تحاول السلطات الهندية تخفيف وطأة التداعيات الدولية الناجمة عن التصريحات المثيرة للجدل حول النبي محمد، والتي صدرت عن مسؤول كبير في الحزب الحاكم، ما أدى إلى أزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع عدد من الدول الإسلامية.
لكن أقدمت السلطات مؤخراً داخل البلاد على هدم منزل عائلة مسلمة بارزة -على غرار ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين- استعراضاً للقوة أمام هذه الأقلية الدينية في الهند، بحسب تقرير لقناة فرانس 24.
يروي محمد أومام، كيف شاهد بعد ظهر الأحد الماضي في خوف وقلق، الدراما التي نقلتها كاميرات التلفزيون من منزل عائلته بولاية أوتار براديش شمال الهند. بدأت الأحداث بتحرك وانتشار هائل لضباط الشرطة في محيط المنزل، وكانوا يرتدون سترات أمنية، بعضها مموهة، في حين كانت فرق الأخبار تسجِّل الحدث الذي تم نقله على الهواء مباشرة.
وصلت لاحقاً الجرافات وأبقت الشرطة الصحفيين على مسافة آمنة. وظهرت جرافة صفراء عند بوابة منزل الأسرة لتهدم الجدار الخارجي قبل أن تخترق المبنى المكون من طابقين، فكسرت الجدران، كما أكملت إزالة القضبان المعدنية الملتوية الناجمة عن الهدم من الطريق.
"هُدم كل شيء في ظرف ساعتين. كان هذا منزلنا الوحيد. شاهدت كل ذلك على الهواء مباشرة عبر وسائل الإعلام التي ساهمت في نشر ادعاءات السلطات. نحن الآن بلا مأوى. كل ما بناه والدي تحطم في ساعتين. كان الأمر مؤلماً جداً، ليس لدي كلمات لأشرح ذلك"، قال محمد أومام بنبرة مرتجفة وحزينة، خلال محادثة هاتفية مع فرانس24، بعد يوم من هذه العملية.
وينحدر محمد أومام، البالغ 30 عاماً، من عائلة مسلمة بارزة في براياغراج، وهي مدينة كثيفة السكان وكانت تُعرف في السابق باسم الله أباد. والده جاويد محمد هو رجل أعمال وناشط وعضو في حزب الرفاه الهندي، التيار السياسي المسلم المعارض في ولاية أوتار براديش، التي يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء ناريندرا مودي.
وكانت شقيقته أفرين فاطمة قد تصدَّرت في 2019 عناوين الصحف الوطنية كقائدة طلابية، حين اندلعت الاحتجاجات ضد قانون تعديل المواطنة المثير للجدل، الذي أصدرته حكومة مودي، وشملت الحركة جميع أنحاء الحرم الجامعي في العاصمة نيودلهي. وتبلغ فاطمة اليوم 24 عاماً، وقد تخرجت في الجامعة، وهي ناشطة ومساعدة أبحاث في "مشروع بوليس" بالهند، وهي منظمة بحث وصحافة ومقرها نيويورك.
ويرتبط الهجوم الذي تعرضت له هذه العائلة مباشرة بقضية التصريحات المسيئة للنبي محمد التي أدلى بها اثنان من مسؤولي الحزب الحاكم في أواخر مايو/أيار، ما أثار إدانات العديد من الدول، لا سيما الخليجية، على غرار السعودية والإمارات وقطر. ويأتي اعتقال ناشط سياسي ومدني مسلم ثم هدم منزله ضمن سلسلة من الأحداث القاسية التي تبرز التمييز الذي تعاني منه الأقلية الدينية في الهند، تلت التصريحات المعادية للإسلام والصادرة عن مسؤولين في الحزب القومي الهندوسي اليميني. وبات الدمار الذي أحدثته الجرافة بمنزله بمثابة رمز للقوة الساحقة لسلطة تنتهك حقوق المسلمين في دولة ذات أغلبية هندوسية.
توقيفات في عز الليل
بدأت مأساة عائلة محمد ليلة الجمعة، بعد ساعات من مقتل اثنين من المتظاهرين برصاص الشرطة، خلال احتجاجات شملت جميع أنحاء البلاد للتعبير عن السخط من التصريحات المعادية للإسلام، الصادرة عن نوبور شارما المتحدثة باسم حزب بهاراتيا جاناتا عبر محطة تلفزيونية هندية.
وأشعلت شارما بتصريحاتها المسيئة للنبي محمد، عاصفة دبلوماسية، مع استدعاء حكومات نحو 20 دولة للمبعوثين من أجل الحصول على تفسيرات، ما دفع الحكومة الهندية إلى محاولة تخفيف الأضرار بأسرع وقت ممكن. وبادرت نيودلهي الأسبوع الماضي إلى تنحية شارما، الصوت الرسمي المألوف لحزب بهاراتيا جاناتا، إضافة لمسؤول حزبي آخر قام بنشر تعليقاتها في "تويتر"، تم حذفها لاحقاً. رغم ذلك، اندلعت مظاهرات الجمعة وجابت عدة مدن هندية وامتدت إلى باكستان وبنغلاديش المجاورتين.
وفي أوتار براديش، الولاية الأكثر كثافة سكانية في البلاد والتي يحكمها الراهب الهندوسي المتشدد والسياسي يوغي أديتياناث، أوقفت الشرطة أكثر من 200 شخص بعد احتجاجات عنيفة. ويقول أومام إنه وقبل الساعة التاسعة مساء بقليل الجمعة، جاءت الشرطة إلى منزل العائلة. فيروي: "لم أكن في المنزل. جاءت الشرطة للتحدث إلى والدي دون توجيه أية اتهامات ولا حيازة أمر قضائي أو أي شيء. قالوا إنهم يريدون فقط التحدث معه فرافقهم مستعملاً سيارته الشخصية".
وبحسب أومام، لم يشارك والده في الاحتجاجات، بل مكث في منزله ونشر على منصات التواصل رسائل تدعو إلى التهدئة. لكن الشرطة زعمت لاحقاً أن محمد كان "العقل المدبر" لاحتجاجات الجمعة العنيفة. ولم يكن للسياسي المسلم، البالغ من العمر 57 عاماً، دراية بالاتهامات التي ستوجَّه ضده، حيث امتثل طواعية لطلب الشرطة مرافقته إلى المخفر.
بعد ساعات، وعند حدود 12:30 من صباح السبت، عادت الشرطة مجدداً إلى منزل الأسرة للقبض على والدة أومام وأخته الصغرى سمية فاطمة، البالغة من العمر 19 عاماً.
يقول أومام: "اعتقلوا والدتي وشقيقتي الصغرى من دون إشعار ولا ادعاء. أرهبوا والدتي وأختي فقط لإجبارهما على مرافقتهم وتم احتجازهما طوال 30 ساعة. وحين أفرجت الشرطة عن والدتي وأختي أخذوهما إلى منزل أحد الأقارب وطلبوا من عائلتي عدم العودة إلى المنزل".
ولا يزال رب هذه العائلة الهندية المسلمة رهن الاعتقال، كما أدرج اسمه على قائمة تضم عشرة "متآمرين" أساسيين في أعمال عنف الجمعة، بينهم نشطاء مسلمون بارزون وسياسيون يساريون.
"كان كل شيء غير قانوني وتم بسرعة فائقة"
تعرَّضت هذه الأسرة إلى "تدمير جسدي وعاطفي" على مدار عطلة نهاية الأسبوع التي تشهد إغلاق المحاكم، إضافة إلى صعوبة الوصول والتثبت من الأوامر القانونية وأوامر الاحتجاز. وفي صباح اليوم التالي لتوقيف محمد، أبلغ رئيس شرطة براياجراج المراسلين بأن الناشط السياسي كان "العقل المدبر" لأعمال العنف في اليوم السابق. وصرح ضابط شرطة المدينة: "ستتخذ الشرطة إجراءات ضد أفراد العصابات"، وأضاف أن "الجرافات ستستخدم أيضاً ضد البناءات غير القانونية".
بعد ساعات، وفيما كان محمد وزوجته وابنته لا يزالون قيد الاحتجاز، قامت الشرطة بإلصاق إشعار صادر عن هيئة تنمية المدينة على منزل الأسرة. جاء في الإشعار أن بناء المبنى المكون من طابقين غير قانوني، وسيتم هدمه في اليوم التالي عند حدود الساعة 11 صباحاً بالتوقيت المحلي. يقول أومام: "لقد وضعوا الإشعار ليلة السبت. كانت تلك عطلة نهاية الأسبوع حيث المحاكم مغلقة. تم اعتقال والدي وأمي وشقيقتي وكان الأشخاص الرئيسيون المعنيون بالمسألة رهن الاحتجاز. كان كل شيء غير قانوني وجرى بسرعة فائقة. كان جميع أفراد عائلتي خائفين وكانت الشرطة تأتي كل ساعتين أو ثلاث ساعات وتقوم بتهديدنا". ولأنها كانت مرعوبة وتحت وقع الصدمة، لم تتمكن الأسرة حتى من أخذ أغراضها قبل وصول الجرافات بعد ظهر الأحد.
وعادة ما يلي مضايقات السلطات الهندية للمسلمين الذين تتهمهم بارتكاب جرائم، هدم منازلهم، قبل أن تأخذ العدالة مجراها. إنه نمط مألوف في عدة ولايات وأقاليم هندية يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا، حسبما يقول خبراء، مشيرين إلى أنها إستراتيجية يقف وراءها سياسي يميني يؤمن برمزية الجرافة كسلاح لتحقيق مكاسب انتخابية في بلد تسيطر عليه القومية الهندوسية الشعبوية.
"بلدوزر بابا" يحدد الاتجاه الوطني
اقتحمت الجرافة بشكل مذهل المشهد السياسي الهندي في الفترة التي سبقت الانتخابات المحلية في أوتار براديش، التي تعد نقطة انطلاق سياسية لرؤساء الوزراء المستقبليين. وكانت المخاطر كبيرة لرئيس وزراء الولاية أديتياناث خلال حملته لإعادة انتخابه في مطلع 2022، والتي ركز فيها على الصرامة ضد الجريمة، متوعداً بهدم "البلطجية والمافيا".
وفيما اكتسح حزب بهاراتيا جاناتا صناديق الاقتراع في مارس/آذار، حاز أديتياناث على لقب "بلدوزر بابا" أي "جرافة بابا" آلة البناء تلك التي باتت حاضرة في كل مكان خلال التجمعات لدعم المرشحين وأنصارهم، حتى إن البعض اشترى بالمناسبة جرافات بلاستيكية.
إلا أنها لم تكن ممتعة بالنسبة إلى الأحياء الإسلامية في دولة يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا. ومع دخول رؤساء الولايات الأخرى التي يسيطر عليها حزب بهاراتيا جاناتا على نمط شعبوية أديتياناث، أطلقت يد فرق الهدم في ولاية ماديا براديش بوسط الهند. ففي أبريل/نيسان مثلاً، هدمت سلطات الولاية عشرات المنازل والمتاجر في حي مسلم بعد يوم من أعمال شغب حين نظم أنصار هندوتفا أو دولة هندوسية مسيرة دينية استفزازية بالمنطقة.
في المقابل، غرَّد زعيم أكبر حزب معارض في البلاد بصورة جرافة مع الدستور الهندي، معتبراً بذلك أن تصرفات الدولة تلك هي بمثابة "هدم للقيم الدستورية للهند". في غضون ذلك وفي العاصمة نيودلهي دمرت سلسلة من عمليات الهدم عدة مناطق بما في ذلك شاهين باغ، موقع اعتصام سلمي 2019، حين تظاهرت نساء ضد قانون تعديل الجنسية الذي اعتبروه تمييزاً بحق المسلمين.
"عقاب جماعي"
وتميل حركات الهدم تلك إلى اتباع نسق معين تطلق عليه سييما تشيستي الصحفية الرائدة ومؤلفة مشاركة لكتاب "ملاحظة بملاحظة: قصة الهند (1947-2017)" "لحظة الجرافة" في التاريخ الهندي. وفي ظل سياسيين مثل أديتياناث، توضح تشيستي: "تحولت جميع نقاط الاتصال بين الهندوس والمسلمين مثل الأكل والحب والدفن والحقوق الدينية إلى لحظات من الصراع تستوجب تطبيق العدالة". ورغم عدم وجود أحكام بموجب القانون الهندي تقضي بهدم منزل أي شخص اتهم بارتكاب جريمة، فقد ظهر نمط من العدالة "خارج نطاق القضاء" حيث إن "السلطة السياسية هي القاضي والمدعي العام والجلاد ومنفذ القانون"، بحسب تشيستي.
بدوره، يرى غوتام بهاتيا، الباحث في القانون الدستوري الهندي، أن "هذه منازل تؤوي العديد من الأرواح. في الهند خاصة، هي عبارة عن مساحة مشتركة مع الزوجة، والأطفال، والأجداد، وأبناء العم.. ولهذا فإن هذا شكل من أشكال العقاب الجماعي الذي يتعارض مع معايير القانون الدولي والقانون الهندي"، يقضي بمتابعة نمط الاحتجاج الذي يتحول إلى عنف ثم تقوم الشرطة بملاحقة الأفراد الذين تعتبرهم بمثابة "العقل المدبر". وكتب بهاتيا في منشور على الموقع القانوني Indian Constitutional Law and Philosophy "بعد ذلك مباشرة، تعلن البلدية أن هؤلاء الأفراد يقيمون في مبانٍ غير مرخصة". ويضيف بهاتيا: "عادة ما تكون الفترة الزمنية بين إعلان الشرطة عن تحديد العقول المدبرة وراء أعمال العنف، وإعلان البلدية أن عدداً من المباني غير قانونية وإقرار الهدم، أقل من أربع وعشرين ساعة".
حدث هذا بالضبط لعائلة محمد في عطلة نهاية الأسبوع. فقد أوضح ابنه أومام أن العملية كانت سريعة للغاية وكيف لم يكن لدى الأسرة الوقت الكافي لتفصيل كل التناقضات الواضحة في الادعاءات أمام المحكمة. وأشار أومام إلى أن المنزل كان باسم والدته، لأنه جزء من مهر جده لأمه. لقد "تم تسجيل منزلنا في مؤسسة البلدية. مكثنا في المنزل عشرين عاماً ودفعنا كافة فواتير الضرائب والممتلكات والمياه وفواتير الكهرباء وكل شيء. فجأة قالوا إنه مبنى غير قانوني".
كما قال أومام إن الإشعار بعملية الهدم قد صدر باسم خاطئ، حيث إن والده لم يكن هو المالك الفعلي للعقار. إلى جانب ذلك، زعمت السلطات أن الأسرة تلقت إشعاراً في 10 مايو/أيار، وهو ما نفته أسرته. في المقابل، رفع محامي الأسرة شكوى أمام المحكمة العليا بالمدينة، لكن العملية ستستغرق وقتاً طويلاً، وهذه ظاهرة باتت معتادة في الهند بالنسبة للعائلات التي باتت مشردة دون أن تقدم الدولة أية مساعدة.
ووفقاً لأومام، فإن نية السلطات واضحة: "والدي هو ناشط اجتماعي، وكان يساعد الناس بالمناطق الفقيرة. لم يكن لديه سجل جنائي ويعرفه الجميع لأنشطته المجتمعية. أرادوا التشهير به فحسب. لا يريدون أن يكون هناك قادة جيدون يقدمون المساعدة في هذا المجتمع. لا يريدون أن يكون لهؤلاء الناس صوت، يريدون إسكاتهم".