للمرة الأولى منذ عام 2016 حققت الميزانية السعودية فائضاً قدره 57.49 مليار ريال في الفصل الأول من 2022، ومن المتوقع أن تتضاعف خلال الفصل الثاني بسبب أسعار النفط، فكيف يتم توظيف ذلك الفائض؟
كانت المملكة قد عانت منذ عام 2014 وحتى 2021 من عجز متكرر ومتصاعد في ميزانيتها السنوية، بسبب انخفاض أسعار النفط، الذي يمثل المصدر الرئيسي والأكبر لدخل المملكة، ويمثل العصب الرئيسي لاقتصادها.
ونتج عن ذلك العجز أن اضطرت السعودية إلى الاقتراض من الخارج وإصدار سندات حكومية بصورة غير مسبوقة في تاريخها، ووصلت الأمور إلى اتخاذ إجراءات تقشف غير مسبوقة أيضاً، وتم فرض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5%، ثم مضاعفتها مرتين حتى 15%.
إيرادات قياسية من النفط
لكن الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي، ضاعف أسعار النفط حتى تخطت الآن 120 دولاراً للبرميل، وهو ما أدى إلى ارتفاع دخل المملكة من الصادرات النفطية بصورة غير متوقعة. وأعلنت وزارة المالية السعودية أن البلاد حققت خلال الفترة من يناير/كانون الثاني حتى مارس/آذار 2022 فائضاً في الميزانية بقيمة 57.49 مليار ريال (15.4 مليار دولار)، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الفائض أكثر مع صدور البيانات المالية الخاصة بالفصل الثاني نهاية يونيو/حزيران الجاري.
كانت الميزانية السعودية قد حققت عجزاً بقيمة 7.44 مليار ريال (1.98 مليار دولار) في الربع الأول من عام 2021. وبشكل عام شهدت الفترة من الربع الأول من 2016 وحتى نهاية الربع الأول من العام الجاري تسجيل الميزانية فائضاً خلال 3 فصول فقط، هي الربع الأول من 2019 وكان الفائض قدره 27.8 مليار ريال (7.42 مليار دولار، والربع الثالث 2021 بفائض قيمته 6.7 مليار ريال (1.78 مليار دولار)، وهو ما يشير إلى أن الفائض الذي تحقق خلال الربع الأول من العام الجاري هو الأضخم على الإطلاق.
ومع استمرار أزمة النفط، في ظل العقوبات الغربية على روسيا، وسعي دول أوروبا للتخلي عن مصادر الطاقة الروسية، بالإضافة إلى القدرات الإنتاجية العالية للسعودية والتوقعات باستمرار الأسعار العالية للنفط ربما لسنوات، تنتظر الخزانة السعودية الآن مزيداً من الأموال التي تتدفق بشكل يومي.
ويزيد إنتاج السعودية من النفط حالياً على 10 ملايين برميل يومياً، في حين تصل قيمة المبيعات إلى مليار دولار يومياً، وحسب وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان فإن إنتاج بلاده من النفط سيزيد على 13 مليون برميل يومياً بحلول عام 2026، وهو ما يعني أنه في حال حفاظ أسعار النفط على مستوى 100 دولار للبرميل، ستحقق السعودية فوائض سنوية بقيمة تزيد على 60 مليار دولار.
وبطبيعة الحال يصبح السؤال الرئيسي الآن هو: كيف ستوظف المملكة تلك الأموال الفائضة؟ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تنفق السعودية عوائد نفطها وفوائضه لمراكمة الاحتياطات وزيادة النفقات الحكومية الجارية ودعم السلع الاستهلاكية بالدرجة الأولى كما كان يحدث عادة؟ أم أن الأمور ستتغير؟ وإذا كانت ستتغير بالفعل، فإلى أي اتجاه؟ وإلى أي مدى؟
أين يتم توجيه أموال النفط؟
وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي، فيصل الإبراهيم، قال إن المملكة "ستعمل على استغلال العائدات النفطية الاستثنائية هذا العام لتسريع تنويع الاقتصاد حتى لا يكون معتمداً على الوقود الأحفوري"، مضيفاً، على هامش منتدى دافوس، أن حكومته "ستركز على المبادرات التي تهدف لتنمية الاقتصاد غير النفطي في عام 2023، لكنها لن تعزز الإنفاق المالي".
الترجمة المباشرة لتصريحات الوزير السعودي تعني تركيز المملكة على المشاريع التحويلية والتنموية لمواجهة البطالة وخلق فرص عمل حقيقية، إضافة إلى تنشيط القطاع الخاص، المعتمد بشكل أساسي على العقود الحكومية، فماذا عن المشاريع الضخمة وعلى رأسها مدينة نيوم وغيرها من مشاريع البنية التحتية التي توقف أغلبها خلال العامين الماضيين بسبب العجز الكبير في الميزانية؟
وإضافة إلى تكاليف المشاريع العملاقة التي تم البدء بتنفيذها، فنيوم وحدها تتكلف 500 مليار دولار، تحتاج السعودية لمبالغ كبيرة أيضاً لخدمة ديونها الخارجية التي وصلت إلى أكثر من 280 مليار دولار خلال العام الماضي، مع تراجع الاحتياطات السعودية من 700 إلى 429 مليار دولار خلال العام نفسه، حسب مؤسسة الاستثمار والتجارة الخارجية الألمانية.
تراكم الديون وتراجع الاحتياطات يعود بالأساس إلى تراجع أسعار النفط خلال السنوات الماضية، إضافة إلى ارتفاع تكاليف التسلح والحرب في اليمن التي تقودها السعودية، وتُقدَّر فاتورة التسلح السعودية بنحو 60 مليار دولار سنوياً.
هناك أيضاً عامل آخر يتعلق بمدى استدامة الفائض الحالي في الميزانية بسبب ارتفاع أسعار النفط، إذ إنه على الرغم من استفادة المملكة من الحرب في أوكرانيا، فإن السبب نفسه قد يمثل عاملاً سلبياً للرياض على المدى الطويل. فمن ناحية تسببت تداعيات الحرب في تكثيف الدول الأوروبية استثماراتها في الطاقة النظيفة أو موارد الطاقة المتجددة بشكل عام كي تقلل من اعتمادها على الوقود الأحفوري، ومن ناحية أخرى فإن مواصلة السعودية رفضها زيادة إنتاجها من النفط بصورة تساعد على ضبط الأسواق وتقليل الأسعار له تكلفة سياسية أيضاً على المدى البعيد.
ومما لا شك فيه أن تلك الحقائق ليست غائبة عن صُناع القرار في المملكة، وعلى رأسهم بطبيعة الحال ولي العهد والحاكم الفعلي محمد بن سلمان. ولهذا تسعى المملكة إلى تنويع اقتصادها والاعتماد على مصادر دخل غير نفطية، والسؤال الآن: إلى أين وصلت تلك الجهود؟ وإلى أي مدى يمكن أن تصل؟
وبشكل عام تسعى الدول الخليجية جميعاً، ومنها السعودية بطبيعة الحال، منذ عقود إلى تنويع اقتصادها المعتمد بشكل أساسي على النفط، وشهدت تلك الجهود تسارعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، بحسب ما قاله نادر قباني خبير التنمية الاقتصادية في مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية لموقع دويتش فيلة الألماني: "في أغلب الدول الخليجية، يبدو أن جهود تنويع الاقتصاد تتطور بشكل أسرع عما كانت عليه في العقود السابقة. والسعودية بشكل خاص حققت قفزات رئيسية في هذا المضمار".
ما تأثير الأموال الفائضة على رؤية 2030؟
عندما أطلق ولي العهد السعودية رؤية 2030 عام 2016، كان الهدف الإستراتيجي منها هو تنويع الاقتصاد السعودي، وبالتالي فإن السؤال البديهي الآن يتعلق بمدى قدرة المملكة على إنجاح تلك الرؤية في ظل وجود فائض كبير في الميزانية متوقع أن يستمر لفترة.
يرى مانفريد شتيمر، الاقتصادي البارز في شركة أليانز للتأمين والمتخصص في منطقة الشرق الأوسط أن الوقت لا يزال مبكراً لإصدار أحكام نهائية تخص مدى النجاح الذي يمكن أن تحققه رؤية 2030 في السعودية، مشيراً إلى أن المشروع مدته 14 عاماً انقضى منها 6 سنوات بالفعل.
"لكن خلال السنوات الست الماضية لم يحدث الكثير فعلاً"، بحسب ما قاله شتيمر لدويتش فيلة، مضيفاً أن نسبة العائدات النفطية وغير النفطية في الاقتصاد السعودي لم تتغير كثيراً خلال تلك السنوات الست: "لذلك أعتقد أنه حالياً من الصعب القول إن أهداف رؤية 2030 يمكن أن تتحقق فعلاً".
أما آمود شكري، خبير أمن الطاقة من واشنطن، فيرى أن مشروع نيوم، وغيره من المشاريع العملاقة التي أعلن عنها ولي العهد، لا يمكن أن تكتمل فعلاً دون استثمارات أجنبية: "قد يكون لدى المملكة الإمكانات المالية لاستكمال تلك المشاريع في ظل أسعار النفط المرتفعة، لكن المملكة ستحتاج إلى التكنولوجيا والتمويل الأجنبي حتماً".
ولم تحقق السعودية نجاحاً كبيراً فيما يتعلق بجذب الاستثمارات الأجنبية خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصاً في ظل معاناة الرياض لإصلاح صورتها خارجياً منذ اغتيال المعارض السعودي جمال خاشقجي عام 2018 والحرب في اليمن المشتعلة منذ 2015 والتي لا تزال مستمرة.
وقد انعكست تلك الأوضاع بشكل مباشر على التواجد الأجنبي الاقتصادي في المملكة، إذ إنه خلال الفترة من 2016 وحتى نهايات العام الماضي، تراجعت الاستثمارات الأجنبية في السعودية بأكثر من النصف. صحيح أن تلك الاستثمارات بدأت ترتفع قليلاً منذ نهاية 2021، لكن استمرار ذلك التوجه تظل احتمالاً وليست واقعاً فعلياً، رغم الزيارة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن للرياض في يوليو/تموز المقبل، واللقاء المتوقع بينه وبين ولي العهد.
الخلاصة هنا هي أن السياسة الاقتصادية السعودية تبدو كأنها في مفترق طرق فيما يتعلق بإعادة توجيه الاستثمارات المستقبلية، إذ سيكون عليها الاختيار بين تشجيع المشاريع التنموية التحويلية القادرة على تصنيع المواد الأولية والوسيطة والحد من مشكلة البطالة من جهة، وبين مشاريع "البريستيج" العملاقة كأبراج البناء التي لا مثيل لها، أو المشاريع السياحية ذات الحساسية السياسية العالية وغير المستدامة من جهة أخرى.