عادت أسعار النفط إلى الارتفاع، ويبدو أنها لن تنخفض قريباً حتى لو توقفت الحرب الروسية في أوكرانيا، ولهذه التوقعات أسباب 3 رئيسة، بحسب خبراء الطاقة حول العالم.
كانت أسعار النفط قد قفزت إلى نحو 140 دولاراً للبرميل مع بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط الماضي، والحديث الغربي عن حظر النفط الروسي، كون موسكو أحد المصدرين الرئيسيين للنفط في العالم.
لكن أسعار الخام خالفت التوقعات ولم ترتفع أكثر رغم القرار الأمريكي بحظر النفط الروسي وتحركات الاتحاد الأوروبي في الاتجاه نفسه، بل تراجعت إلى ما قرب 100 دولار مع استمرار الحرب في أوكرانيا، بفعل عوامل متعددة تتعلق بالعرض والطلب وحالة الاقتصاد العالمي بشكل عام.
أين وصلت أسعار النفط؟
في بداية الحرب الروسية في أوكرانيا والحديث عن حظر النفط الروسي؛ أشارت التوقعات إلى احتمالات أن تتخطى أسعار النفط 300 دولار للبرميل، لكن ذلك لم يحدث رغم مرور أكثر من 100 يوم، بل وتراجعت أسعار النفط من أعلى مستوى وصلت إليه، وهو 139 دولاراً للبرميل في الأسبوع الأول من الحرب.
ولذلك التراجع، أو بمعنى أدق الاستقرار النسبي، في أسعار النفط أسباب؛ أهمها: تباطؤ الطلب نسبياً بفعل قيود الإغلاق التي طبقتها الصين في مدنها الكبرى، إضافة إلى السحب من الاحتياطي الاستراتيجي للنفط الأمريكي، وعدم حظر الاتحاد الأوروبي للنفط الروسي حتى الآن، إضافة إلى أسباب أخرى.
وعلى الرغم من قرار أوبك+، مطلع يونيو/حزيران الجاري، مضاعفة الزيادة التي كان متفقاً عليها في إنتاج النفط خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب القادمين، إلا أن أسعار النفط لم تستجب لتلك القرارات بالصورة التي كانت متوقعة، وواصلت الأسعار ارتفاعها.
وتخطت أسعار العقود الآجلة لخام برنت حاجز 120 دولاراً للبرميل الثلاثاء 7 يونيو/حزيران، بينما ارتفعت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأمريكي 83 سنتاً أو 0.7% إلى 119.33 دولاراً للبرميل.
المملكة العربية السعودية، أكبر مُصدر للنفط في العالم، رفعت سعر البيع الرسمي لشهر يوليو/تموز لخامها العربي الخفيف إلى آسيا بمقدار 2.10 دولار عما كان عليه في يونيو/حزيران عند علاوة قدرها 6.50 دولارات فوق متوسط خامي عُمان/دبي، بعيداً عن أعلى مستوياتها المسجلة في مايو/أيار عندما ارتفعت الأسعار إلى مستويات كبيرة بسبب مخاوف من تعطل الإمدادات الروسية.
وكانت منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وحلفاؤها، ويعرف جميعهم باسم أوبك+، قد قرروا زيادة الإنتاج لشهري يوليو/تموز وأغسطس/آب بمقدار 648 ألف برميل يومياً، وهذا الرقم يمثل زيادة 50% عما كان مخططًا له سابقاً، بحسب تقرير لرويترز.
لماذا يتوقع الخبراء زيادة أسعار النفط؟
نشرت شبكة CNN الأمريكية تحليلاً عنوانه "3 أسباب تدعم استمرار أسعار النفط المرتفعة"، توقع من خلاله خبراء ومحللون لأسواق الطاقة واتجاهاتها أن تستمر الأسعار في المتوسط الحالي، أو على الأقل فوق 100 دولار للبرميل كحد أدنى لسنوات، حتى وإن وضعت الحرب في أوكرانيا أوزارها قريباً.
وقال المحلل الرئيس لأسواق النفط في منطقة الأمريكتين بشركة كبلر لتحليلات الطاقة، مات سميث، للشبكة الأمريكية: إن "أسعار النفط المكونة من 3 أرقام ستظل هنا على الأرجح لفترة ليست بالقصيرة".
وأضاف محلل النفط أنه في حالة ارتفاع الطلب على الخام في الصين على المدى القصير، "قد تكون عودة الأسعار لمستويات 140 دولاراً للبرميل احتمالاً واقعياً للغاية".
وكانت الحياة قد عادت لطبيعتها في بكين وشنغهاي، المركز التجاري للصين، في الأيام الأخيرة بعد شهرين من الإغلاق الصارم لوقف بؤر تفشٍّ لمتحور أوميكرون من فيروس كورونا. والإثنين 6 يونيو/حزيران، تم رفع الحظر على المرور، وفتحت المطاعم أبوابها لتقديم خدمة تناول الطعام في معظم أنحاء بكين.
وقالت تينا تينج المحللة في (سي.إم.سي. ماركتس) لرويترز: "يمكننا أن نشهد زيادة في الطلب على الوقود مع عودة السيارات إلى الطرق في المدن الكبرى، وعودة الموانئ تدريجياً إلى العمل الطبيعي في الصين".
كانت نسخ متعددة من متحوِّر أوميكرون قد انتشرت في الصين خلال الأشهر الـ3 الماضية؛ ما دفع المسؤولين هناك إلى إعادة فرض عمليات الإغلاق واسعة النطاق والقاسية، وكانت العاصمة بكين وشنغهاي أبرز المتأثرين بتلك الإجراءات، التي قللت من النشاط الاقتصادي بشكل لافت، وبالتبعية انخفض الطلب على النفط في ثاني أكبر اقتصادات العالم وأكثرها نهماً للخام الأسود.
وبالتالي فإن زيادة الطلب الصيني على النفط يعتبر، في حد ذاته، عاملاً رئيساً وراء ارتفاع الأسعار، لكن تزامن تلك الزيادة في الطلب مع شح المعروض بسبب العقوبات على النفط الروسي، وزيادة الطلب أيضاً في الأسواق الصناعية الرئيسة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وغيرها، يضيف سبباً آخر لارتفاع أسعار النفط واستمرارية تلك الأسعار المرتفعة، خصوصاً في حالة استمرار المنتجين الرئيسيين في الحفاظ على معدلات الإنتاج الحالية.
حظر النفط الروسي
على الرغم من أن المعاناة الحالية للاقتصاد العالمي بشكل عام والاقتراب من حالة ركود تعني تراجع الطلب على النفط، وبالتبعية تنخفض الأسعار، إلا أن مستوى التراجع في الطلب على النفط قد لا يكون كافياً لإحداث انخفاض ملموس في الأسعار.
"القلق هذه المرة هو أنه حتى لو حدث ركود اقتصادي بالفعل، قد لا تتأثر أسعار النفط هبوطاً عن مستوى الأسعار الحالي، والسبب كون الأزمة مرتبطة بجانب واحد فقط، وهو كمية المعروض من النفط في الأسواق"، بحسب سميث.
وفي القلب من هذه المعادلة يأتي النفط الروسي بطبيعة الحال، فموسكو من كبار المصدرين للخام، وهو ما يجعل غياب النفط الروسي عن الأسواق العالمية مشكلة حقيقية. ويرى كثير من المحللين أن هذه المعادلة تسببت في تردد الاتحاد الأوروبي في اتخاذ قرار حظر النفط الروسي لما يقترب من 4 أشهر، وحتى عندما اتخذ القرار قبل أيام، جاء جزئياً وغير مشمول بالتنفيذ الفوري.
وقال سميث للشبكة الأمريكية إن كثيراً من دول الاتحاد الأوروبي ستواصل شراء النفط الروسي حالياً، جنباً إلى جنب مع مواصلة البحث عن بدائل من منتجين آخرين، وبحسب ما قدمه من بيانات، ارتفعت بالفعل واردات أوروبا من نفط وسط آسيا بـ3 أضعاف، ومن العراق بنحو 50% منذ بداية الحرب في أوكرانيا.
لكن استيراد الاتحاد الأوروبي، أكبر مستوردي النفط في العالم، للخام من أماكن أخرى لاستبدال النفط الروسي، يمثل سبباً آخر لاستمرار الأسعار المرتفعة: "التأثير المباشر لهذه البدائل (للنفط الروسي لأوروبا) هو ارتفاع تكاليف الشحن، وبالتالي ارتفاع الأسعار النهائية للسلعة"، بحسب ما قاله محلل الوقود الأحفوري بشركة فورتيكسا، روزالان خصاونة، لسي إن إن.
وبحسب الوكالة الدولية للطاقة، أسهمت روسيا وحدها بأكثر من 14% من صادرات النفط العالمية العام الماضي، وبالتالي فإن العقوبات الغربية وتخفيض روسيا إنتاجها من النفط فعلياً في أبريل/نيسان بنحو مليون برميل يومياً، متوقع أن تصبح 3 ملايين برميل يومياً في النصف الثاني من العام الجاري، يعني مزيداً من شح إمدادات النفط العالمية، وبالتالي استمرار الطلب ومعه استمرار الأسعار المرتفعة.
استمرار الطلب العالي على النفط
النفط سلعة أساسية لا غنى عنها مهما ارتفعت الأسعار. وفي الوقت نفسه هي سلعة سريعة التأثر ومتقلبة للغاية. هذه حقائق ثابتة في أسواق الطاقة يدركها الجميع، وعلى أساسها يبني المحللون توقعاتهم بشأن استمرار الأسعار المرتفعة على المدى القصير حتماً والمتوسط على الأرجح، وربما أيضاً على المدى الطويل.
ويرى سميث أن الأشهر القليلة الماضية قد "ألغت تماماً تأثير الأسعار المرتفعة على الطلب على النفط، وهذا سبب آخر أدعى للاعتقاد بأن الأسعار المرتفعة ستظل معنا لسنوات ربما". ويفسر محلل الطاقة ذلك بالقول إنه على الرغم من أسعار المنتجات النفطية المرتفعة "بطريقة تجعل العيون تدمع حرفياً" في الولايات المتحدة، لم يتراجع الطلب، بل العكس هو ما حدث ويحدث.
فعلى الرغم من أن أسعار البنزين في الولايات المتحدة ارتفعت بأكثر من 50% على أساس سنوي، إلا أن كميات البنزين التي باعتها المحطات الأمريكية بالفعل لم تنخفض تقريباً، ومن المتوقع أن يزداد الطلب خلال الأشهر القليلة المقبلة تزامناً مع موسم الإجازات الصيفية.
ومع عودة النشاط الاقتصادي في الصين إلى العمل بطاقته القصوى، ستعمل المصانع بكامل طاقتها، وهو ما يعني زيادة في الطلب. والأمر نفسه ينطبق على الاتحاد الأوروبي وباقي المناطق المتعطشة للنفط. ويقابل ذلك مشكلات متنوعة يتعرض لها منتجون كبار للنفط، مثل ليبيا التي تعاني من الاضطرابات السياسية، والعراق وفنزويلا غير القادرتين على زيادة الإنتاج بصورة كبيرة لأسباب تتعلق ببنية الإنتاج. كما أن عدم وصول مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني لأي نتيجة يعني أيضاً غياب النفط الإيراني الرسمي عن أسواق الطاقة.
الخلاصة هنا هي أن تعايش المستهلكين مع أسعار النفط المرتفعة خلال الأشهر الماضية قد لا يكون أمراً مؤقتاً، بل يعتقد الخبراء أن أسعار النفط المرتفعة قد تتحول من مجرد "ضيف" قد يرحل قريباً إلى "زائر ثقيل الظل" سيبقى طويلاً.