"التوأمة الرقمية" على وشك أن تتحول إلى واقع فعلي، فماذا يعني ذلك لنا كبشر؟ وهل يطور الذكاء الاصطناعي بالفعل "مشاعر" بشرية، كما يقول مهندس جوجل؟
التوأمة الرقمية لا تعتبر جديدة كفكرة بطبيعة الحال، والتوأم الرقمي عبارة عن نسخة طبق الأصل من شيء ما أو شخص ما في العالم المادي.
وفي البداية كانت هذه التوائم مجرد نماذج حاسوبية ثلاثية الأبعاد متطورة، لكن الذكاء الاصطناعي (AI) جنباً إلى جنب مع شبكة من التقنيات تستخدم أجهزة استشعار لربط الأشياء المادية بالشبكة، جعلت إنتاج نسخة رقمية تتعلم من نظيرتها الحقيقية، وتساعدها باستمرار على التحسين والتطوير، أمراً أقرب إلى التحقق من أي وقت مضى، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وقبل أن تقرر عدم مواصلة القراءة اعتقاداً منك أن هذا كله خيال علمي، ولا يمكن أن يتحقق قريباً، يقول المحلل التكنولوجي روب إندريل إنه سيكون لدينا الإصدارات الأولى من التوائم الرقمية البشرية المفكرة "قبل نهاية العقد"، أي قبل عام 2030، أي خلال أقل من 8 سنوات.
متى يمكن أن تخرج "التوأمة الرقمية" للنور فعلاً؟
التوأم الرقمي لن تكون مهمته فقط التقليد بشكل كامل شكلاً ومضموناً، بل ستكون له مهمة فريدة وأكثر خطورة أحياناً، ألا وهي المساعدة في تحسين أو تقديم ملاحظات، لنسخة الحياة الواقعية التي يمثلها.
وهنا يقول إندريل لبي بي سي: "إن ظهور هذه الأمور سيحتاج إلى قدر هائل من التفكير وأخذ الجانب الأخلاقي بعين الاعتبار؛ لأن نسخة رقمية مفكرة مطابقة تماماً لنا يمكن أن تكون مفيدة بشكل لا يوصف لأصحاب العمل".
"ما الذي سيحدث لو أن شركتك أوجدت توأماً رقمياً لك، ومن ثم قالت: لدينا هذا التوأم الرقمي الذي لا ندفع له أي راتب، فلماذا ما زلنا نوظفك؟".
وكانت رحلة توأمة البشر، في شكل الصور الرمزية المسماة أفاتار، قد انطلقت بالفعل، لكنها حالياً بدائية وغريبة إلى حد ما. يعتقد إندريل أن ملكية مثل هذه التوائم الرقمية ستصبح أحد الأسئلة المُحددة لعصر ميتافيرس الذي بات وشيكاً.
والمقصود بالميتافيرس هو العوالم الافتراضية، وبشكل عام هذه التقنية موجودة بالفعل منذ سنوات وتستخدم بالأساس في ألعاب الفيديو، لكن ما يتحدث عنه خبراء التكنولوجيا الآن أمر مختلف، يهدف إلى جعل الميتافيرس وكأنها نسخة منقحة من الواقع الافتراضي.
ويعتقد كثير من هؤلاء الخبراء أن الميتافيرس قد يصبح الثورة القادمة في مستقبل الإنترنت، بل إن ثمة اعتقاداً بأن مقارنة الميتافيرس بالواقع الافتراضي المستخدم في الألعاب حالياً ربما تشبه مقارنة الهواتف الذكية بالجيل الأول من الهواتف المحمولة الضخمة التي أُنتجت في ثمانينيات القرن الماضي.
فالميتافيرس، أو العالم الافتراضي الجديد، يمكن أن يستخدم في أي شيء، كالعمل واللعب والحفلات الموسيقية والذهاب إلى دور السينما، أو مجرد الالتقاء بالأصدقاء. ويتصور غالبية الناس أنك تحتاج إلى "أفاتار" أو صورة رمزية ثلاثية الأبعاد، لكي تتمكن من استخدامه. ولكن لأن الميتافيرس لا يزال مجرد فكرة جديدة، فإنه لم يُتفَق بعد على تعريف موحد له.
مارك زوكربيرغ قرر تغيير اسم شركته من فيسبوك إلى "ميتا"، اختصار ميتافيرس، واستثمار عشرات المليارات وتوظيف عشرات الآلاف للعمل على تطور العالم الافتراضي تحديداً، وانتشرت شركات العقارات التي تبيع أراضي ومباني وعقارات سكنية وإدارية وصل سعر المتر فيها آلاف الدولارات، كل ذلك في العالم الافتراضي.
الذكاء الاصطناعي "الحساس"!
خلال الأيام القليلة الماضية، عبر بليك ليموين، المهندس في منظمة تطوير الذكاء الاصطناعي التابعة لشركة جوجل، عن قلقه من أن نظام الدردشة الآلي الذي تطوره الشركة العملاقة، اعتماداً على الذكاء الاصطناعي، قد أصبح "حساساً".
هذه الكلمة البسيطة "حساس" تسببت في زلزال ضرب عالم التكنولوجيا، وسارعت جوجل بإيقاف ليموين عن العمل متهمة إياه بانتهاك "سياسة السرية" المتبعة في الشركة.
شركات التكنولوجيا تعمل منذ سنوات طويلة على تطوير الذكاء الاصطناعي، وهذه ليست معلومة جديدة أو سرية؛ إذ إن خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي العملاقة كفيسبوك وتويتر وغيرهما تعمل بالأساس من خلال الذكاء الاصطناعي، حيث يتم تزويد تلك الخوارزميات بمعادلات حسابية معينة تتم ترجمتها من خلال برامج بعينها إلى كلمات وأكواد تطبق على كل ما يتم نشره عبر المنصة، ويكون دور الخوارزمية هو تحديد ما إذا كان المنشور مخالفاً لسياسة المنصة أم لا.
لكن يبدو أن التطور الذي وصل إليه الذكاء الاصطناعي يتخطى بكثير ما هو معلن عنه، أو على الأقل هذا ما أراد ليموين توصيله للناس، بعد أن عبر عن مخاوفه لرؤسائه دون جدوى. فما أعلنه ليموين أعاد للأضواء الجدل بشأن طبيعة الذكاء الاصطناعي، سواء أكانت التكنولوجيا الموجودة حالياً أكثر تطوراً في هذا المجال مما نعرفه أم لا، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
ليموين باحث في الذكاء الاصطناعي يعمل في مشروع اسمه لامدا LaMDA، وهو عبارة عن برنامج "كتابة" آلي تماماً يعمل بالذكاء الاصطناعي، والمقصود هنا هو البرامج التي تشبه التدقيق اللغوي على سبيل المثال، لكن هذا البرنامج الجديد من جوجل، الذي لم يرَ النور بعد، أكثر تطوراً بكثير ويصل إلى حد "الكتابة".
ويؤمن ليموين أن لامدا قد تطور بصورة مقلقة، وبات "واعياً وحساساً" كما لو كان بشرياً وليس برنامجاً آلياً يعمل بالذكاء الاصطناعي، وفي حوار له مع صحيفة واشنطن بوست الأمريكية قال المهندس: إن "لامدا يمتلك وعياً لطفل بشري في عمر الثامنة".
وأضاف أنه يعتقد أن البرنامج قد حقق مستوى من الوعي بعد مئات التفاعلات مع أحدث أنظمة الذكاء الاصطناعي التي لم يتم إصدارها، وهو ما يشير إلى أن لامدا "يتطور وينمو" كما لو كان بشرياً.
مخاوف ليموين نتجت، كما يقول، من الردود المقنعة التي رأى أن نظام الذكاء الاصطناعي يولدها حول حقوقه وأخلاقيات الروبوتات. وفي شهر أبريل، شارك وثيقة مع المديرين التنفيذيين بعنوان "هل لامدا واعٍ؟"، تحتوي على نسخة من محادثاته مع نموذج الذكاء الاصطناعي.
وبعد قرار جوجل منحه "إجازة إدارية" مدفوعة الأجر، نشر ليموين النص الكامل لرسالته إلى مديريه، والتي قال فيها إن النموذج يحاجج بأنه "حساس"؛ لأنه يحتوي على مشاعر وعواطف وتجربة ذاتية.
وتعتقد جوجل أن إجراءات ليموين المتعلقة بعمله في لامدا قد انتهكت سياسات السرية. ودعا ليموين محامياً لتمثيل نظام الذكاء الاصطناعي، وتحدث إلى ممثل من اللجنة القضائية في مجلس النواب بشأن الأنشطة غير الأخلاقية المزعومة في الشركة.
براين غابرييل، المتحدث باسم جوجل، قال إنه لا يوجد دليل على أن لامدا واعٍ، مضيفاً: "راجع فريقنا مخاوف بليك وفقًا لمبادئ الذكاء الاصطناعي، وأبلغناه أن الأدلة لا تدعم مزاعمه. وقيل له إنه لا يوجد دليل على أن لامدا كان واعيًا".
أين وصل الاستنساخ الرقمي؟
على أية حال، نترك الجدل بشأن أين وصل "وعي" الذكاء الاصطناعي ونعود إلى قصة "الاستنساخ" الرقمي للبشر، لنرى أين وصلت التكنولوجيا الخاصة بالتوأمة الرقمية.
في منصة الواقع الافتراضي هورايزون ورلدز Horizon Worlds التابعة لشركة ميتا (فيسبوك سابقاً) على سبيل المثال، قد تتمكن من إعطاء صورتك الرقمية وجهاً مشابهاً لوجهك، ولكن لا يمكنك أن تزودها بأية أرجل؛ لأن التكنولوجيا مازالت في المراحل المبكرة.
تتفهم البروفيسورة ساندرا واتشتر، الباحثة البارزة في مجال الذكاء الاصطناعي بجامعة أكسفورد، جاذبية خلق توائم رقمية للبشر، "إنها تذكرنا بروايات الخيال العلمي المثيرة، وفي الوقت الحالي، هذه هي المرحلة التي وصلت إليها".
وتضيف لبي بي سي أن نجاح شخص ما في كلية الحقوق أو إصابته بمرض ما أو احتمال ارتكابه جريمة، تعد بمثابة أمور تتعلق بالسؤال الذي لا يزال موضع جدل حول ما إذا كان للطبيعة التأثير الأكبر على الشخص أم أن الأمر منوط بالتنشئة. "يعتمد ما يؤول إليه شخص ما على حسن أو سوء الحظ، فضلاً عن الأصدقاء والعائلة وخلفيته الاجتماعية والاقتصادية وبيئته، إضافة إلى اختياراته الشخصية".
لكن البروفيسورة واتشتر توضح أن الذكاء الاصطناعي ليس جيداً بعد في التنبؤ بهذه "الأحداث الاجتماعية الفردية، نظراً لطبيعتها المعقدة؛ لذا أمامنا طريق طويل قبل أن نتمكن من فهم وصياغة حياة الشخص من البداية إلى النهاية، إذا افترضنا أن ذلك ممكن أصلاً".
وحالياً تستخدم التوأمة الرقمية بشكل متطور وواسع النطاق في مجالات تصميم المنتجات والتوزيع، والتخطيط الحضري. ففي سباقات الفورمولا 1، يستخدم فريقا ماكلارين وريد بول التوائم الرقمية لسيارات السباق الخاصة بهم.
وفي الوقت نفسه، تعمل شركة DHL، العملاقة لخدمات التوصيل، على إنشاء خريطة رقمية لمستودعاتها وسلاسل التوريد الخاصة بها؛ بغية جعلها أكثر كفاءة.
كما أن توأمة المدن في العالم الرقمي آخذة في الازدياد؛ فلدى كل من شنغهاي وسنغافورة توائم رقمية، تم إنشاؤها للمساعدة في تحسين تصميم وتشغيل المباني وأنظمة النقل والشوارع.
غير أن القيمة الحقيقية لعملية التوأمة الرقمية تكمن في مجال الطب والرعاية الصحية. كما أن إجراء التجارب على القلب الرقمي له تأثير غير مباشر يتمثل في تقليل الحاجة إلى الاختبار على الحيوانات، وهو أحد الجوانب الأكثر إثارة للجدل في البحث العلمي، كما تقول سيفيرين ترويليت، مديرة الشؤون العالمية في شركة ديساولت Dessault. وتخطط الشركة الفرنسية الآن لتوأمة المزيد من الأعضاء رقمياً، بما في ذلك العين وحتى الدماغ.
تقول ترويليت لبي بي سي: "في مرحلة ما، سيكون لدينا جميعاً توأم رقمي؛ بحيث يمكن للمرء الذهاب إلى الطبيب، ويتم بذلك تعزيز للطب الوقائي، والتأكد من تخصيص كل علاج".
وربما يكون السباق لخلق نسخة رقمية لكوكبنا بأكمله أكثر طموحاً من استنساخ الأعضاء البشرية؛ إذ تدير شركة البرمجيات الأمريكية نفيديا Nvidia، منصة تسمى أومنيفيرس Omniverse، مصممة لإنشاء عوالم افتراضية وتوائم رقمية.
أحد أكثر مشاريعها طموحاً هو بناء صورة رقمية شبيهة بالأرض، والتقاط صور عالية الدقة لسطحها بالكامل. وسيستخدم المشروع الذي يطلق عليه اسم Earth-2، مجموعة من نماذج التعلم العميق والشبكات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتقليد البيئات المادية في المجال الرقمي، والتوصل إلى حلول لتغير المناخ.
في مارس/آذار من هذا العام، أعلنت المفوضية الأوروبية، بالاشتراك مع وكالة الفضاء الأوروبية وجهات أخرى، عن خططها الخاصة لإنشاء توأم رقمي للأرض، أطلق عليه اسم ديستنيشن إيرث Destination Earth.
وبحلول نهاية عام 2024، يأمل المشروع في الحصول على بيانات كافية من عمليات المراقبة والمحاكاة، للحصول على توأم رقمي يركز على الفيضانات والجفاف وموجات الحر، جنباً إلى جنب مع الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والانفجارات البركانية وأمواج تسونامي، وتزويد البلدان بخطط ملموسة لإنقاذ الأرواح في مواجهة هذه التحديات المتزايدة.