انطلقت السبت الماضي أولى جلسات الحوار الوطني في تونس لتقديم استشارات ومقترحات حول عملية الإصلاحات السياسية والقانونية الضرورية لتغيير الدستور نزولاً عند رغبة رئيس الجمهورية قيس سعيد، وفي إطار مشروعه السياسي الذي سبق أن أخرجه في شكل استشارة إلكترونية في شهر مارس/آذار الماضي ولم يلق إقبالاً واسعاً مثلما كان يتوقع؛ حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة 0.4% تقريباً من عدد السكان الذين يقدر عددهم بـ12 مليوناً.
يأتي هذا الحوار في مناخ ديمقراطي مضطرب بسبب توسع المعارضة السياسية والحزبيّة للرئيس، خصوصاً مع انسحاب ائتلاف الصمود الذي ينتمي له أكبر داعمي الرئيس ورئيس لجنة إعداد الدستور، العميد الصادق بلعيد، وأستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ، من الحوار، والتحاق فاعلين جدد من داخل المجتمع المدني بالمعارضة لعل أبرزهم الاتحاد العام التونسي للشغل، بالإضافة لجمعية القضاة (أهم هيكل نقابي للقضاة التونسيين) ونقابة الصحفيين.
فكيف فقد الحوار الوطني أهم داعميه والداعين إليه؟ وكيف تفككت سلسلة مساندي الرئيس التي تكونت إثر قرارات 25 يوليو/تموز للرئيس؟ هل يعيش قيس سعيد عزلة سياسية تؤثر في نجاح مشروعه السياسي، أم أنه لا يزال ممسكاً بخيوط اللعبة السياسية؟ هل لخصائصه الشخصية دور في صياغة قراره السياسي؟ هل سيؤثر التحريض والدعوة للكراهية بين فئات المجتمع الخارجة من قصر قرطاج على السلم الأهلي؟
حوار وطني أم اختبار أكاديمي؟
كان لافتاً عند انطلاق جلسات الحوار الوطني، في يناير/كانون الثاني، دعوة رئيس الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية الجديدة، العميد الصادق بلعيد، في مستهل أول اجتماع للهيئة مختلف المشاركين من شخصيات سياسية ورؤساء أحزاب ومثقفين، إلى إعداد ورقتين حول تصوراتهم لتونس خلال الأربعين سنة المقبلة، وحدد بلعيد أجل تقديم التصورات بـ72 ساعة.
وقال بلعيد "تحرير صفحتين تترجمون فيهما تصوراتكم كيف يكون الدستور، وسأتقبل هذه المقترحات ليلة الثلاثاء. من يرجع الصفحتين في الموعد، "يعطيه الصحة" ومن لا يعيدها يوم الثلاثاء عند منتصف الليل، نعتبر أنه اعتذر".
ولقيت طلبات رئيس الهيئة الاستشارية سخرية واسعة على صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي، إذ اعتبره رواد هذه المنصات كنوع من الاختبار الدراسي يقدمه الأستاذ لطلبته مع مدة زمنية لإنهاء الامتحان وإرجاعها للأستاذ المختبر من أجل الإصلاح والتقييم.
في حين رأى فيها آخرون امتهاناً وتقزيماً لقيمة المشاركين في الحوار، على اعتبار أن مسودة الدستور الجديد الذي يتم التحاور حوله جاهزة وتنتظر فقط تاريخ 25 تموز/يوليو من أجل المصادقة عليها في استفتاء شعبي عام.
يذكر أن الرئيس قيس سعيد اعتمد أسلوباً مشابهاً عند تشكيل الحكومة التي أعقبت انتخابات أكتوبر 2019 عندما فشلت حركة النهضة في منح الثقة لمرشحها لرئاسة الحكومة آنذاك، الحبيب الجملي، أمام البرلمان، حيث طلب سعيّد من الأحزاب الفائزة في الانتخابات النيابية تقديم اقتراحات مكتوبة لمرشحيها لرئاسة الحكومة.
ويرى البعض أن محتوى الطلب في حد ذاته إشكالي ومثير للجدل وليس الشكل فقط، فكيف يمكن تقديم رؤية للبلاد بعد 40 سنة في وقت وجيز لا يتجاوز ثلاثة أيام؟ في حين أن مسائل من هذا القبيل من المفترض أن تنجزها مراكز بحث ودراسات على فترة تمتد لأشهر وأحياناً سنوات، مثل المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (مؤسسة بحثية تتبع لرئاسة الجمهورية) وليس في جلسات حوار تنتهي خلال أيام معدودات وتقتصر على الخطوط العريضة لمشروع الرئيس السياسي.
هذا واقتصر المرسوم الرئاسي على دعوة 4 أحزاب للحوار هي حركة الشعب والتيار الشعبي وحركة تونس إلى الأمام وحركة النضال الوطني (أحزاب داعمة للرئيس بلا وزن سياسي يذكر في أغلبها)، مقابل مقاطعة أحزاب أخرى أهمها حركة النهضة، بالإضافة لأحزاب المسار وآفاق تونس وقلب تونس.
وأعلن حزب آفاق تونس، في بيان، رفض المشاركة في الحوار باعتباره "استشارياً، صورياً وشكلياً، يفتقد إلى الحد الأدنى من المصداقية والشرعية".
أما حزب "المسار الديمقراطي الاجتماعي" فاعتذر عن عدم المشاركة، مؤكداً تمسكه "بنهج الحوار التشاركي كآلية لإنقاذ تونس من أزمتها الشاملة (..) ولإنهاء الفترة الاستثنائية الحالية دون العودة إلى ما قبل 25 تموز/يوليو 2021، ودون الانزلاق نحو التفرد بالرأي".
توسع دائرة المعارضين
بعد تأكد عدم مشاركة اتحاد الشغل في جلسات الحوار الوطني بالشروط التي وضعها الرئيس قيس سعيد وخلافاً لتصور الاتحاد للحوار بدون شروط مسبقة وبصبغة تقريرية، تقلّصت حظوظ نجاح الرئيس في التسويق لمشروعه السياسي بشكل هام، خصوصا أن الاتحاد اعتبر منذ عقود شريكاً اجتماعياً رئيسياً للحكومات المتعاقبة وخصماً سياسياً قادراً على تغيير مسار دفة الحكم عند رفض تشريكه في صياغة القرار الوطني.
وأكّد الأمين العام لحركة الشعب، في تصريح إعلامي للصحفيين، خلال انطلاق أولى جلسات الحوار الوطني، على ضرورة أن يكون الحوار تشاركياً حتى يحقق أحلام التونسيين، مشيراً إلى أن غياب الاتحاد العام التونسي للشغل سيؤثر على مصداقية الحوار.
في سياق متصل، أعلن القضاة الإضراب العام في جميع المحاكم في مختلف أنحاء الجمهورية احتجاجاً على إعفاء الرئيس سعيّد 57 قاضياً من وظائفهم بتهم "فساد وتواطؤ مع الإرهاب" دون محاكمتهم أو سماع أقوالهم.
وليست هذه المرة الأولى التي يتخذ فيها سعيّد إجراءات تأديبية ذات طابع راديكالي ضد القضاة في تونس، فقد سبق له أن قام بحلّ المجلس الأعلى للقضاء (أعلى هيكل للعدالة في البلاد) وتعيين مجلس جديد من قضاة متقاعدين في أغلبهم وموالين له، مما أثار غضب القضاة الذين يعارض الكثير منهم إجراءات الرئيس ما بعد 25 يوليو ويعتبرونها غير دستورية ولا تحتكم لسلطة القانون.
واعتبرت جمعية القضاة التونسيين في بيان نشرته عبر صفحتها على فيسبوك أن ما أقدم عليه الرئيس تصفية حسابات شخصية مع القضاة الذين رفضوا تأييد إجراءات ما أصبح يعرف "بالانقلاب" وأنه ليس جميعهم فاسدين ومتورطين في التغطية على الإرهاب.
كانت الجمعية قد عقدت جلسة عامة للنظر في قضية عزل القضاة، ونقلت على المباشر شهادات القضاة المعزولين من بينهم شهادة للقاضية خيرة بن خليفة التي اتهمت شقيقة زوجة الرئيس، عاتكة شبيل، بالوقوف وراء عزلها بعدما طلبت منها إجراء غير قانوني وقابلته القاضية بالرفض.
وفي تعليقه على قرار عزل القضاة، قال الناشط السياسي والوزير السابق، محمد عبو: "قائمة الإعفاءات كانت تهدف لكسب شعبية بدأت تضمحل وللسيطرة على القضاة بتخويفهم وتحميلهم أمام الشعب مسؤولية عدم فتح ملفات الفساد الكبرى بعد بقاء الحال على ما هو عليه بعد حل مجلس القضاء الشرعي وتعويضه بمجلس معين، خلافاً لما كان يدعيه قيس سعيد".
وتابع في منشور على صفحته بموقع فيسبوك: "يوجد في القائمة جزء من كبار الفاسدين في القضاء، ولكن هذا لا يبرر الإهانة لمنتمين لسلطة القضاء بالجملة والخلط بين الفاسد والشريف ومنع الحق في الطعن، ولا يجب أن يصدق الناس أن الأسلوب المتبع يمكن أن تكون غايته الإصلاح".
إلى ذلك، اعتبرت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب " أن عزل رئيس الجمهورية قيس سعيد لعدد من القضاة، هو إيذان بمرحلة خطيرة من استعمال أجهزة الدولة والمرفق القضائي لإغلاق الحياة السياسية واستهداف المعارضة ومقاومي ما وصفته بـ"الانقلاب".
وحذرت، في بيان أصدرته اليوم الأربعاء، من "دفع البلاد إلى مخاطر المواجهة وتعميق عُزلتها تحت ستار حديدي من الحكم الفردي الاستبدادي المارق عن القوانين والشرعية".
جدير بالذكر أن دائرة المعارضين لم تقف عند نقابات العمال والقضاة والأحزاب والتحالفات السياسية، فقد دخلت نقابة الصحفيين على الخط. وبعد أن كانت مواقفها تقتصر على التنديد بقمع حرية الصحافة والتعبير نجدها الآن ترفض "أي محاولة احتكار لتصوّرات الحوار الوطني ومشروع الدستور الجديد وأحادية الخيارات المستقبلية".
ودعت في بيان إلى "ضرورة تشريك كل القوى الوطنية المدنية في الحوار الوطني وتوسيع دائرة التشاور والقرار من أجل الخروج بالبلاد من الأزمة".
ما مصير مشروع الرئيس؟
يرى متابعون للشأن العام في تونس أنه من الصعب جداً أن يتراجع قيس سعيّد عن قراراته في علاقته بالحوار الوطني وصياغة الدستور الجديد، والدليل على ذلك تجاهله لاتحاد الشغل أكبر داعميه بعد قرارات 25 يوليو/تموز واختياره عدم التنازل ولو بالحد الأدنى للمنظمة الشغيلة بالرغم من دعوات أمينها العام المتكررة بإيجاد أرضية مشتركة لتوسيع دائرة التشاور والحوار.
ويرجع ملاحظون ذلك لشخصية الرئيس الانطوائية ومواقفه وردود أفعاله العاطفية والتفكير الشعبوي الذي يقود أفعاله وقراراته على اعتبار أنه يتحدث باسم الشعب لدرجة التماهي معه واحتكار الحديث باسمه دون وسطاء من أحزاب ومنظمات وجمعيات المجتمع المدني التي يعتبرها فاقدة للصلاحية والأهلية في معظمها، وذلك عبر الاستثمار في العشرية السابقة التي فشل خلالها الفاعلون السياسيون في تحقيق أهداف الثورة والتنمية والعدالة الاجتماعية.
إلى ذلك، يزيد ضعف المعارضة وتشتتها من رغبة الرئيس في المرور بقوة لتنفيذ مشروعه بكتابة دستور جديد وتغيير النظام السياسي من نظام برلماني لنظام رئاسي مركزي، وتغيير القانون الانتخابي ليصبح التصويت على الأفراد وليس على القوائم، كما كان في السابق.
ويرى الباحث في علم الاجتماع، هشام الحجي، أنه "طالما بقيت المعارضة ضعيفة ومشتتة وغير قادرة على استقطاب شرائح أوسع من الرأي العام لصالحها، لن تؤثر في المدى القريب على الرئيس، خاصة أنه من الناحية الواقعية والقانونية والدستورية له متسع من الوقت لأن عهدته تنتهي في أكتوبر/تشرين الأول 2024".
وتابع حجي في حديث لوكالة الأناضول: "مشكل النخب هو ترتيبات انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2022 النيابية لأن الدستور الجديد يجسد الترتيبات (الأرضية) الجديدة للانتخابات، أي الوصول للسلطة، فإذا أقيمت وفق نظام رئاسي بقوائم فردية ستعتبر المعارضة أن وزنها يضعف".
وشدد على أنه "سواء صار حوار وطني أم لا، لن يتراجع سعيد عن استفتاء 25 يوليو، وهو مستعد لأن يفشل الحوار على أن يقبل تأجيل الاستفتاء".
للتذكير، تنقسم المعارضة السياسية لقيس سعيد في تونس لعدة تنظيمات وتحالفات نجد من بينها جبهة الخلاص الوطني التي يقودها السياسي أحمد نجيب الشابي، ومجموعة "مواطنون ضد الانقلاب" يقودها الناشط السياسي جوهر بن مبارك، والحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء، من بين زعمائها رئيس حزب العمال حمة الهمامي، بالإضافة لشخصيات وطنية وحقوقية أمثال الخبير في القانون الدستوري، عياض بن عاشور، والخبير الاقتصادي والوزير السابق فوزي عبد الرحمن، والكثير من الشخصيات الحقوقية والنقابية والمثقفين.
إلا أن مراهنة الرئيس قيس سعيد على تناقضات المعارضة وتشتتها وتحريض أنصاره وعموم المواطنين ضدهم بتهم من قبيل أنهم رموز لعشرية الفشل السياسي والفساد الاقتصادي وضياع أهداف الثورة والتهميش، من شأنه أن يزيد في تعفين الوضع باتجاه مواجهات اجتماعية أعنف تهدد السلم الأهلي.