اتفاق سري بين زعيم أكبر دولة مطلة على الخليج والرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون كان وراء نصف قرن من الدمار في المنطقة، بينما ملأت الولايات المتحدة جيوبها بالأموال نتيجة ما أطلق عليه مبدأ نيكسون.
ففي 31 مايو/أيار عام 1972، التقى نيكسون وشاه إيران محمد رضا بهلوي الذي يحلم بإعادة الأمجاد الفارسية سراً في قصر سعد آباد في طهران.
ووافق نيكسون، للمرة الأولى، على بيع مقاتلات إف-14 وإف-15 وقنابل موجهة بالليزر، لإيران، وهي من أكثر الأسلحة تطوراً في ترسانة الولايات المتحدة في ذلك الوقت، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وفي المقابل، طلب نيكسون من الشاه أن تستخدم إيران هذه الأسلحة لحماية المصالح الأمريكية في منطقة الخليج.
فبعد أن قيدت حرب فيتنام قدرة الولايات المتحدة على إرسال قوات في الخارج، سعى نيكسون لزيادة حصة حلفاء الولايات المتحدة على مستوى العالم من أعباء الدفاع العسكري في الحرب الباردة، وهي استراتيجية أُطلق عليها "مبدأ نيكسون". كان نيكسون ينظر إلى إيران على أنها الشريك المثالي في الخليج لمواجهة النفوذ السوفييتي المتنامي في البلدان المجاورة بفضل علاقات الشاه الوثيقة مع الولايات المتحدة وارتفاع عائدات النفط الإيرانية.
مبدأ نيكسون خالف اتفاقاً مع بريطانيا وفرنسا للحد من بيع الأسلحة لدول الخليج
واعتنق الشاه، الذي كان يحلم بتحويل إيران إلى قوة عسكرية لا نظير لها في الخليج، مبدأ نيكسون، وانطلق بعدها سباق ضخم للتسلح في المنطقة المضطربة لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا.
وكانت الولايات المتحدة قد اتفقت، في بدايات الحرب الباردة، مع المملكة المتحدة وفرنسا على الحد من بيع الأسلحة لدول الخليج، بما يشمل إيران. وخلال الستينيات، قيدت الحكومة الأمريكية حجم الأسلحة التي ستبيعها لإيران خوفاً من أن يقدم الشاه، في حال تركه دون رقابة، على إنفاق أموال أكثر من اللازم على الأسلحة الأجنبية على حساب تنمية الاقتصاد الإيراني، وبالتالي يتراجع دعم الإيرانيين للملك.
على أنه بعد اجتماع نيكسون مع الشاه في مايو/أيار عام 1972، أمر الحكومة الأمريكية بوقف سياسة الأسلحة المقيدة مع إيران. ومن عام 1970 إلى عام 1974، ازدادت صفقات الأسلحة والخدمات العسكرية الأمريكية والبناء مع إيران بمقدار 23 ضعفاً.
صفقات السلاح الأمريكية كانت أحد أسباب الثورة الإيرانية
وفي أواخر السبعينيات، كان الشاه لا يزال مستمراً في صفقاته باهظة الثمن، التي شملت عشرات من طائرات إف-14، وأربع مدمرات صاروخية من أحدث طراز، وسبع طائرات استطلاع أواكس عالية التقنية.
وهذه التعزيزات العسكرية الإيرانية الهائلة حفزت سباق تسلح في منطقة الخليج. فرداً على قوة إيران المتعاظمة وتزويدها أكراد العراق بالأسلحة، زاد العراق حجم مشتريات أسلحته من الاتحاد السوفييتي، وسارعت السعودية بدورها، في ردها على قوة الجيش العراقي المتنامية، إلى زيادة مشترياتها من الأسلحة الأمريكية، التي شملت 60 طائرة مقاتلة من طراز إف-15 عام 1978.
على أنه في مطلع عام 1979، أطاحت الثورة الإيرانية بشاه إيران، وحل محله آية الله روح الله الخميني المعادي لأمريكا. والسبب الأكبر الذي ثار الإيرانيون لأجله على الشاه كان شعورهم أنه أسرف في الإنفاق على الأسلحة الأمريكية (التي اُستخدمت ضدهم فيما بعد) وتجاهل العمل على رفع مستوى المعيشة بين الإيرانيين، وهي الفكرة التي لم يتوقف الخميني عن التطرق إليها في خطاباته الثورية. وساهم مبدأ نيكسون في تحويل إيران من حليف إلى خصم للولايات المتحدة.
ورغم سقوط الشاه، ازدادت الولايات المتحدة تمسكاً بمبدأ نيكسون، على أمل أن تساهم مبيعات الأسلحة للحلفاء العرب في احتواء إيران. وبالمثل، بذل أفراد العائلة المالكة السعوديون جهوداً حثيثة للحصول على مزيد من الأسلحة الأمريكية لحماية أنفسهم من الحكومة الجديدة المناهضة للملكية في إيران التي كانت مدججة بالأسلحة الأمريكية وتعهدت بتصدير الثورات الإسلامية إلى الخارج.
ثم ظهر مبدأ كارتر
ورغم أن الثورة الإيرانية بداية عام 1979 صدمت الرياض وواشنطن، أثار الغزو السوفييتي لأفغانستان نهاية ذلك العام حالة من الذعر. وأعلن الرئيس جيمي كارتر أن "أي محاولة من أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج.. ستُواجه بالصد بأي وسيلة ممكنة، حتى لو كانت القوة العسكرية"، وأمر بتعزيز القوات الأمريكية في الخليج العربي وحوله.
ويرى كثيرون أن هذا المبدأ الذي اعتمده كارتر كان إيذاناً بنهاية بمبدأ نيكسون في الخليج، إذ إنه يدعم استخدام القوات الأمريكية لحماية المنطقة، على عكس سياسة نيكسون في الاعتماد على جيوش حلفائها في المنطقة.
على أنه في حقيقة الأمر، كان مبدأ نيكسون يسير جنباً إلى جنب مع مبدأ كارتر، غير أن الاعتماد الأكبر كان على مبدأ نيكسون في البداية. وتطور انتشار القوات الأمريكية في الخليج العربي تدريجياً في النصف الأول من الثمانينيات. وفي المقابل، من عام 1979 وحتى عام 1984، حازت السعودية أكثر من ربع قيمة اتفاقات الأسلحة والخدمات العسكرية الأمريكية.
وعام 1980 بدأت الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثماني سنوات، وزادت من زعزعة الاستقرار في الخليج العربي. وساهمت الأسلحة المكدسة في البلدين الناتجة عن مبدأ نيكسون في فترة السبعينيات في توسيع نطاق عنف الحرب بدرجة مخيفة. وفضلاً عن ذلك، في انحراف عن مبدأ نيكسون، دعمت واشنطن مبيعات أسلحة غير مسبوقة من الاتحاد السوفييتي وفرنسا إلى العراق لاحتواء قوة إيران. وفي الوقت ذاته حصلت إيران على أسلحة أمريكية من السوق السوداء. وساهمت الحرب في ارتفاع أسعار النفط العالمية، وزادت من توغل الجيش الأمريكي في الخليج، وتسببت في مقتل قرابة 750 ألف شخص.
وكان توسع بغداد تحت حكم صدام حسين في التسلح خلال الحرب العراقية الإيرانية سبباً رئيسياً لتشجيع صدام على الغزو العراقي للكويت الذي يعتبر واحداً من أسوأ اللحظات في التاريخ العربي الحديث والذي أطلق سلسلة من التفاعلات السلبية التي أدت لتردي الأوضاع في العالم العربي وانتشار الإرهاب.
ومثلت تدخلات الجيش الأمريكي في حرب الخليج عام 1991 وغزو العراق عام 2003، والانتشار الكبير للقوات القتالية الأمريكية، أكبر انحراف لواشنطن عن مبدأ نيكسون في الخليج. على أن كلتا الحربين زادت من قوة إيران نسبياً، بعد أن ضعفت قدرة العراق واستعداده لمواجهة القوة الإيرانية، ومع استمرار حرب العراق لسنوات، تبدد الدعم الأمريكي لعمليات نشر القوات الأمريكية في مناطق الحرب بدرجة كبيرة.
وها هي أمريكا تعود إلى مبدأ نيكسون لتشعل المنطقة من جديد
وهذه العوامل دفعت واشنطن إلى العودة مرة أخرى إلى مبدأ نيكسون، حيث باعت الولايات المتحدة كماً غير مسبوق من الأسلحة إلى السعودية والإمارات حتى تتمكنا من مواجهة إيران عسكرياً بمفرديهما. وبلغت قيمة إحدى هذه الصفقات 60 مليار دولار عام 2010 والتي أبرمت في عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما.
على أن السعودية استخدمت دفعات الأسلحة الأمريكية لشن حرب اليمن، حفاظاً على نفوذها على حساب إيران. وقد ساعدتهما إدارتا أوباما وترامب بإمدادات جديدة من الأسلحة. ومن عام 2015 حتى عام 2019، تلقت السعودية ربع إجمالي صادرات الأسلحة الأمريكية. وعرضت إدارة بايدن أيضاً أسلحة أمريكية متطورة، وإن كانت مصحوبة ببعض القيود الجديدة، على السعوديين والإماراتيين.
ومن جديد، أضر مبدأ نيكسون بمصالح الولايات المتحدة وشعوب الشرق الأوسط. فالحرب التي تقودها السعودية لم تؤدِّ إلا إلى زيادة النفوذ الإيراني في اليمن وإلهاب المشاعر المعادية لأمريكا هناك بعد مقتل العديد من اليمنيين بأسلحة أمريكية.
ونتج عن بيع أسلحة متطورة لدول الخليج بأعداد لا تحصى وفق مبدأ نيكسون كوارث إنسانية واستراتيجية متكررة. وبعد 50 عاماً، من الضروري أن تُنهي الولايات المتحدة دورها في سباقات التسلح في الخليج وأن تلتزم عوضاً عن ذلك بالتفاوض على اتفاقيات متعددة الأطراف لخفض مبيعات الأسلحة والحشود العسكرية في المنطقة.