دفعت مخاطر التمويل وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، لتغيير نظرتها المستقبلية إلى الاقتصاد المصري من مستقرة إلى سلبية، مع إبقاء تصنيف القاهرة عند B2، خاصة مع تزايد مخاطر تراجع قدرة الدولة السيادية على امتصاص الصدمات الخارجية.
ويعد أبرز ما يقود الرؤية السلبية لمصر من قبل الوكالة العالمية، هو وجود توقعات بضعف التدفقات النقدية من الخارج، خاصة في ظل شروط التمويل العالمية المشددة؛ ما يعني زيادة أسعار الفائدة على القروض الخارجية التي تلجأ إليها القاهرة؛ ما يجعلها أقل قدرة على استدامة الديون.
وينذر هذا المؤشر السلبي الذي وضعته الوكالة باتجاه "موديز" مستقبلاً إلى خفض تصنيفها لمصر في تقييمات مقبلة للمرة الأولى منذ عام 2013؛ ما قد يدفع البلاد إلى تراجع نسبي في ثقة المقرضين الدوليين.
ماذا يعني تغيير النظرة المستقبلية لمصر إلى سلبية؟
تغيير النظرة المستقبلية لمصر إلى سلبية يعني وجود شكوك لدى المؤسسات الدولية حول قدرة الدولة على استيعاب ما يحدث من أزمات اقتصادية في الوقت الحالي، وتحديداً ارتفاع أسعار الفائدة العالمية.
وهذا لأن اقتصاد مصر يعمل على تمويل احتياجاته من خلال الاقتراض، وبالتالي في الوقت الحالي مع ارتفاع أسعار الفائدة؛ فإن خدمة الدين أو بمعنى آخر الفوائد التي ستكون مصر مطالبة بتسديدها على قروضها القادمة سوف تكون مرتفعة.
ما يعني أن حجم الدين العام سوف يرتفع خلال الفترة القادمة، وأن أعباء الموازنة المصرية سوف تزيد أكثر في وقت تعاني فيه الموازنة من التهام أقساط وفوائد الدين لنحو أكثر من 85% من إيرادات الدولة؛ ما ينذر بأن تلك النسبة قابلة للزيادة، وبالتالي يزيد هذا المشهد من خطورة ارتفاع حجم الفوائد على مصر.
وتأتي تلك المخاطر في ظل تنامي توقعات بضعف مصر في مواجهة وامتصاص الصدمات بشكل عام، وتحديداً قدرتها على سداد مديونيتها الخارجية في مواعيدها المحددة مسبقاً، ما قد يضطرها مستقبلاً إلى إعادة هيكلة تلك الديون، إلا أن هذا الأمر يعد بعيد الحدوث في الوقت الراهن.
ويأتي ذلك وسط ما تعيشه اقتصادات العالم من تضخم وأزمة في سلاسل التوريد، فضلاً عن ارتفاع تكاليف بعض السلع الاستراتيجية وأسعار الطاقة نتيجة الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا؛ ما يزيد من أعباء الاقتصاد المصري الذي يعتمد على الخارج في ديونه واحتياجاته.
ما أسباب تراجع قدرة الدولة على امتصاص الصدمات الخارجية؟
في ظل اعتماد الاقتصاد المصري على تمويل احتياجاته، وبخاصة الاستهلاكية منها، عبر الاقتراض، فإن اتساع حجم الدين العام وتحديداً الدين الخارجي أصبح أمراً حتمياً، خاصة في ظل اقتصاد استهلاكي بالدرجة الأولى لا يعتمد على الإنتاج أو خلق قيمة مضافة حقيقية.
وهو الأمر الذي أدى إلى ارتهان الاقتصاد المصري للخارج، نتيجة عدم وجود موارد أو حلول اقتصادية محلية قادرة على إسعاف الاقتصاد المحلي في الأزمة الاقتصادية العالمية التي خلّفها وباء كورونا، ومن ثم الغزو الروسي لأوكرانيا.
وساهم ارتفاع الدين في زيادة الأعباء على الموازنة العامة للدولة عاماً بعد عام، فضلاً عن عجز الدولة عن القيام بدورها، حيث أصبحت خدمة الدين (فوائد الدين وأقساطه) تلتهم نحو أكثر من 85% من إيرادات الموازنة العامة.
فقد بلغ حجم أقساط الديون في مشروع الموازنة المالية لعام 2021-2022 نحو 593 مليار جنيه، والفوائد نحو 579.58 مليار جنيه، أي إجمالًا نحو تريليون و172.5 مليار جنيه من إجمالي إيرادات متوقعة بنحو تريليون و365 مليار جنيه، وسط توقعات بارتفاع هذه الأرقام بنحو 5% إلى 7% بسبب التضخم العالمي وما تفرضه الحرب الروسية الأوكرانية من أزمات.
ووصل إجمالي الدين الخارجي فقط إلى نحو 145.5 مليار دولار بنهاية الربع الثاني من العام المالي الحالي، وبارتفاع بنحو 8.1 مليارات دولار أي بنسبة 6%، خلال الفترة من سبتمبر/أيلول إلى ديسمبر/كانون الأول من العام المالي الماضي، ليعادل 33.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق بيانات البنك المركزي المصري.
ودفعت تلك المعطيات وكالة "ستاندرد آند بورز" العالمية للتصنيف الائتماني، إلى توقع وصول إجمالي الديون السيادية لمصر مع نهاية العام الحالي 2022 إلى 391.8 مليار دولار أمريكي، بعد أن كان 184.9 مليار دولار فقط عام 2017.
وأوضح التقرير الذي وصف الديون المصرية بـ"الكارثية"، أن مصر تستحوذ على 0.6% من إجمالي الديون التجارية في العالم، وهي نسبة مرتفعة إذا ما قورنت بالعديد من الدول المماثلة لمصر، أو إذا ما قورنت بالاقتصادات الناشئة بشكل عام.
كما توقعت وكالة "موديز"، وفق تقديراتها، أن يصل حجم الدين المصري الإجمالي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من المرجح أن يصل إلى 93.5% في العام المالي 2022-2023.
وبالتالي أصبحت أيادي الدولة مكبلة بالقروض؛ ما جعلها عاجزة عن القيام بدورها من خلال دعم الاستثمار الحقيقي الذي يغنيها عن الاقتراض أو من خلال دعم الصادرات بشكل كافٍ، أو دعم صناعات كبرى ذات قيمة مضافة حقيقية، وبخاصة الصناعات التقنية، لخلق موارد دولارية، بل أصبحت تبحث عن آلية تدعم منهجها المتبع في سداد الديون المستحقة كترقيع الديون، من خلال اقتراض ديون جديدة لسداد ديون قديمة.
وهو الأمر الذي خلق حالة من العوز الدولاري من الخارج، خاصة أن مصر تستورد 70% من احتياجاتها وتعاني من عجز تجاري بنحو 35 إلى 40 مليار دولار سنوياً، كما أنها تعتمد في صناعتها المحلية المحدودة على السلع الوسيطة التي يتم استيرادها أيضاً، فضلاً عن تراجع الاحتياطي الأجنبي من 40 مليار في يناير/كانون الثاني الماضي إلى 37 مليار دولار مع نهاية أبريل/نيسان الماضي.
ولكن ما زاد من التحديات أمام الاقتصاد المصري هو اتساع معدل التضخم العالمي الذي دفع البنوك المركزية في دول العالم، وبخاصة البنك الفدرالي الأمريكي إلى رفع سعر الفائدة مرتين، المرة الأولى في 16 مارس/آذار الجاري بـ0.25%، والمرة الثانية بـ0.5% خلال شهر مايو/أيار الجاري، ليصبح إجمالي الفائدة 1%.
وهو الأمر الذي أدى إلى جذب الأموال الساخنة التي تملأ الأسواق الناشئة والنامية مثل مصر، التي تعتمد على هذا النوع من الأموال لتمويل احتياجتها وبخاصة الدولارية، وخروجها إلى الأسواق الأمريكية بحثاً عن مكاسب أكثر ومخاطر أقل.
وأدت قرارات الفيدرالي الأمريكي إلى خروج نحو 20 مليار دولار من الأموال الساخنة منذ بداية العام من السوق المصرية، وفق تصريحات رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، ومن المتوقع أن يقوم الفيدرالي برفع الفائدة أكثر ولكن بشكل تدريجي خلال جلساته القادمة، ما يعني خروج مزيد من الأموال الساخنة من مصر.
ودفعت كل تلك المعطيات إلى خروج زمام المسكنات التي تستعملها الحكومة المصرية في تسيير أزماتها الاقتصادية عن السيطرة، والضغط على قيمة الجنيه المصري الذي ما زال يواصل نزيفه ليسجل 18.53 جنيهًا للشراء و18.64 جنيهًا للبيع في البنك المركزي، كما اضطرتها إلى اللجوء إلى ودائع الخليج.
ووصل إجمالي الودائع التي تعود للدول الخليجية خلال السنوات الماضية إلى 17.2 مليار دولار، بينها 7.5 مليارات دولار للسعودية و5.7 مليارات دولار للإمارات و4 مليارات دولار للكويت، فضلًا عن وديعة بقيمة 5 مليارات أخرى جاءت من السعودية في شهر مارس/آذار الماضي، ليصبح الإجمالي 22.2 مليار دولار.
كما أن التضخم العالمي له دور أكبر من هروب الأموال الساخنة من مصر وهو اتساع دائرة الإنفاق محلياً، ما أدى هو الآخر لخروج الأمر عن سيطرة الحكومة المصرية التي تسعى جاهدة في الوقت الحالي في الحصول على قرض من البنك الدولي بقيمة 2.48 مليار دولار، لتمويل برامج شراء القمح وأخرى للسكك الحديدية والتحول الرقمي.
كما تجري الحكومة المصرية محادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج دعم يمكن أن يندرج تحت "خط احترازي"، وقد يصل إلى 3.5 مليارات دولار يتم منحه على 3 سنوات.
كيف أسهم التضخم العالمي في ضعف سيطرة الحكومة محلياً؟
وضع التضخم العالمي مصر أمام مكاشفة لحقيقة اقتصادها وطبيعة أدائه ومدى استغلالها لمواردها؛ حيث أسفر التضخم الذي تزامن مع الحرب الروسية الأوكرانية عن ضغوط في موازنة العام المالي الحالي 2021/2022، ومشروع موازنة العام المالي القادم 2022/2023، وسط تزايد الديون وعدم القدرة على إيجاد بدائل.
حيث قال رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إن تكلفة حرب أوكرانيا على موازنة نحو 130 مليار جنيه (6.9 مليارات دولار)، بينما الأثر غير المباشر لتلك الحرب على الموازنة يقدر بنحو 335 مليار جنيه (18 مليار دولار).
وصرح وزير المالية المصري محمد معيط، أن ارتفاع أسعار القمح العالمية سيكلف مصر ما بين 12 إلى 15 مليار جنيه إضافية خلال العام المالي الحالي 2021/2022، وكانت قد خصصت الوزارة في تلك الموازنة نحو 50 مليار جنيه لدعم الخبز، ولكن مع ارتفاع الأسعار بنسبة 37% عن توقعات الموازنة، تواجه الحكومة زيادة كبيرة في فاتورة الدعم.
وكشفت بيانات المالية الحديثة، عن أن عجز الموازنة العامة للعام الجاري في مصر ارتفع بنسبة 8.2%، ليسجل نحو 410.8 مليارات جنيه (22.14 مليار دولار) خلال الفترة من يوليو/تموز 2021، وحتى نهاية أبريل/نيسان 2022، بما يعادل نحو 5.17% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 379.7 مليار جنيه (20.46 مليار دولار)، بما يعادل 5.48% من الناتج المحلي خلال الفترة نفسها من العام الماضي.
حيث ارتفع إجمالي المصروفات بنسبة 10.2% ليصل إلى 1.33 تريليون جنيه (71.698 مليار دولار) خلال 10 أشهر، مقارنة مع 1.21 تريليون جنيه (65.229 مليار دولار) خلال الفترة ذاتها من العام المالي السابق له.
كما وقع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قانوناً لفتح اعتماد إضافي بقيمة 6 مليارات جنيه (323 مليون دولار) لموازنة الدولة للسنة المالية الحالية 2021-2022، وأعلنت وزارة المالية تغيير مستهدفاتها لخفض عجز الموازنة ليصبح العجز المتوقع 6.9% بدلا من 6.7%.
وألقت أزمات موازنة العام الحالي بظلالها على العام القادم؛ حيث خفضت وزارة المالية مستهدفات العام المالي المقبل 2022-2023، لتخفض مستهدفات النمو إلى 5.5% بدلاً من 5.7%، وتغير توقعاتها للفائض الأولي إلى 1.5% بدلاً من 2%.
وبحسب المشروع المالي للعام المالي القادم، بلغ العجز بين حجم الإيرادات وحجم المصروفات (لا تحتسب ضمنها أقساط الديون) نحو 30.18 مليار دولار، وهو ما يشكل 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي (الدولار يساوي 18.49 جنيهاً يوم 10 مايو/أيار الماضي).
ويعكس مشروع الموازنة ارتفاعاً واضحاً في الاحتياجات التمويلية للعام المالي الجديد بنسبة 30% مقارنة بالاحتياجات التمويلية العام المالي الجاري.
وبالتالي فإن تلك المعطيات أسهمت في خروج الإنفاق عن سيطرة الحكومة، وسط وجود حالة من الجمود من قبل الدولة التي تقف كالشخص المفلس الذي يبحث عن مسكنات سريعة عبر إيجاد مصادر للتمويل، سواء من المقرضين الدوليين أو بيع أصول الدولة، والتي كان آخرها بيع بعض حصص الدولة في بعض المشروعات القومية للإمارات بقيمة 2 مليار دولار، أو رفع أسعار الفائدة لإبقاء أصحاب الأموال الساخنة أو جذب ودائع الدول الشقيقة.
ويأتي رد الفعل الحكومي بهذا الشكل السلبي بدلاً من البحث عن حلول حقيقية تقلل من احتياجاتها للدولار، وتسهم في زيادة الإنتاج الحقيقي وزيادة الصادرات، وتحفز الاستثمار المحلي والأجنبي، وتدعم القطاع الخاص، وتوجه القروض إلى مشروعات استثمارية وإنتاجية ذات عائد.
ما تأثير تلك السياسات الاقتصادية على المواطن المصري؟
وتنذر تلك المعطيات بأن الدولة قد تكون عاجزة مستقبلاً عن تقديم الدعم الكافي للمواطن في ظل ارتفاع معدلات التضخم عالمياً ومحلياً، وذلك نتيجة تسخير أغلب إيرادات الدولة وتوظيفها في مخصصات أقساط الدين وفوائده على حساب المخصصات التي تلمس المواطن بالدرجة الأولى، كالدعم والأجور والصحة والتعليم.
فوسط تداعيات التضخم العالمي التي تنعكس على الأسعار في الداخل؛ تشهد السلع في السوق المصرية ارتفاعاً ملحوظاً، فنتيجة ارتفاع أسعار الأعلاف التي تستوردها مصر، والتي بلغ سعرها محلياً 11500 جنيه للطن بعد زيادته بنحو 2500 جنيه خلال شهر واحد، ارتفعت أسعار الدواجن واللحوم بنحو 5.4% خلال شهر أبريل/نيسان الماضي، ومن المتوقع أن تشهد مزيداً من الارتفاع.
كما أن ارتفاع أسعار الأسمدة عالمياً أدى إلى زيادة أسعار الغذاء، فضلاً عن حظر بعض الدول تصدير بعض السلع والمنتجات الرئيسة؛ ما يهدد الأمن الغذائي العالمي، وهو ما انعكس على أسعار الخضراوات في السوق المصرية التي شهدت ارتفاعاً بنحو 33% خلال شهر أبريل/نيسان الماضي.
ومازال المواطن المصري هو من يتحمل السياسات الاقتصادية غير المدروسة من قبل الحكومة المصرية، فبعد تراجع قيمة الجنيه تراجعت قدرته الشرائية، فضلاً عن ارتفاع التضخم الذي وصل في مصر مع نهاية شهر أبريل/نيسان الماضي لـ14.9%، خاصة مع رفع أسعار البنزين خلال الشهر نفسه، ما يقود رقعة الفقراء في مصر إلى مزيد من الاتساع.