هناك 50 دولة تواجه "ظاهرة الحرارة الشديدة"، وهي خطر وجودي بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، نصف تلك الدول في الشرق الأوسط وكثير منها دول عربية، فهل فات أوان تفادي الكارثة المناخية القادمة؟
مجلة The National Interest الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "هل بوسع الشرق الأوسط تجنب الكارثة المناخية المقبلة؟"، رصد أحدث التقارير الخاصة بالتغير المناخي عالمياً، وبصفة خاصةٍ ما ينتظر دول الشرق الأوسط بالتحديد.
المقصود بمصطلح التغير المناخي هو التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض، وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسببةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها؛ ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة باختصار: نقص الغذاء.
وحتى تكون الصورة الكبرى أقرب لنا جميعاً، فقد ارتفعت درجة حرارة كوكب الأرض نحو 1.2 درجة مئوية منذ بداية الثورة الصناعية وإنشاء المصانع. ويؤدي كل ارتفاع في درجة حرارة الكوكب بجزء واحد من الدرجة المئوية إلى ازدياد وتيرة الظواهر المناخية المتطرفة.
لماذا الشرق الأوسط تحديداً؟
كشف تقريرٌ نشره صندوق النقد الدولي مؤخراً، أن متوسط درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط قد ارتفع 1.5 درجة مئوية منذ عام 1990، وهذا ما يمثل أكثر من ضعفَي المتوسط العالمي لارتفاعات الحرارة في الفترة نفسها، وهو ما يعني أن الشرق الأوسط يعاني من كارثة مناخية وشيكة بالفعل.
علاوةً على أن دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تمثل نحو نصف الدول الـ50 الأكثر عرضة لـ"ظواهر الحرارة الشديدة" (وهي فترات من الارتفاع المفرط في درجات الحرارة والرطوبة). ومن المتوقع أن نشهد زيادة درجات الحرارة أكثر مع تداعيات اقتصادية، وبيئية، واجتماعية ضارة على المنطقة.
إذ حذَّرت الأمم المتحدة في عام 2019، مثلاً، من أننا على مشارف عصر "الفصل العنصري المناخي"، حيث تهدد درجات الحرارة القاسية وموجات الحر المطولة بـ"القضاء على الجهود المبذولة آخر 50 عاماً في التنمية، والصحة العالمية، ومكافحة الفقر"، فضلاً عن إفقار الملايين.
وسيحمل هذا الواقع الجديد تداعيات من نوع خاص في منطقة الشرق الأوسط التي تعاني بالفعل من مشكلات نقص الكهرباء، وغياب المساواة الاقتصادية، والأضرار البشرية التي تزيد بسبب موجات الحر المطولة التي تسجل درجات حرارة قياسية.
ومن المرجح أن تؤدي هذه المعاناة إلى آثارٍ اقتصادية واضحة، حيث أوضح تقرير صندوق النقد الدولي أنه "حتى لو نظرنا إلى سيناريو انبعاثات معتدل (بمسار تركيز تمثيلي يبلغ 4.5) يحدد الاحترار العالمي بمقدار 2 إلى 3 درجات مئوية بحلول عام 2100، لوجدنا أن التكاليف المرتبطة بالوفيات (تكلفة الوفيات والتكيفات في المجتمع) قد تصل في المتوسط إلى 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً خلال الفترة من 2040 إلى 2059".
ويبدو الوضع أسوأ بالنسبة لأكثر الدول سخونةً في المنطقة، مثل البحرين وجيبوتي وموريتانيا وقطر والإمارات. ويقول صندوق النقد الدولي إن هذه الدول قد تشهد "انخفاضاً فورياً في معدل النمو الاقتصادي للفرد بمقدار نقطتين مئويتين تقريباً لكل زيادةٍ قدرها 1 درجة مئوية في درجات الحرارة".
ليست الحرارة المرتفعة فقط، الجفاف أيضاً!
ولا يتوقف الأمر عند ارتفاع درجات الحرارة فقط، بل يؤدي انخفاض معدلات هطول الأمطار أيضاً إلى مفاقمة التحديات التي تواجهها المنطقة. ولا شك في أن انخفاض معدلات هطول الأمطار سنوياً يزيد سوء أزمة المياه التي يعانيها الشرق الأوسط.
وتُعَدُّ أزمة المياه بالمنطقة من أسوأ الأزمات في العالم، بسبب مناخ المنطقة الجاف، وسوء الإدارة الحكومية للموارد المائية منذ سنوات، ودعم الزراعة كثيفة المياه، وتربية الحيوانات، بحسب تقرير المجلة الأمريكية.
ومن المؤكد أن التكيف مع حالة الطوارئ المناخية المقبلة سيلقي بأعباء كبيرة على كاهل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تستخدم في المتوسط أربعة أضعاف موارد المياه العذبة المتاحة لها وتعتبر موطناً لـ12 من أصل 17 دولة هي الأكثر تأثراً بندرة المياه في العالم.
وتعتبر المنطقة مُعرّضةً في الواقع لما هو أكبر من مشكلة هطول الأمطار: إذ تحصل دول المنطقة في المتوسط على أكثر من نصف موارد مياهها المتجددة (مثل الأنهار) عبر مصادر تقع خارج حدودها. ولم يكن تحذير صندوق النقد الدولي من أن الاعتماد الخارجي "سيُضخّم مخاطر نزاعات المياه الإقليمية وتدفق اللاجئين"، مجرد تحذيرٍ نظري.
إذ شهدنا ذلك بالفعل حين هددت مصر بالتحرك عسكرياً لمنع مشروعات الطاقة الكهرومائية الإثيوبية، خاصةً سد النهضة، من تقليص إمدادات المياه في مجرى النيل، الذي يزود مصر بـ97% من موارد مياهها المتجددة.
وعلى نحوٍ مماثل، زادت النزاعات المرتبطة بـ"السياسات المائية" من خطر اندلاع صراعات بين دول مثل إيران وأفغانستان، وسوريا والعراق وتركيا، والهند وباكستان. وتحوّلت المياه مع بنيتها التحتية إلى أسلحةٍ وأهداف بواسطة الدول والأطراف غير الحكومية في الحرب السورية، وحرب العراق، وحرب اليمن.
علاوةً على أن زيادة احتمالية الجفاف وارتفاع درجات الحرارة قد تثير مزيداً من الانتفاضات العنيفة والعمليات الانتقامية، كما حدث حين أدت حالات الجفاف غير المسبوقة إلى تحفيز أحداثٍ مزلزلة مثل الربيع العربي عام 2010، والحرب السورية عام 2011، والاحتجاجات التي ضربت إيران عام 2021. ولا تمثل المياه السبب الرئيسي لعدم الاستقرار والحروب دائماً، لكنها أصبحت جزءاً من المنافسة والصراع في هذه المنطقة الجافة على نحوٍ متزايد.
نمو مضاعف للسكان ومضاعفة مشاكل المنطقة
لا يبدو الحديث عن مدى خطورة الوضع مبالغة حين يتم تحليل هذه الاتجاهات إلى جانب معدلات نمو سكان المنطقة (التي من المتوقع أن تتضاعف بحلول عام 2050). إذ لا يستطيع أكثر من 60% من سكان المنطقة الوصول إلى مياه صالحة للشرب أو يحصلون على كميات قليلة منها.
فضلاً عن أن تسعة من أصل كل 10 أطفال يعانون تداعيات صحية وغذائية مرتبطة بعيشهم في مناطق "ذات ندرة مياه مرتفعة أو شديدة"، وفقاً لتقرير منظمة اليونيسف عام 2020.
ومن المرجح في السيناريو الاعتيادي بالتبعية أن تدفع هذه الاتجاهات بالمهاجرين واللاجئين الاقتصاديين والمناخيين إلى الفرار من المنطقة، مما يقوض استقرارها وآفاقها الاقتصادية أكثر.
وسيتجلى الأمر بوضوحٍ أكبر في أعقاب الكوارث المناخية الأكثر تكرارية وحدَّة، مثل الفيضانات والجفاف، حيث تقتل الكوارث المناخية أكثر من 2600 شخص، وتؤثر على سبعة ملايين آخرين، مع أضرارٍ مباشرة تصل إلى ملياري دولار في كل عام منذ سنة 2000، بحسب صندوق النقد الدولي، مما يقلل النمو الاقتصادي الإقليمي للفرد بـ1% إلى 2% في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
ولا شك في أن ارتفاع درجات الحرارة، وعدم انتظام هطول الأمطار، وارتفاع مستويات سطح البحر سيزيد كوارث المنطقة سوءاً ويجعلها أكثر تكراراً بمرور الوقت. وتُشير التوقعات إلى أن مساحات شاسعة من مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المأهولة حالياً قد تتحول إلى مناطق غير صالحة للحياة بحلول نهاية القرن.
مدينة الإسكندرية المصرية
تمنحنا مدينة الإسكندرية الساحلية في مصر رؤيةً ثاقبة لمستقبل المنطقة، إذ يسكنها خمسة ملايين شخص وتستضيف 40% من قدرة مصر الصناعية، لكن البحر المتوسط يحيط بها من ثلاث جهات.
وذكرت وكالة Associated Press الأمريكية في عام 2019، أن المد والجزر يهددان أفقر أحياء المدينة ويأكلان شواطئها العامرة بالسياح. فيما قال مسؤولون مصريون إن معدلات مياه البحر ترتفع حالياً بمقدار 3.2 ملم/سنوياً، أي أسرع بنسبة 52% من معدلات ما قبل عام 2012، وأسرع بـ77% من معدلات عام 1993.
بينما حذّرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ من أن مستويات مياه بحار العالم قد ترتفع بما يتراوح بين 30 و90 سم بحلول عام 2100. ولن تُغرق المياهُ الإسكندرية فقط في حال تحققت أسوأ السيناريوهات المذكورة، حيث كتب جيوفري كيمب وآخرون في عام 2018، أن 60% على الأقل من منطقة دلتا نهر النيل، التي يقطنها ربع سكان مصر، قد تفقد خصوبة تربتها بعد أن تغمرها المياه المالحة، كما ستغطي المياه المالحة 20% من أراضي المنطقة بالكامل.
ونقلت وكالة Reuters أن وقوع فيضان في دلتا النيل، المعروف بأنه سلة خبز البلاد، قد يؤدي لفقدان 11% من إنتاج الأرز و15% من إنتاج القمح بحلول عام 2050. وليس بوسع الحكومة المصرية أن تفعل الكثير باستثناء الإنفاق على خطط التخفيف الباهظة التي تسعى لإقامة حواجز مادية تُبقي مياه البحر تحت السيطرة.
وربما تعتبر التحديات التي تواجه مصر فريدةً من نوعها، لكن الأوضاع التي يجب أن تتعامل معها القاهرة والحلول التي يجب أن تتبناها ليست كذلك. ولا شك في أن الحكومات الإقليمية والمجتمع الدولي عليهما الاستثمار بشدة في استراتيجيات التخفيف والتكيف، من أجل إنقاذ ملايين سكان الشرق الأوسط الذين يعيشون في مناطق ساحلية منخفضة من أسوأ تأثيرات تغير المناخ.
وتُدرك القاهرة ذلك جيداً، لهذا أصبحت مصر أول دولةٍ بالشرق الأوسط تصدر سندات سيادية خضراء في عام 2020، بغرض تشجيع الاستثمار في المشاريع المستدامة بيئياً (التي توسعت بعد أن تجاوز الاكتتاب على السند سبعة أضعاف المتوقع).
وبوسع المبادرات الحكومية المماثلة التي تحفز الاستثمارات المستدامة بيئياً، أن تضرب مثلاً للدول الأخرى وممولي القطاع الخاص أيضاً. وتشير هذه المبادرات أيضاً إلى أن تكاليف التخفيف وإصلاحات التكيف ربما تكون مرتفعة، لكن يظل بالإمكان الترويج للتحول باعتباره فرصةً اقتصادية للمنطقة. وربما يكون هذا أفضل طريقٍ للمضي قدماً، لأن ثمن التقاعس سيكون باهظاً للغاية.