أوروبا هي المشتري الأكبر للغاز والنفط من روسيا، أي أن توقف البيع يعني خسارة كبيرة لموسكو، ورغم ذلك لا يُبدي فلاديمير بوتين مرونةً تُذكر في عملية شد الأصابع، فما القصة؟
"لماذا لا تتضرر روسيا حتى وهي توقف تصدير الغاز إلى أوروبا؟"، هذا السؤال عنوان لتحليل نشرته شبكة CNN الأمريكية، يرصد التفاصيل المعقدة للعلاقة القائمة على مصادر الطاقة بين موسكو وبروكسل، والعوامل الأخرى التي لها تأثير مباشر على القرارات في هذه المساحة.
ومنذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة بينما يراه الغرب غزواً لدولة ذات سيادة من جارتها الأقوى، كانت العقوبات الغربية تهدف إلى إجبار موسكو على التراجع والانسحاب من أوكرانيا، لكن الهدف المعلن من تلك العقوبات لم يتحقق على الرغم من دخول الحرب شهرها الرابع.
الاقتصاد الروسي وأثر العقوبات الغربية
فمنذ أن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الإثنين 21 فبراير/شباط الماضي، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين، وقبل حتى أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا بعد ذلك بثلاثة أيام قرّر الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات اقتصادية على موسكو، لإجبارها على التراجع، ثم توالت العقوبات.
لكن رغم توالي حزم العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا، كانت قضية حظر النفط والغاز الروسي تحديداً تمثل قضية شائكة تفتقر تماماً للحد الأدنى من التوافق بين دول الاتحاد، البالغ عددها 27 دولة، والسبب يرجع لعدد من الاختلافات الجوهرية بشأن حجم اقتصاد كل دولة ومدى اعتمادها على نفط روسيا وغازها، وأيضاً ما يحتاجه استبدال الطاقة الروسية من استثمارات في البنية التحتية.
لكن في الوقت نفسه من المهم التوقف عند طريقة التعامل الروسية مع السوق الأكبر لمصادرها من الطاقة وهي أوروبا؛ إذ نجد أن قرار بوتين الخاص بتسديد قيمة الغاز الروسي بالعملة المحلية، أي الروبل، يعتبر سلاحاً ذا حدين، أو ما يمكن وصفه بلعبة الروليت الروسية. فتوقف موسكو عن إمداد زبائنها الأوروبيين بالغاز والنفط يعني ببساطة حرمان الخزينة الروسية من أحد مصادر الدخل الرئيسية، وفي ظل العقوبات غير المسبوقة تصبح وطأة توقف ذلك الدخل مُضاعفة.
لكن بعد مرور نحو أربعة شهور منذ بدء فرض العقوبات، لا يبدو أن الاقتصاد الروسي يعاني أضراراً واضحة، بل يمكن القول إن العكس هو ما يحدث. فالروبل الروسي ارتفعت قيمته مقارنة بالدولار واليورو إلى أعلى مستوى للعملة الروسية منذ مارس/آذار 2020، بحسب تقرير لرويترز قبل شهر تقريباً.
ولا تزال العملة الروسية تواصل ليس فقط الحفاظ على قيمتها بل الارتفاع أيضاً، بحسب تقرير لشبكة CBSnews الأمريكية الأسبوع الماضي رصد كيف أن الروبل الروسي هو أقوى عملات العالم على الإطلاق خلال العام الجاري 2022.
وقد يكون الأداء القوي للعملة المحلية راجعاً إلى دعم من البنك المركزي الروسي، أو لا يعتبر المؤشر الوحيد على قوة الاقتصاد أو كما في هذه الحالة، لا يمكن اعتباره مؤشراً على عدم تضرُّر الاقتصاد الروسي من العقوبات، إلا أن روسيا لم تعانِ من أزمات تتمثل في نقص السلع الرئيسية أو ارتفاع أسعارها بصورة مبالغ فيها، كما حدث في أغلب دول العالم، ومنها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
ارتفاع أسعار النفط والغاز
قامت شركة الغاز الروسية غازبروم بقطع الإمدادات عن ست دول أوروبية، خلال فترات متفاوتة في الأسابيع الأخيرة ومنذ قرار الدفع بالروبل وإلا وقف الإمدادات، وهذه الدول هي: بولندا وبلغاريا وفنلندا والدنمارك وأخيراً هولندا وألمانيا. ويعني هذا أن إمدادات غازبروم قد انخفضت بنحو 20 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وهو ما يُقدَّر بنحو 13% من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي على أساس سنوي.
لكن الدخل الروسي من صادرات الغاز والنفط إلى الاتحاد الأوروبي قد ارتفع بصورة كبيرة، رغم انخفاض الكميات المبيعة. وكشف تقرير لمركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف أن الاتحاد الأوروبي دفع 47 مليار دولار لروسيا مقابل وارداته من الغاز والنفط خلال شهرَي مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيين (أي بعد بدء الهجوم الروسي وفرض العقوبات الغربية على موسكو). ويمثل هذا المبلغ المدفوع أكثر من ضعف ما دفعه الاتحاد الأوروبي لروسيا خلال نفس الشهرين من العام الماضي.
ويرى جيمس هوكستيب، رئيس إدارة محللي الطاقة في وكالة ستاندرد آند بورز الأمريكية، أن السبب الرئيسي يرجع إلى الارتفاعات القياسية في أسعار النفط والغاز، وهو ما يعني تعويض روسيا عن أي انخفاضات متوقعة في الإمدادات لعملائها الأوروبيين.
"النتيجة المباشرة لارتفاع أسعار النفط والغاز هي أنه من غير المرجح أن تتعرض روسيا لانخفاضات مؤلمة في إيراداتها من ذلك القطاع، إلا إذا حدثت انخفاضات حادة في الصادرات"، بحسب ما قاله هوكستيب للشبكة الأمريكية CNN.
كان بوتين قد أعلن نهاية مارس/آذار الماضي أن "الدول غير الصديقة" يجب أن تدفع مقابل إمدادات الغاز بالروبل بعد أن جمَّد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أصول عملات البنك المركزي الروسي.
وصباح الأربعاء 27 أبريل/نيسان، أوقفت شركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم إمدادات الغاز إلى بلغاريا وبولندا؛ بسبب عدم سداد البلدين مدفوعات الوقود بالروبل؛ لتصبح بولندا وبلغاريا أول دولتين يتم قطع إمدادات الغاز عنهما من قِبَل المورِّد الرئيسي لأوروبا. لكن مع مرور الوقت، بدأ الطرفان في تشديد الضغط في لعبة شد الأصابع بينهما؛ ليصبح السؤال: مَن سيتراجع أولاً؛ روسيا أم أوروبا؟
ولا تتوقف الاحتمالات في محاولة الإجابة عن هذا السؤال على عامل واحد منفرداً، فارتفاع الأسعار يصب في صالح موسكو، بلا شك، لكن التوقف الكامل عن البيع سيحرم الكرملين من تلك الاستفادة، وفي الوقت نفسه كلما تأخر وجود بديل للنفط والغاز الروسي بالنسبة لأوروبا، الفقيرة تماماً في الإنتاج وفي الوقت نفسه هي المستهلك الأول عالمياً، زادت الضغوط على الزعماء في مجتمعات ديمقراطية يسعى فيها الزعيم المنتخب إلى عدم فقدان منصبه بطبيعة الحال.
هل يعني هذا أن روسيا لن تتضرَّر فعلياً؟
كانت دول الاتحاد الأوروبي، بعد مفاوضات ماراثونية، قد تمكنت أخيراً من الاتفاق على خفضٍ لوارداتها من النفط الروسي بشكل تدريجي، ومن المفترض أن تصل نسبة ذلك الانخفاض إلى 90% بنهاية العام الجاري. ويشمل الحظر صادرات روسيا عبر السفن، مع منح إعفاء مؤقّت للنفط المنقول عبر الأنابيب، وذلك بضغط من المجر التي هدّدت باستخدام حق الفيتو ضدّ حزمة العقوبات الأوروبية على موسكو، وهي السادسة من نوعها منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا.
التكتل الأوروبي يهدف بطبيعة الحال إلى إضعاف قدرة الكرملين على تمويل الحرب، لكن فاعلية العقوبات عموماً، وتلك التي فُرضت وقد تفرض لاحقاً على نفط روسيا وغازها، أثارت تعليقات متباينة، بحسب تحليل لموقع دويتش فيله.
"إن القيود المفروضة على واردات النفط الروسي التي تم تحديدها الآن تضر أكثر مما تنفع في كثير من النواحي. حتى الولايات المتحدة ترفض ذلك، وهناك عدد من دول الاتحاد الأوروبي لديه مخاوف أيضاً. في حين أنه من المحتمل أن تبيع روسيا موادها الخام فقط في أماكن أخرى بأسعار أقل قليلاً.
إن المواطنين والشركات في الاتحاد الأوروبي سوف يكتوون بنار ارتفاع الأسعار (..). من الضروري وضع استثناءات لدول شرق أوروبا التي تعتمد بشكل كبير على الواردات الروسية، لكن هذا لا يعني رفع الحظر على الإطلاق. هذه هي الطريقة التي يتحول بها الهدف في سياسة الطاقة إلى فشل في السياسة الخارجية. وهكذا يبدو الاتحاد الأوروبي وكأنه يسجل هدفاً في مرماه بحزمة عقوبات لا يحتاج أمير الحرب (بوتين) إلى أخذها على محمل الجد"، هكذا نقل موقع الإذاعة الألمانية ما كتبه موقع "بريسبورتال" قبل يومين تعليقاً على قرار حظر النفط الروسي.
ويعد هذا التحليل تلخيصاً للقصة من الجانب الأوروبي على الأقل، ولا شكَّ أن تلك الرؤية ليست غائبة عن المسؤولين في الكرملين، بل تفسر إلى حد بعيد الموقف المتحدي الذي تتخذه موسكو في قضية الطاقة من نفط وغاز منذ البداية وحتى اليوم. فبوتين ودائرته المقربة يدركون تماماً أن المواطن الأوروبي الذي يعاني من التضخم وارتفاع الأسعار سيصب جامّ غضبه على المسؤولين في بلاده، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى تراجع هؤلاء المسؤولين عن مواقفهم التي يراها الكرملين "عدائيةً وغير مبرَّرة تحت وطأة ضغوط واشنطن".
لكن في الوقت نفسه، سيكون من الصعب على موسكو مواصلة رفع راية التحدي فيما يخص الموقف الجيوسياسي العام في الأزمة الأوكرانية، والموقف في قضية صادرات النفط والغاز لأوروبا بشكل خاص، في حالة نجاح الدول الأوروبية في توفير بدائل لموارد الطاقة الروسية، على الرغم من أن هذه ليست مهمةً سهلة، كما أثبتت الأشهر الأخيرة منذ اندلاع الحرب.
نجحت موسكو، حتى الآن، في إجبار شركات الطاقة الكبرى في أوروبا على فتح حسابات جديدة بالروبل في البنوك الروسية حتى تضمن استمرار تدفق الغاز الروسي، على الرغم من إصرار مسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل على أن تلك الخطوة تعد انتهاكاً للعقوبات المفروضة على موسكو.
لكن في الوقت نفسه لا تترك الدول الأوروبية حجراً دون البحث تحته عن مورد للنفط أو الغاز يمكنه أن يسهم في تقليل اعتماد تلك الدول على نفط روسيا وغازها، وهو ما يعني أنه خلال الشهور القليلة المقبلة قد تفقد روسيا بالفعل عملاءها الأوروبيين ومن ثَمَّ عشرات المليارات من الدولارات التي تحتاجها بشدة للحفاظ على تماسكها الاقتصادي والعسكري.
كما أن روسيا ستجد صعوبات جمة في العثور على مشترين جدد كبديل عن الأوروبيين للغاز الطبيعي بشكل خاص؛ لأن الغاز الروسي يتم تصديره إلى أنحاء أوروبا عبر شبكة من خطوط الأنابيب موجودة بالفعل، وقد تستغرق موسكو سنوات حتى تبني شبكات أنابيب مع مستوردين جدد في آسيا كالصين والهند على سبيل المثال.
الخلاصة هنا هي أن روسيا قد لا تكون تضررت حتى الآن من حظر وارداتها من النفط والغاز إلى الولايات المتحدة أو الحظر الجزئي لنفطها إلى الاتحاد الأوروبي، أو حتى العقوبات الاقتصادية بشكل عام، وذلك بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز، لكن ذلك لا يعني أن موسكو محصَّنة للأبد ضد أضرار العقوبات، ويمكن القول إن "الوقت" هو كلمة السر، فمن يمكنه الصمود أطول زمناً من الآخر؟