛ ففي الوقت الذي تتعثر فيه المفاوضات الخاصة بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، واتهام طهران بأنها أصبحت على وشك الاقتراب بالفعل من إنتاج سلاح نووي، قررت الإمارات فتح "صفحة جديدة" من العلاقات مع إيران، وتم تبادل الزيارات على أعلى المستويات.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك أيضاً ملف النفط وسعي الإمارات إلى مزاحمة السعودية على قيادة منظمة أوبك، وهو الخلاف الذي كان قد ظهر للعلن العام الماضي، في حادثة نادرة تعكس مدى عمق ما وصف بأنه "شرخ" في العلاقات بين الرياض وأبوظبي. وبشكل عام، ليس سراً أن سعي ولي العهد السعودي إلى تنويع اقتصاد المملكة وجذب الاستثمارات غير النفطية أشعل المنافسة الاقتصادية مع الإمارات أيضاً.
ما أسباب انزعاج مصر من الإمارات؟
أما من ناحية المحور المصري – الإماراتي، فيمكن القول إنه منذ مجيء السيسي إلى الرئاسة في مصر، كان هناك تطابق في المواقف بين القاهرة وأبوظبي في جميع الملفات الإقليمية، سواء في ليبيا أم تونس أم حصار قطر أم العلاقات مع تركيا، وفي القلب من ذلك العداء السافر للإسلام السياسي عامة، ولجماعة الإخوان المسلمين بصفة خاصة، في إطار أوسع يهدف إلى قمع أية مسارات ديمقراطية في دول المنطقة.
لكن مع مرور الوقت، وتداخل الملفات وتشابكها، بدأت تظهر تباينات في المصالح بين القاهرة وأبوظبي؛ ففي ليبيا، كانت مصر والإمارات تدعمان خليفة حفتر المتمركز في الشرق الليبي ضد حكومة الوفاق ومقرها الغرب والعاصمة طرابلس. وفي هذا السياق، قدمت القاهرة وأبوظبي الدعم لميليشيات حفتر عندما شنّ هجومه على طرابلس مطلع أبريل/نيسان 2019.
لكن بعد فشل حفتر الذريع، وتقهقره مرة أخرى إلى الشرق، وبداية وقف إطلاق النار، ومعه استعادة المسار السياسي في منذ أكتوبر/تشرين الأول 2020، بدأت القاهرة في إعادة النظر في سياستها الخارجية تجاه ليبيا بشكل جذري، وذلك لعدد من الأسباب تتعلق بالأوضاع الاقتصادية من جهة، والتركيز على التهديد الوجودي المتمثل في سد النهضة الإثيوبي من جهة أخرى، إضافة إلى سياقات أخرى تتعلق بالأوضاع الداخلية.
وفي هذا السياق، فتحت القاهرة باب الحوار مع حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا منذ اللحظة الأولى للإعلان عنها، وأرسلت وفداً إلى طرابلس، ووقعت اتفاقيات تتعلق بإعادة الإعمار مع السلطة الموحدة الجديدة، كما فتحت القاهرة نوافذها على المرشحين للرئاسة، مع تفضيل حفتر بطبيعة الحال. لكن انهيار الأوضاع، وعدم إجراء الانتخابات، وعودة شبح اندلاع الصراع المسلح مرة أخرى؛ سبب إزعاجاً كبيراً للقاهرة، التي لم تسارع إلى العودة لمسارها القديم، المتمثل في دعم عملية عسكرية أخرى قد يشنها حفتر.
ورصد تحليل لموقع International Policy Digest المتخصص في الملفات الجيوسياسية، كيف تغيرت السياسة الخارجية المصرية في ليبيا بشكل جذري؛ سعياً لتفادي حدوث فراغ أمني قد تستغله تنظيمات مثل داعش والقاعدة، ولكليهما وجود على الأراضي الليبية، حتى وإن لم يكن مؤثراً حتى الآن. فالقاهرة، التي تواجه إرهاب داعش في سيناء، لم تتمكن من احتوائه إلا بالتعاون الوثيق مع إسرائيل، لا تريد أن تواجه "سيناء" أخرى على حدودها الغربية مع ليبيا.
وفي هذا السياق، بدأت مصر أيضاً حواراً مع تركيا يهدف إلى إعادة تطبيع العلاقات بعد قطيعة بدأت منذ الإطاحة بالرئيس الإسلامي الراحل محمد مرسي عام 2013، واستيلاء الجيش بقيادة السيسي على السلطة، وهو ما رفضه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وجاء الحوار بين القاهرة وأنقرة في سياق تغيير مصر لسياستها الخارجية في ليبيا، كون تركيا لاعباً أساسياً في هذا الملف، وتدعم الحكومة المعترف بها، سواء الحالية أم حكومة الوفاق السابقة.
هذا التغيير في سياسة مصر الخارجية نحو ليبيا، بدافع مما يمثله الاضطراب هناك من مخاطر على الأمن القومي للبلاد، هو ما فرض حتمية اتباع سياسة أكثر برجماتية، لم يقابله تغيير في سياسة الإمارات هناك، حيث واصلت أبوظبي دعم حفتر، وتوصيل مزيد من الأسلحة والمرتزقة الروس "فاغنر" إليه، وهو ما بات يسبب إزعاجاً للقاهرة بطبيعة الحال.
الملف الآخر الذي أصاب مصر بالإحباط وخيبة الأمل من الإمارات يتعلق بموقف أبوظبي من قضية سد النهضة الإثيوبي، ففي الوقت الذي انتظرت فيه القاهرة دعماً إماراتياً في هذا الملف الوجودي، فوجئ المصريون يوم 31 مارس/آذار 2021، بعد يوم من تهديد السيسي لإثيوبيا بشأن السد، وصدور بيان تأييد مباشر من السعودية ودول عربية أخرى للموقف المصري، ببيان إماراتي "يدعو إلى مواصلة الحوار بين الأطراف"، وهو ما أكد على أن القاهرة لا يمكنها التعويل على أبوظبي كحليف حقيقي في ذلك الملف الوجودي.
وهناك أيضاً التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، والذي يمثل في أغلب جوانبه، وخاصة الاقتصادية منها، إضراراً واضحاً بالمصالح المصرية، وما خط أنابيب إيلات – عسقلان إلا مثال واحد على هذا الضرر، حيث إن الهدف الرئيسي منه هو نقل النفط والغاز من الخليج إلى إسرائيل ثم أوروبا عبر طريق لا يمر بقناة السويس، وهو ما يحرم مصر من ثلث عائدات القناة تقريباً.
ماذا يريد ولي العهد تحقيقه من زيارة مصر الآن؟
هذا هو السؤال المطروح الآن في سياقات التحليل السياسي لما يحدث في المنطقة، خصوصاً أن هناك ترقباً لما قد تسفر عنه زيارة الرئيس الأمريكي بايدن للمنطقة، وإلى السعودية تحديداً خلال يوليو/تموز المقبل.
وبالتوقف عند بيان البيت الأبيض بشأن تلك الزيارة، نجد أنها جزء من ضغط أمريكي لبناء تحالف أمني – اقتصادي أوسع يضم الدول العربية وإسرائيل. لكن مصادر مُطلعة على الشؤون السعودية المصرية تحدثت لموقع "مدى مصر" عن أن سعي الولايات المتحدة لتكامل أوثق في هذا الشأن قد أدى إلى ظهور تصدعات جديدة في السياسة الإقليمية.
إذ إن زيارة محمد بن سلمان إلى القاهرة، ثم إلى عمان وأنقرة على التوالي، الهدف منها وضع الأساس لمحاولة السعودية ترسيخ مكانتها كشريك أبرز من الشركاء الإقليميين الآخرين، فيما يتعلق بمبادرة التعاون الأوسع التي طرحتها واشنطن.
في هذا السياق، قال مصدر حكومي مطلع على الشؤون الثنائية للدولتين، إن ولي العهد السعودي والوفد المرافق له سيبحثون في القاهرة عدداً من القضايا مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ومسؤولين مصريين.
وبحسب المصدر نفسه، يأمل ولي العهد السعودي أن يقدم نفسه للأمريكيين من خلال إرساء الأساس للتحالف الإقليمي للولايات المتحدة على أنه "صانع التوازن" في المنطقة، والقادر على توجيه دفة التحالفات الاستراتيجية الإقليمية. ويقول المصدر إن إنجاز التقارب المتعسر بين القاهرة وأنقرة، وهما من أكثر القوى الإسلامية السنية نفوذاً، سيخدم هذه الغاية.
وعلى الرغم من أن التحسن التدريجي في العلاقات بين تركيا من جهة، والسعودية والإمارات ومصر من جهة أخرى، قد بدأ في النصف الثاني من 2021، وتبادلت الرياض وأبوظبي الزيارات الرسمية مع أنقرة، إلا أن محادثات القاهرة وأنقرة تسير بوتيرة بطيئة مقارنة بالتقارب التركي الخليجي.
وفي هذا السياق، يشير المصدر إلى أن "إلحاح" السعوديين على التقارب المصري التركي، والتنسيق الأوسع مع جماعة الإخوان، مرده القلق بشأن محاولة الإمارات الموازية لتحقيق تقدم مع واشنطن في خطتها الخاصة بأُسس سياسة إقليمية جديدة.
وتبادلت السعودية ومصر مخاوفهما بشأن التحركات الإقليمية الأحادية للإماراتيين في السنوات الأخيرة، وكان أبرزها التطبيع الرسمي للعلاقات مع إسرائيل، وتسهيل انضمام العديد من الدول إلى ما يسمى بـ"اتفاقيات إبراهيم".
وقال مصدران حكوميان مصريان آخران، تحدثا لـ"مدى مصر" قبل زيارة كانت مقررة إلى القاهرة من جانب بن سلمان في مايو/أيار الماضي تم تأجيلها، إن هناك رغبة لدى الرياض والقاهرة في إعطاء دفعة للعلاقات الثنائية في ضوء تغيير الديناميكيات الإقليمية.
ووفقًا لأحد المصادر، فإن "القلق الذي تشعر به كل من القاهرة والرياض بشأن الخيارات السياسية لحاكم الإمارات المُعيّن حديثاً، محمد بن زايد، قد ساعد في التقارب بين مصر والسعودية، على الرغم من بعض خيبات الأمل، التي لا يمكن تجاهلها لدى الجانبين".
وتأتي مُغازلة ولي العهد السعودي للنفوذ الأمريكي متزامنة مع سعيه حالياً لنقل السلطة بسلاسة قبل وفاة الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي تسببت مشكلاته الصحية في تكهنات واسعة النطاق، وفقاً لما ذكره مصدر سياسي مقيم في الخليج لمدى مصر. قال المصدر إن بعض تفاصيل "مؤامرة القصر" تلك قد اتضحت، بسبب إلغاء العديد من المسؤولين السعوديين، الذين كانوا يخططون لزيارة واشنطن في مايو/أيار الماضي، رحلاتهم بسبب الوضع الداخلي في المملكة.
الخلاصة هنا هي أن أسباب الانزعاج السعودي والمصري من الإمارات هي ذاتها دوافع ولي العهد السعودي للمسارعة في تشكيل محور إقليمي جديد، يرى فيه البيت الأبيض نموذجاً أفضل مما يقدمه الرئيس الإماراتي، إضافة إلى رغبة محمد بن سلمان في تقديم نفسه كحاكم متزن للمملكة، التي أعادت أزمة النفط الحالية التأكيد على مدى أهميتها للأمريكيين.