في أعقاب جائحة كورونا وغزو روسيا لأوكرانيا، يواجه العالم أزمة طاقة تاريخية؛ حيث تتأرجح أسعار الوقود في الولايات المتحدة عند 5 دولارات للغالون الواحد (3.78 لتر)، بينما تظل تكاليف الطاقة في أوروبا باهظة. ولجأت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى ضخ الوقود في المحطات من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي، وناشدت المملكةَ العربية السعودية زيادةَ الإنتاج؛ حيث أعلنت الرياض مؤخراً أنها ستعزز الإنتاج في يوليو/تموز وأغسطس/آب 2022.
لكن هذه الإجراءات لم تغير شيئاً بالنسبة للمستهلكين، فسعر النفط لم ينخفض، ولا تستطيع إدارة بايدن فعل الكثير لتجنب صدمة الأسعار القادمة. في الواقع، من المرجح أن يرتفع سعر برميل النفط إلى 150 دولاراً للبرميل بحلول نهاية سبتمبر/أيلول، وهو سعر لم نشهده منذ عام 2008، كما يقول تحليل لمجلة foreign policy الأمريكية، وهناك أربعة أسباب تشير إلى ذلك.
لماذا من المرجح أن يصل سعر برميل النفط إلى 150 دولاراً قريباً؟
1- الاستهلاك المتصاعد للنفط
السبب الأول أساسي للغاية: على الرغم من ارتفاع أسعار النفط، لا يبدو أن استهلاك المنتجات النفطية آخذ في الانخفاض. في الواقع، ظل الاستهلاك ثابتاً في عام 2022 في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط. في حين أن ثقة المستهلك منخفضة، فإن الأمريكيين على سبيل المثال يشترون البضائع بكميات كبيرة، ولا يزال النمو الاقتصادي ونمو الوظائف منتعشاً إلى حد ما، على الرغم من الحديث عن "التضخم المصحوب بالركود" الوشيك.
وتشهد الأشهر من يوليو/تموز إلى أغسطس/آب عادةً ارتفاعاً في استهلاك وقود النقل مثل البنزين والديزل في العديد من المناطق حول العالم؛ حيث ينطلق الناس إلى الطريق لقضاء الإجازات الصيفية أو الرحلات اليومية.
في الوقت نفسه، تشهد الاقتصادات الرئيسية الأخرى أيضاً ارتفاعاً في الطلب. بعد عدة أسابيع من إغلاقات كورونا في مدن مثل شنغهاي، عاد الاقتصاد الصيني إلى الحياة، على الرغم من انخفاض واردات الوقود بسبب المخزونات المجهزة جيداً في البلاد.
فيما لا يزال استهلاك البنزين في الاتحاد الأوروبي أقل من مستويات ما قبل كورونا، ومن المرجح أن يظل منخفضاً بسبب جهود المجموعة لخفض جميع واردات النفط الروسي. ومع ذلك، لا يزال الطلب قوياً خارج الولايات المتحدة وكذلك داخلها ومن المرجح أن يرتفع، لا سيما في الصين، خلال الأشهر القليلة المقبلة.
2- الطاقة القصوى للتكرير والإنتاج
السبب الثاني أكثر تعقيداً ويرتبط بطرق تصنيع النفط الخام إلى منتجات نفطية قابلة للاستخدام. هناك العديد من أنواع النفط، ويجب أن يمر الخام عبر مصفاة وأن يخضع لعمليات كيميائية محددة قبل أن يكون جاهزاً لاستخدام المستهلكين. ولا تستطيع المصفاة أن تصنع البنزين أو الديزل كما لو كان ذلك بفعل السحر.
ويستغرق الأمر وقتاً وجهداً، وقد تم تصميم كل مصفاة لإنتاج منتجات محددة بكميات محددة، حيث تعتبر التغييرات في إنتاجية المصفاة باهظة الثمن وتستغرق وقتاً طويلاً.
شهد وباء كورونا انخفاضاً في قدرة التكرير العالمية؛ حيث تم إغلاق العديد من المصافي حول العالم، لكن شركات النفط في أواخر عام 2019 كانت تتطلع بالفعل إلى حدوث انخفاضات في طاقة التكرير بسبب تقلص الهوامش والطلب المستقبلي غير المؤكد. قبل أن يضرب فيروس كورونا العالم، واجهت الصناعة ما وُصف بأنه "ذروة الطلب على النفط" المرتبط بتباطؤ النمو الاقتصادي، والاعتماد على السيارات الكهربائية المتزايد، والاندفاع العام نحو التزامات صافية صفرية لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
لم تلتزم الشركات ببناء مصافٍ جديدة؛ حيث إن مخاطر الانخفاضات المستقبلية في الطلب لا تبرر الإنفاق الرأسمالي. ونتيجة لذلك، أدى ازدهار الاستهلاك الحالي إلى زيادة الطلب على المنتجات التي تتجاوز طاقة التكرير، سواء بالنسبة للبنزين أو الديزل، وتعمل المصافي في الولايات المتحدة على سبيل المثال، بنسبة 93% من إجمالي طاقتها.
بينما يمكن للدول والشركات الاستفادة من مخزونات النفط والمنتجات النفطية المخزنة للاستخدام المستقبلي، لكن يتم استنفاد هذه المخزونات بوتيرة تاريخية سريعة، وهذا هو السبب الثالث لاستمرار الأسعار في الارتفاع.
3- الانخفاض المتسارع في المخزونات الاحتياطية
يتابع تجار العقود الآجلة وغيرهم ممن يضاربون على أسعار النفط سحب المخزون- كمية النفط التي تدخل أو تغادر منشأة التخزين في أي وقت- عن كثب. تشير الانخفاضات الحادة في المخزونات إلى استمرار الطلب المرتفع حتى مع تراجع الاستهلاك؛ حيث يتعين على الشركات الاستمرار في شراء النفط لإعادة ملء مخزوناتها.
وفي أمريكا، تخطط إدارة بايدن لتصريف 260 مليون برميل من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي بين أكتوبر/تشرين الأول 2021 وأكتوبر من هذا العام، حيث تخطط إعادة تعبئة الاحتياطي هذا الخريف، مما يشكل ضغطاً تصاعدياً على الأسعار؛ حيث يقفل السوق الطلب الإضافي، وهذا يقودنا إلى السبب الرابع: العرض.
4- الخلل في معادلة العرض والطلب
في ظل الظروف العادية، سيستجيب المنتجون لمستويات أعلى من الطلب بضخ المزيد من النفط. لكنَّ هناك قدراً ضئيلاً بشكل مثير للصدمة من الطاقة الفائضة المتبقية في اقتصاد النفط العالمي.
ستزيد الولايات المتحدة، أكبر منتج للنفط في العالم، الإنتاج بما يصل إلى 720 ألف برميل يومياً في عام 2022. وقد تباطأ المستثمرون في ضخ المزيد من الأموال في الإنتاج الجديد، ولكن على الرغم من ترددهم، فإن الإنتاج المحلي في طريقه لتحطيم الأرقام القياسية في 2023. وتجعل القيود المادية، مثل نقص خطوط الأنابيب والعمالة اللازمة لاستغلال الآبار الجديدة، من غير المحتمل حدوث زيادة إضافية في الإنتاج.
ولدى "أوبك" بقيادة السعودية أقل من مليوني برميل يومياً من الطاقة الفائضة. وأعلنت المجموعة مؤخراً عن زيادة بنحو 600 ألف برميل يومياً في يوليو وأغسطس، لكن الخبراء لا يتوقعون أن تحقق أوبك هذا المستوى، بسبب الصعوبات الحالية في العديد من الدول الأعضاء فيما يتعلق بالحصص.
والأهم من ذلك هو صدمة العرض للعقوبات الغربية على روسيا، والتي تشمل حظراً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على واردات النفط الروسي. حيث تقدر إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن مليوني برميل في اليوم ستضيع مع توقف روسيا عن الإنتاج- وهي كمية أكبر من الإنتاج الجديد في الولايات المتحدة ويمكن لـ"أوبك" أن تغطيه.
وبذلت إدارة بايدن ما في وُسعها للتخفيف من ارتفاع أسعار الغاز، لكن سياساتها مقيدة بالواقع السياسي. ولذلك فإن الدعوة إلى خفض الاستهلاك- الإعلان عن "أيام الأحد الخالية من الغاز"، كما فعل المسؤولون الأمريكيون خلال أزمة الطاقة في السبعينيات، على سبيل المثال- غير جذابة، تاركة رئيساً غير محبوب بالفعل لهجمات إضافية من الجمهوريين.
بدلاً من ذلك، دعم البيت الأبيض في عهد الرئيس جو بايدن الاستهلاك على المدى القصير مع تسريع تطوير بدائل الطاقة، مثل السيارات الكهربائية والمضخات الحرارية، مما سيقلل من الطلب على الوقود الأحفوري في المستقبل.
في غضون ذلك، سترتفع أسعار النفط للأسباب الأربعة المذكورة أعلاه حول العالم، ويبقى السؤال مفتوحاً حول سعر البرميل الذي سنصل إليه، تشير تقديرات المحللين الاقتصاديين إلى أنه سيتراوح بين 130 و150 دولاراً للبرميل.
فوق هذا المستوى، سيتم تدمير الطلب؛ حيث يصبح الاستهلاك مكلفاً للغاية بحيث يتعذر الحفاظ عليه. وكانت آخر مرة حدث فيها ذلك في منتصف عام 2008 – وهو انهيار في الطلب صاحب أزمة مالية عالمية ذات أبعاد تاريخية.