بعد أن كان جو بايدن يرى في الاتفاق النووي الإيراني العصا السحرية لحل مشاكل الشرق الأوسط، تراجع الاهتمام فجأة، فأين وصلت المفاوضات؟ وماذا عن موقف إسرائيل؟
خطة العمل الشاملة المشتركة أو ما يعرف إعلامياً باسم الاتفاق النووي تم التوصل إليه بين إيران والقوى الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) عام 2015، وكان وقتها جو بايدن نائباً للرئيس باراك أوباما. وكان الاتفاق ينص على رفع العقوبات عن إيران مقابل وضع رقابة صارمة على برنامجها النووي.
كانت إسرائيل والدول العربية الخليجية، خصوصاً السعودية والإمارات، معترضة على الاتفاق النووي لأسباب بدت من حيث الشكل متشابهة لكن في جوهرها حملت اختلافات. فإسرائيل ترفض أن يكون لدى إيران برنامج نووي من الأساس، حتى وإن كان لأغراض سلمية، بينما أرادت السعودية والإمارات أن يشمل أي اتفاق مع إيران تقييد برنامجها للصواريخ الباليستية وإلزامها بالتوقف عن التدخل في شؤون دول المنطقة.
أين وصلت المفاوضات النووية؟
جاء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وانسحب من الاتفاق النووي عام 2018، فيما بدا أنه تحقيق لرغبة إسرائيل والسعودية والإمارات، وأعادت واشنطن فرض العقوبات الأمريكية على طهران في إطار سياسة "الضغط الأقصى" التي اتبعتها إدارة ترامب لإجبار النظام الإيراني على إعادة التفاوض بشأن الاتفاق النووي وهو ما رفضته طهران.
وخلال الانتخابات الأمريكية السابقة، أعلن بايدن أن العودة للاتفاق النووي تمثل أولوية قصوى له في حالة فوزه في الانتخابات. فاز بايدن بالفعل، وعادت رحلة التفاوض بين واشنطن وطهران وباقي أطراف الاتفاق في فيينا، وكان ذلك قبل أكثر من عام، فأين وصلت تلك المفاوضات الماراثونية؟
الإجابة جاءت في مقال نشرته صحيفة Haaretz الإسرائيلية عنوانه "الولايات المتحدة يمكنها أن تعيش بدون اتفاق نووي مع إيران.. لكن هل يمكن لإسرائيل ذلك؟"، رصد "المأزق" الذي وجدت تل أبيب نفسها تواجهه.
إذ إنه بعد أكثر من عام وثماني جولات (ونصف) من المفاوضات حول عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الإيراني، يبدو أن الولايات المتحدة، دون أي دراما أو ضجة غير ضرورية، مستعدة للتخلي عن الأمر والاعتراف بأن الصفقة في الوقت الحالي أصبحت بعيدة المنال، بحسب الصحيفة الإسرائيلية.
قال روب مالي، المبعوث الخاص لجو بايدن لإيران، أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، الأربعاء 25 مايو/أيار: "ليس لدينا اتفاق… واحتمالات التوصل إلى اتفاق هشة في أحسن الأحوال".
وعلى حد تعبير مالي، في إشارة إلى الاتفاق النووي، فإنه "إذا حافظت إيران على مطالب تتجاوز نطاق خطة العمل الشاملة المشتركة، فسوف نستمر في رفضها، ولن يكون هناك اتفاق".
ووصفت "هآرتس" موقف روبرت مالي بأنه مناقض تماماً لما كانت تتهمه به إسرائيل، إذ واجه المبعوث الأمريكي اتهامات متكررة بأنه المذنب الرئيسي والمهووس بـ"عقد اتفاق سريع بأي ثمن"، لكن مالي لم يُظهِر صبراً فحسب خلال المفاوضات الماراثونية على مدى أكثر من عام، بل كان "صادقاً في الاعتراف بأن احتمالات تجديد الاتفاقية ضئيلة".
موقف بايدن من الحرس الثوري الإيراني
شهادة روبرت مالي في مجلس الشيوخ جاءت في أعقاب قرار بايدن، كما ذكرت صحيفة Politico الأمريكية، بعدم حذف الحرس الثوري الإيراني من قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للمنظمات الإرهابية الأجنبية.
كان الحرس الثوري الإيراني قد تم تصنيفه على أنه جماعة إرهابية عام 2019، كجزءٍ من حملة "الضغط الأقصى" التي شنها دونالد ترامب على إيران والتي أعقبت انسحاب واشنطن أحادي الجانب من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018.
لكن السياسة التي أُعلِنَها ترامب لم تؤدي إلى أي نتائج ملموسة، وفشلت في تغيير سلوك إيران في المنطقة، ولم تقترب حتى من زعزعة استقرار النظام الإيراني، بل وتسببت في نهاية المطاف من تسريع الإنتاج النووي الإيراني، مع تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% بواسطة أجهزة الطرد المركزي IR-6 وIR-8 الأكثر تقدماً وغير الخاضعة للرقابة على الإطلاق، كما تقول الصحيفة الإسرائيلية.
وكانت إيران قد بدأت، منذ مايو/أيار 2019، في التخلي عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، ولم يكن رفع مستوى التخصيب وتركيب أجهزة طرد مركزي متطورة ولا حتى إنتاج معدن اليورانيوم هي الخطوات التي أثارت القلق، بل كانت خطوات تقليص قدرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مراقبة الأنشطة النووية لطهران، أو ما يعرف "باستمرار المعرفة" هي أكثر ما أثار المخاوف من اقتراب طهران من "العتبة النووية" أكثر وأكثر. علماً بأن إيران تنفي طوال الوقت نيتها إنتاج سلاح نووي.
قصرت الاتفاقية النووية الأصلية في عام 2015 إيران على استخدام أجهزة الطرد المركزي IR-1 فقط، وهو جهاز لا يزال يعتمد على جهازٍ باكستاني كيَّفته إيران على يد العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان، بناءً على تكنولوجيا ألمانية وهولندية ترجع إلى السبعينيات من القرن الماضي. في الاتفاقية الأصلية، قُيِّدَ التخصيب بنسبة 3.67%، وامتثلت إيران حتى بدأت في الانتهاك التدريجي لبنود الاتفاقية في عام 2019، بعد عام على انسحاب الولايات المتحدة.
ويجري تخصيب الأسلحة أو اليورانيوم العسكري بنسبة 90%، وهناك حاجةٌ إلى 25 كيلوغراماً من اليورانيوم لإنتاج جهاز عسكري، أو قنبلة ذرية بقوة قنبلة هيروشيما.
تشير شهادة مالي غير المنقوصة وقرار الحرس الثوري -علماً بأنه لم يكن من الواضح قط أن واشنطن فكرت بجدية في حذف الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية- إلى نهج سياسي أوسع: لا ترى الولايات المتحدة ضرورة مُلحة لإبرام صفقة، وبالتأكيد ليس بأي ثمن. وكذلك هو الحال بالنسبة لفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا، الأطراف الأخرى الموقِّعة على اتفاقية 2015، بحسب مقال هآرتس.
علاوة على ذلك، منذ الصيف الماضي، عندما رصدت الولايات المتحدة توقفاً إيرانياً في محادثات فيينا، أبطأت وتيرتها تدريجياً. نعم، الصفقة مرغوبة، ونعم، الصفقة غير الكاملة أفضل بكثير من عدم وجود صفقة من الأصل، وهو وضع قد يؤدي إلى تصعيد وسوء تقدير في المنطقة فيما يتعلق بنوايا إيران. لكن يبدو أن إدارة بايدن قررت التعامل مع الأمر الواقع، أي عدم وجود صفقة وواقع إيران باعتبارها "دولة على عتبة نووية".
ماذا يعني هذا بالنسبة لإسرائيل؟
هذه ليست النتيجة التي كانت الولايات المتحدة تأملها، لكنها نتيجة يمكن أن تتعايش معها. مع زيادة الموارد المخصصة لتحدي الصين، ومع الاهتمام الحالي المخصص لتعزيز أوكرانيا، لا تستطيع الولايات المتحدة ولا ينبغي لها إنفاق رأس المال السياسي والسمعة على صفقة نووية مع إيران إذا كان الإيرانيون يطيلون الوقت، بحسب الصحيفة الإسرائيلية.
وهذا يجعل إسرائيل في وضع متناقض، أو في مأزق استراتيجي، اعتماداً على الطريقة التي ستتصرف بها إيران، بحسب هآرتس. فمن ناحية، تبدو إسرائيل الرسمية سعيدة بعدم وجود اتفاق، ومن ناحية أخرى، يريد مسؤولو الدفاع الإسرائيليون السابقون والحاليون التوصل إلى اتفاق. كيف يمكن التوفيق بين طرفي هذا التناقض؟ ليس هناك طريقة، لأنه يعبر عن الارتباك والافتقار إلى السياسة لا مجرد الافتقار إلى سياسة متماسكة.
يقول بعض النقاد إن السياسة الإسرائيلية بشأن الصفقة النووية تتأرجح، وإنها مليئة بالتناقضات. لكن مقال هآرتس يقول إنه ليس هناك شيءٌ أبعد عن الحقيقة من هذا، ولا يحتاج الأمر سوى للمتابعة والرصد من أجل رؤية مدى الوضوح في السياسة الإسرائيلية بشأن نووي إيران.
لطالما كانت إسرائيل ضد الاتفاق، لكن "ضد" مصطلح معقد. باختصار، السياسة واضحة وضوح الشمس: كانت إسرائيل ضد الاتفاق ولكنها أيضاً ضد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية، على الرغم من أنها دفعت الولايات المتحدة إلى الانسحاب من الاتفاقية التي كانت تعارضها. الآن إسرائيل تعارض الاتفاق ولكن أيضاً ضد عدم وجود اتفاق، أي أنها ضد ذلك الاحتمال أيضاً.
الواضح أن هناك حاجة ضرورية لمزيد من التفصيل حتى تتضح الفكرة، إذ عارضت إسرائيل الاتفاق النووي منذ البداية؛ لأنها زعمت أنه اتفاق سيئ، وقالت إسرائيل إن هناك "اتفاقية أفضل"، لكنها عارضت نشرها. لكن إسرائيل عارضت أيضاً وضع عدم اتفاق؛ لأن هذا سيئ مثل الاتفاق السيئ، وربما أسوأ.
وبأثر رجعي، كانت إسرائيل ضد الانسحاب الأمريكي، رغم أنها في ذلك الوقت شجعت واشنطن على الانسحاب من الاتفاقية التي كانت تعارضها. من الطبيعي أن إسرائيل تعارض التوصل إلى اتفاقية جديدة؛ لأنها ستكون سيئة مثل الاتفاقية الأصلية، التي من الواضح أن إسرائيل كانت ضدها. لكن إسرائيل تعارض أيضاً عدم التوصل إلى اتفاق، رغم أنها تعارض بشدة الاتفاقية التي كانت تعارضها دائماً.
من المحتمل أن يؤدي الفشل في التوصل إلى اتفاق إلى ترك إسرائيل وحدها في مواجهة إيران، بحسب مقال هآرتس، إذ لا يوجد "تحالف سني إسرائيلي" حقيقي، والحديث عن جبهة إسرائيلية سعودية إماراتية لمواجهة إيران هو خيال استراتيجي أكثر من كونه حقيقة عملية.
هذا هو المكان الذي تجد فيه إسرائيل نفسها الآن؛ أن تكون ضد ومع الاتفاق، وتهدد إيران في وقت لا يوجد فيه أحدٌ في العالم لديه أي نطاق للتعامل مع مواجهةٍ في الشرق الأوسط من شأنها أن تجذب الولايات المتحدة بشكلٍ ثابت إلى درجة أو أخرى.
في مجلس الشيوخ، قال الجمهوري البارز في لجنة العلاقات الخارجية، جيمس ريش، إن "الإسرائيليين تعهدوا بالتعامل مع البرنامج النووي، وهم سيفعلون ذلك. إيران تعرف ذلك ونحن نعرفه". ومن الواضح أن ريش يتحدث بحسن نية، لكن المفارقة هي أنه يعتقد أن الولايات المتحدة ليست مستثناة من التعامل مع إيران؛ لأن إسرائيل تتفاخر بأنها ستفعل ذلك.