تتقدَّم القوات الروسية على الأرض في إقليم دونباس بصورة أسرع في الأيام الأخيرة، فهل اقتربت موسكو من حسم الحرب في أوكرانيا؟ تقارير غربية تتحدث عن سيناريوهات "مؤلمة" لكييف.
تأتي أخبار التقدم الروسي في المحاور الرئيسية في دونباس بعد أقل من أسبوع من إعلان موسكو عن إنشاء ممر بري يربط الإقليم بشبه جزيرة القرم، التي كانت روسيا قد ضمتها عام 2014 خلال الأزمة الأوكرانية السابقة، وهو ما يعتبر انتصاراً مهماً للرئيس فلاديمير بوتين، على أساس أن ربط القرم بدونباس برياً أحد أهم أهدافه الاستراتيجية من الحرب الحالية.
الهجوم الروسي على أوكرانيا، المستمر منذ 24 فبراير/شباط الماضي، يمثل الأزمة الجيوسياسية الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، فهو في جوهره صراع بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة، وتصف موسكو ذلك الهجوم بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما تصفه كييف والغرب بأنه غزو.
ماذا يحدث على الأرض في دونباس؟
شبكة CNN الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "الحرب في أوكرانيا وصلت نقطة مفصلية ستحدد النتائج طويلة الأمد للصراع"، نقلت فيه أحدث التطورات على الأرض في إقليم دونباس، بحسب مصادر استخباراتية غربية. وتحدثت المصادر عن تقدم مستمر للقوات الروسية وسيناريوهات تبدو أغلبها سيئة لأوكرانيا، وللغرب أيضاً بطبيعة الحال.
ويتركز القتال الدامي حالياً في المدن الرئيسية في دونباس، حيث منطقتا لوغانسيك ودونيتسك الانفصاليتان، خاصة مدينة سيفيرودنيتسك، التي قالت مصادر أمريكية إن الروس باتوا يسيطرون على أكثر من 80% منها، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية. وتمثل المدينة المعقل الرئيسي الأخير للقوات الأوكرانية في منطقة دونيتسك، وهو ما يعني أن سقوطها بشكل كامل لصالح الروس والانفصاليين سيجعل تقدم الروس فيما تبقى من أراضي الإقليم أكثر سرعة، وقد تضطر القوات الأوكرانية المتبقية إلى الاستسلام.
وانعكاساً للوضع العسكري السيئ على الأرض، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مساء الثلاثاء 14 يونيو/حزيران إن قوات بلاده تتكبد خسائر مؤلمة في القتال ضد القوات الروسية في كل من مدينة سيفيرودونتسك ومنطقة خاركيف.
وأضاف في خطاب ألقاه في وقت متأخر من الليل أن أوكرانيا بحاجة الآن إلى أسلحة حديثة مضادة للصواريخ، مشيراً إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك مبرر للدول الشريكة لتأخير تسليمها، وقال إن بعض الصواريخ الروسية تتفادى الدفاعات موقعة إصابات، بحسب رويترز.
وتقول أوكرانيا إن قواتها لا تزال تحاول إجلاء المدنيين من سيفيرودونتسك بعد أن دمرت روسيا آخر جسر يؤدي إلى المدينة في أحدث مرحلة في معركة مستمرة منذ أسابيع في منطقة دونباس التي تسعى موسكو للسيطرة عليها.
وقال زيلينسكي "تقع أشرس المعارك، كما في السابق، في سيفيرودونتسك وغيرها من البلدات والمجتمعات المجاورة. الخسائر مؤلمة للأسف. لكن علينا أن نتماسك- فهو أمر بالغ الأهمية في دونباس. فكلما تكبد العدو المزيد من الخسائر هناك، تراجعت قوته بما يحول دون مواصلة عدوانه".
ومضى يقول إن أوكرانيا تشهد أيضاً "خسائر مؤلمة" في منطقة خاركيف شرقي كييف، حيث تحاول روسيا تعزيز موقفها بعد أن دُفعت للتقهقر في الآونة الأخيرة. وقال "المعارك مستمرة هناك وعلينا مواصلة القتال، والقتال بقوة".
لماذا انقلبت الأمور لصالح الروس رغم الدعم الغربي؟
"أعتقد أن الأمور الآن وصلت إلى نقطة مفصلية قد تحسم النجاح أو الفشل للطرفين. فإما أن يصل الروس إلى مدينتي سلوفيانسك وكراماتورسك أو أن يتمكن الأوكرانيون من وقف التقدم الروسي، وإذا ما حدث ذلك وتمكنوا من إيقاف الزحف الروسي الضخم، سيكون لذلك تأثير كبير على مسار الحرب"، بحسب ما قاله مسؤول رفيع في حلف الناتو للشبكة الأمريكية CNN.
التقييمات الغربية المتشائمة بشأن الموقف على الأرض في إقليم دونباس تطرح تساؤلات عميقة بشأن الدعم العسكري الغربي غير المسبوق لكييف، ولماذا يبدو أن الأسلحة الحديثة والمتنوعة، والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات، لم تمكن الأوكرانيين من الصمود في المعارك التي تشهدها المناطق الشرقية والجنوبية من البلاد.
مسؤولون أمريكيون تحدثوا لـ"سي إن إن"، دون ذكر هوياتهم، يصرون على أن الدعم العسكري الغربي لا يزال يتدفق بغزارة إلى الخطوط الأمامية للقتال، لكن التقارير المحلية تتحدث عن نقص حاد في الأسلحة، كما أن الشكاوى المستمرة من المسؤولين الأوكرانيين، وعلى رأسهم زيلينسكي، تشكك في مدى فعالية خطوط الإمداد الغربية، ووصول الإمدادات العسكرية إلى الجبهات في الشرق، فالأوكرانيون لا يتوسلون فقط من أجل إمدادهم بمدفعية ثقيلة، لكنهم أيضاً يتحدثون عن نقص حاد في عتاد أساسي كالذخيرة.
المصادر التي تحدثت لـ"سي إن إن" ترى أن جزءاً من المشكلة ينبع من أن أوكرانيا تنفد منها الذخائر التي ترجع للعصر السوفييتي، والتي تناسب أنظمة التسليح الحالية لدى الجيش، وأن إمداد المقاتلين الأوكرانيين على خط الجبهة بأنظمة تسليح غربية يمثل كابوساً لوجستياً. العقبة الأولى التي يتكون منها ذلك الكابوس اللوجستي هي أن تدريب الجنود على تلك الأسلحة يتطلب وقتاً، والنقطة الثانية هي أن ذلك التدريب يعني نقل مقاتلين من على الجبهة لأماكن التدريب داخل العمق الأوكراني، وكلا الأمرين ليس متوفراً بطبيعة الحال، في ظل شراسة المعارك.
وفي بعض الحالات، يقرر المقاتلون الأوكرانيون ببساطة عدم استخدام الأسلحة الغربية، لأنهم غير مدربين عليها. وعلى سبيل المثال، تسلمت أوكرانيا بالفعل مئات الدرونات العسكرية الأمريكية من طراز سوتشبليد، إلا أن بعض الوحدات الأوكرانية تفضل استخدام الدرونات التجارية العادية بعد تزويدها بالمتفجرات، لأنها أسهل في الاستخدام.
وعلى الرغم من أن إدارة بايدن أعلنت عن حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا هذا الشهر (يونيو/حزيران)، تضم منظومة هيمارس القادرة على إطلاق دفقات من القذائف الصاروخية والصواريخ، وهي المنظومة التي طالبت بها أوكرانيا مراراً على مدى أسابيع، فإن تلك المنظومة لم تظهر بعد في أرض المعركة. ورغم أن عدداً صغيراً من المقاتلين الأوكرانيين بدأوا بالفعل التدريب على هيمارس منذ الإعلان الأمريكي عن إرسالها لكييف، فإن المسؤولين العسكريين الذين سألتهم "سي إن إن" عنها، اكتفوا بالقول إن هيمارس سوف "يدخل أوكرانيا قريباً".
ماذا يعني ذلك لمسار الحرب في أوكرانيا؟
على المستوى العسكري يبدو السيناريو الأقرب هو أن تتمكن القوات الروسية من حسم الحرب في إقليم دونباس لصالحها في وقت أقرب مما توقعه الغرب، ويتوقف هذا السيناريو على ما قد تسفر عنه اجتماعات وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن مع دول التحالف المكون بالأساس من أعضاء الناتو وبعض الدول الأخرى، والهادف إلى تقديم معونات عسكرية مستمرة لأوكرانيا بغرض تعزيز صمودها واستنزاف موسكو "للأبد".
لكن هناك مخاوف تنتاب البعض من أن يكون "الحماس الغربي" لمواصلة دعم أوكرانيا قد بدأت تخفت حدته بسبب التكلفة الباهظة على اقتصادات تلك الدول، إضافة إلى أزمات الاقتصاد العالمي التي وصلت لمرحلة مخيفة، خصوصاً أن الاقتصاد الروسي قد أثبت مرونة مدهشة وقدرة غير متوقعة على امتصاص التأثير السلبي للعقوبات الغربية الكاسحة، التي بدأ الغرب في فرضها منذ بداية الحرب.
وبالتالي، فإن أحد السيناريوهات المتوقعة الآن هو أن تواصل روسيا التقدم في إقليم دونباس أو أن تنجح أوكرانيا – بدعم من حلفائها الغربيين – في تجميد التقدم الروسي وإطالة أمد الحرب لأشهر أو حتى لسنوات، وهو ما يعني خسائر فادحة في صفوف الطرفين، واستمرار وتفاقم أزمات وكوارث الاقتصاد العالمي.
وهناك سيناريو آخر يتمثل في سعي روسيا إلى مراجعة أهدافها من الحرب وتخفيض تلك الأهداف، ومن ثم إعلان الانتصار وإنهاء الحرب، كأن تكتفي بما حققته من مكاسب في إقليم دونباس حتى الآن، واعتبار خط التماس الحالي انتصاراً لها في تكرار لما حدث عام 2014 عندما تم توقيع اتفاقيات مينسك.
لكن الخبراء والمحللين، وحتى المسؤولين الغربيين الذين تحدثوا إلى شبكة CNN، يرون أن السيناريو الأخير غير محتمل إلى حد بعيد لعدد من الأسباب، أولها أن القوات الروسية تحقق بالفعل تقدماً سريعاً على الأرض، وثانيها أن بوتين يبدو أكثر تصميماً على تحقيق أهدافه مقارنة بنظرائه من القادة الغربيين، ويبدو موقفه أقوى من موقفهم بكثير على الصعيد الاقتصادي والعسكري بصفة خاصة.
فالأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ يواصل تصريحاته التي لا يبدو أن عليها إجماع، فيقول إن أعضاء الحلف سيواصلون تزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة والأنظمة بعيدة المدى، وتوقع الأربعاء 15 يونيو/حزيران الموافقة على حزمة جديدة من المساعدات لكييف خلال قمة الحلف.
يأتي ذلك على الرغم من أن الرئيس الأمريكي جو بايدن كان قد أعلن أن بلاده لن تزود أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى، في أعقاب "تهديد" بوتين بأن أي صواريخ بعيدة المدى تصيب الأراضي الروسية سيواجه بقصف أهداف "لم نقصفها من قبل"، دون أن يفسر ما يقصده من ذلك.
الخلاصة هنا هي أن روسيا تبدو في طريقها لحسم الحرب في إقليم دونباس، وهو ما يضع الغرب أمام سيناريوهات متعددة، لا يبدو أغلبها في صالح كييف، لكن مواصلة الدعم العسكري للقوات الأوكرانية وزيادة وتيرته ونوعيته قد يتسبب في إبطاء الهجوم الروسي وإطالة أمد الحرب، كما يريد بايدن.