لماذا استغرق الاتحاد الأوروبي نحو 4 أشهر حتى يتخذ قراراً يخص حظر النفط الروسي؟ وهل القرار الأخير يعني "حظراً فعلياً"؟ التفاصيل الكاملة لاعتماد أوروبا على نفط روسيا وغازها قد تحمل الإجابة عن السؤالين؟
منذ أن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الإثنين 21 فبراير/شباط الماضي، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين، وقبل حتى أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا بعد ذلك بثلاثة أيام قرّر الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات اقتصادية على موسكو، لإجبارها على التراجع عن "عمليتها العسكرية"، التي يصفها الغرب بأنها غزو.
لكن رغم توالي "حزم العقوبات" التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا، كانت قضية حظر النفط والغاز الروسي تحديداً تمثل قضية شائكة تفتقر تماماً للحد الأدنى من التوافق بين دول الاتحاد، البالغ عددها 27 دولة، والسبب يرجع لعدد من الاختلافات الجوهرية بشأن حجم اقتصاد كل دولة ومدى اعتمادها على نفط روسيا وغازها، وأيضاً ما يحتاجه استبدال الطاقة الروسية من استثمارات في البنية التحتية.
متى بدأ اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية؟
يرجع تاريخ اعتماد القارة الأوروبية على مصادر الطاقة الروسية إلى أكثر من ستة عقود مضت. وكانت البداية مع اكتشاف النفط والغاز في سيبيريا أواخر خمسينيات القرن الماضي، ورغم الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، والغرب بقيادة الولايات المتحدة، فإن اعتماد القارة الأوروبية على موارد الطاقة الروسية بدأ فعلياً منذ مطلع ستينيات القرن الماضي.
وكانت البداية من النفط، وبالتحديد من خط أنابيب دروزبا Drozhba، الذي ينقل النفط الروسي من حقوله في سيبيريا إلى أنحاء القارة الأوروبية. وبدأ العمل في تشييد خط الأنابيب الأطول في العالم منذ أواخر عام 1958، وكان يطلق عليه اسم "خط أنابيب الصداقة"، وبدأ ضخ النفط الروسي عبره لأول مرة عام 1962، ووصل وقتها إلى تشيكوسلوفاكيا، ثم في سبتمبر/أيلول 1963 وصل النفط عبر خط الأنابيب إلى المجر، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1963 وصل إلى بولندا، ثم إلى ألمانيا الديمقراطية، في ديسمبر/كانون الأول 1963.
كانت تلك الدول تمثل أجزاء من المعسكر الشرقي التابع للاتحاد السوفييتي، ونظراً للفقر الشديد في موارد الطاقة في أوروبا، كان النفط الروسي وقتها يمثل طوق نجاة ممتازاً لتلك الدول، كما يمثل نفوذاً هائلاً لصالح موسكو. ومع مرور الوقت تشعّب خط أنابيب دروزبا، وتمت توسعته ليتحول إلى شبكة متداخلة ومعقدة، تنقل النفط الروسي إلى أغلب القارة الأوروبية.
ومع اكتشاف أهمية الغاز الطبيعي وتحوله إلى مصدر رئيسي للطاقة والتوسع في استعماله، أصبح لروسيا ذراع أخرى تمد من خلالها القارة العجوز بالغاز الطبيعي، وكان ذلك في زمن مختلف وحقائق جيوسياسية أخرى. فمع مطلع القرن الجديد كانت روسيا بقيادة زعيمها بوتين تتوسع في إنتاج الطاقة، من نفط وغاز طبيعي وفحم وغيرها، وتوفرها لأوروبا بأسعار أرخص كثيراً من الأسعار العالمية.
إذ لم تعد هناك حرب باردة، وتبنّت روسيا اقتصاد السوق الحر إلى حد كبير وانهارت الشيوعية، وبعد إعادة توحيد ألمانيا بدأ التوسع في البنية التحتية لنقل النفط الروسي، من خلال خط أنابيب دروزبا، وأيضاً من خلال الشاحنات والنقل البري، وفي الوقت نفسه بدأ تشييد خط أنابيب لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا.
الحديث هنا عن خط أنابيب نورد ستريم أو السيل الشمالي، الذي يبلغ طوله أكثر من 1200 كم من الأنابيب تحت سطح البحر، وهو أطول خط أنابيب في عمق البحر، وينقل الغاز الروسي إلى بلدان القارة الأوروبية عبر أوكرانيا، وهو الخط الذي بدأ تشييده منذ عام 2006، لكنه دخل الخدمة فعلياً عام 2011. كما تم تشييد خط أنابيب نورد ستريم2، وكان على وشك أن يدخل الخدمة العام الجاري، لكن الأزمة الأوكرانية مثلت ضغوطاً على ألمانيا فقررت تعليق المشروع.
الغاز والنفط "روح" أوروبا حرفياً
يمثل الغاز الطبيعي والنفط وغيرهما من مصادر الطاقة، بما فيها الفحم عصب الحياة بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، فهي دول صناعية بالأساس وحتى إنتاجها الزراعي يعتمد على الميكنة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعتمد تلك الدول على الطاقة في توليد الكهرباء وتدفئة المنازل وغيرها من الأنشطة التي يستحيل الاستغناء عنها.
أوروبا من أفقر قارات العالم في إنتاج الطاقة، باستثناء روسيا الأوروبية بطبيعة الحال، وفي الوقت نفسه تأتي القارة العجوز على رأس قائمة المستوردين للطاقة في العالم، وإذا أضفنا لهاتين الحقيقتين حقيقة ثالثة تتمثل في تفاوت اعتماد دول الاتحاد الأوروبي بشكل لافت على موارد الطاقة الروسية يمكننا استنتاج المعضلة الاستراتيجية التي يواجهها التحالف عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرار بحظر الطاقة الروسية عموماً والغاز الطبيعي خصوصاً.
ولأن الحديث عن حظر الغاز الطبيعي الروسي قد تراجع أو اختفى حالياً فقد جاء الحديث عن حظر النفط ليحتل الأولوية، مع إعلان دول الاتحاد الأوروبي -عبر مقر الاتحاد في بروكسل بطبيعة الحال- عن قرب التوصل لقرار بشأن حظر النفط الروسي، ضمن حزمة العقوبات السادسة على موسكو، بسبب ما يصفه الغرب بأنه "غزو" لأوكرانيا.
ورصد تقرير لشبكة CNN الأمريكية السبب الرئيسي وراء تأخر الاتحاد الأوروبي أكثر من ثلاثة أسابيع، لإعلان الحزمة السادسة من العقوبات على روسيا، والمتمثلة في صعوبة الاتفاق على قرار حظر النفط الروسي. فأوروبا هي أكبر مشترٍ للطاقة الروسية، ومثل الخام الروسي 27% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الخام خلال عام 2021، بحسب تقارير هيئة الإحصاء الأوروبية.
وكان الاتحاد الأوروبي قد فرض خمس حزم من العقوبات على روسيا منذ بدء الصراع قبل ما يزيد على ثلاثة أشهر، ما يدل على سرعة ووحدة غير معهودة في ظل تعقيد الإجراءات، لكن الحزمة السادسة تحديداً تأخر الإعلان عنها، واستدعى الأمر الانتظار حتى قمة الاتحاد الأوروبي يومي الإثنين والثلاثاء، 30 و31 مايو/أيار، والسبب هو ملف حظر النفط الروسي.
كان قرار بحظر موارد الطاقة الروسية، من نفط وغاز، اتخذته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في مارس/آذار الماضي، قد فشل في إقناع الاتحاد الأوروبي أن يحذو حذو واشنطن، فالقصة مختلفة تماماً من حيث كون الولايات المتحدة منتجاً كبيراً للطاقة، ولا يعتمد على روسيا من الأساس.
لكن التفاوت الكبير بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على النفط الروسي يجعل التداعيات الاقتصادية السلبية لقرار الحظر متفاوتة من دولة لأخرى، وبالتالي يصبح الإجماع المطلوب لاتخاذ القرار أمراً شبه مستحيل.
فدول مثل بلغاريا وفنلندا والمجر وسلوفاكيا تعتمد على النفط الروسي بنسبة 100%، بينما تعتمد دول أخرى كاليونان والتشيك بنسب أقل (في حدود 75%)، ثم تأتي دول أخرى منها النمسا بنسبة 66%، ثم ألمانيا وبولندا بنحو 45%، ورومانيا وإيطاليا بنسب في حدود 35%، ثم فرنسا بنحو 20%، وأخيراً هولندا بنحو 10%.
وتفسر تلك النسب بطبيعة الحال موقف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من قرار حظر النفط الروسي، فالمجر تقود حلف المعارضين للأمر بشكل علني ومباشر، فما الذي حدث وأدى لتغيير الموقف؟
ما تفاصيل قرار "حظر النفط الروسي" أوروبياً؟
على أية حال، يبدو أن زعماء الاتحاد الأوروبي قد اتفقوا أخيراً، من حيث المبدأ، على خفض واردات النفط من روسيا بنسبة 90% بحلول نهاية هذا العام، وهو ما يشير إلى أن تسوية ما قد تم تقديمها للمجر بشأن الأزمة. وقال دبلوماسيون لرويترز، مساء الإثنين 30 مايو/أيار، إن الاتفاق سيمهد الطريق أمام دخول عناصر أخرى من الحزمة السادسة من عقوبات الاتحاد على روسيا حيز التنفيذ، بما في ذلك منع وصول بنك سبيربنك، أكبر بنك في روسيا، إلى نظام سويفت للمعاملات المالية الدولية.
رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، في ختام اليوم الأول من قمة على مدى يومين لزعماء الاتحاد وعددهم 27، قال عبر حسابه الرسمي على تويتر: "اتفاق على حظر تصدير النفط الروسي إلى الاتحاد الأوروبي. يشمل هذا على الفور أكثر من ثلثي واردات النفط من روسيا، ما يقطع مصدراً ضخماً لتمويل آلتها الحربية".
يأتي ثلثا النفط الروسي الذي يستورده الاتحاد الأوروبي عبر الناقلات، والثلث عبر خط أنابيب دروزبا، وبالتالي فإن الحظر المفروض على واردات النفط المنقولة بحراً ينطبق على ثلثي إجمالي النفط المستورد من روسيا.
وبحسب بعض التقارير، سيشمل الحظر 90% من جميع الواردات من روسيا، بمجرد أن تتوقف بولندا وألمانيا، المرتبطتان أيضاً بخط الأنابيب، عن شرائه بحلول نهاية العام، أي أن القرار ليس فورياً.
وسيتم إعفاء الـ10% المتبقية من الحظر مؤقتاً، حتى تتمكن المجر غير المطلة على سواحل، والتي كانت العقبة الرئيسية في طريق التوصل إلى اتفاق، إلى جانب سلوفاكيا وجمهورية التشيك، وجميعها مرتبطة بالجزء الجنوبي من خط الأنابيب، من تعويض الإمدادات.
ويبدو أن بودابست حصلت على تطمينات من زعماء آخرين، بأن إجراءات عاجلة ستُتخذ "في حالة الانقطاع المفاجئ للإمدادات"، بعدما أثار رئيس الوزراء فيكتور أوربان مخاوف بشأن المخاطر التي يتعرض لها خط أنابيب النفط الروسي الذي يمر عبر أوكرانيا إلى المجر، بحسب رويترز.
وينطبق حظر واردات النفط إلى دول الاتحاد الأوروبي على الخام الروسي، الذي يتم تسليمه عن طريق الناقلات، لكن لم يتضح على الفور كيف سيتم تعويض الدول الأعضاء التي تتلقى النفط بالناقلات عن التكلفة الأعلى، مقارنة بتلك التي ستُبقي خطوط الأنابيب مفتوحة.