"يمكن إلغاء هذه المسيرة. إنها خطوة سياسية ولا علاقة لها بالدين"، فهل تتراجع إسرائيل فعلاً؟ فمسيرة أو "رقصة" الأعلام الإسرائيلية أصبحت برميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة.
وترتبط "مسيرة الأعلام"، أو "رقصة الأعلام"، بذكرى احتلال إسرائيل للقدس الشرقية، حسب التقويم العبري. وتم احتلال الشق الشرقي من القدس، في السابع من يونيو/حزيران 1967، ومنذ ذلك الحين أطلقت إسرائيل على ذلك اليوم اسم "يوم القدس". لكن، وفق التقويم العبري، تصادف هذه الذكرى، هذا العام، الأحد 29 مايو/آيار.
ويقول الكنيست على موقعه الإلكتروني: "في يوم القدس، تقام الاحتفالات داخل القدس وخارجها". ويضيف: "الحدث الرئيسي لهذا اليوم، هو مسيرة الأعلام، أو رقصة الأعلام، والتي تُقام في ساعات بعد الظهر"، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
من أين تنطلق مسيرة الأعلام الإسرائيلية؟
تبدأ المسيرة من القدس الغربية، ولكن مسار دخولها عبر البلدة القديمة في القدس الشرقية المحتلة للوصول إلى حائط البراق، اختلف على مدى السنوات في عدة مسارات. ورسمياً، فإن المؤسسات المُنظمة للمسيرة، ومن بينها البلدية الإسرائيلية في القدس، قد حددت مسارها بحيث يبدأ من القدس الغربية وينتهي في حائط البراق.
وقالت البلدية الإسرائيلية في دعوتها، التي اطلعت عليها وكالة الأناضول: "يقام العرض كل عام في يوم القدس؛ ويرافق المسيرة الرقص والغناء والتلويح بالأعلام الإسرائيلية". وأضافت: "في كل عام، يأتي عشرات الآلاف من الأشخاص من جميع أنحاء البلاد والعالم، للمشاركة في المسيرة؛ سينتهي موكب الأعلام باحتفال في الحائط الغربي، بما في ذلك صلاة وحشد".
ومنذ سنوات عديدة، أضافت جمعيات يمينية إسرائيلية، مساراً يمر من باب العامود، أحد أبواب البلدة القديمة، ثم في شارع الواد بالبلدة وصولاً إلى حائط البراق. ووزعت الشرطة الإسرائيلية، الخميس 26 مايو/آيار، خارطة للمسيرة، حصلت عليها الأناضول، تشير إلى مسارين.
الأول، وهو مسار قصير، يبدأ من القدس الغربية مروراً بباب الخليل، أحد أبواب البلدة القديمة، ثم قُبالة الحي الأرمني، وصولاً إلى حائط البراق. أما المسار الثاني، وهو الأطول، فيبدأ من القدس الغربية مروراً بباب العامود، ثم طريق الواد وصولاً إلى حائط البراق. ويترك للمشاركين في المسيرة، اختيار المسار الذي يرغبون في سلوكه.
ويعتبر المسار الثاني إشكالياً بشكل خاص بالنسبة للفلسطينيين، الذين يعتبرون المسيرة استفزازية، كونها تمر من باب العامود وطريق الواد، بالبلدة القديمة.
وفي السنوات الماضية، كانت الشرطة الإسرائيلية تُخلي باب العامود من الفلسطينيين استعداداً للمسيرة ؛حيث يتجمع آلاف اليهود في الساحة المقابلة للباب، وهم يلوحون بالأعلام الإسرائيلية ويرددون الشعارات المناوئة للعرب بما فيها "الموت للعرب".
وعادة ما كانت الشرطة الإسرائيلية تُجبر أصحاب المحال التجارية الفلسطينيين في باب العامود وطريق الواد، على إغلاق أبواب محالهم خلال فترة المسيرة. وكثيراً ما كان يتخلل هذه المسيرة مواجهات بين الفلسطينيين من جهة، والمستوطنين والشرطة الإسرائيلية من جهة أخرى.
متى بدأت إسرائيل مسيرة الأعلام؟
بدأت مسيرة الأعلام في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ولكنها لم تكن تمر من باب العامود؛ إذ كانت تمر من خلال باب الخليل، الأقرب من أبواب القدس القديمة، إلى القدس الغربية.
ولاحقاً، تمت إطالة مسار المسيرة لتمر من باب الأسباط، أحد أبواب البلدة القديمة، ولكن منعت الشرطة الإسرائيلية في السنوات 2010-2016 هذا المسار، بسبب تكرر المواجهات مع الفلسطينيين فتم إلغاء هذا المسار نهائياً.
ومنذ سنوات، بدأت أعداد المشاركين بالمسيرة، المارين من خلال باب العامود، تزداد. وبرز اسم هذه المسيرة بشكل أكبر العام الماضي، عندما هددت فصائل فلسطينية بإطلاق الصواريخ من غزة على القدس الغربية في حال السماح بالمسيرة، فتم تأجيلها عن موعدها لعدة أسابيع قبل أن تتم تحت إجراءات أمنية مشددة.
وتبدو الأمور هذا العام أكثر توتراً مع ازدياد وتيرة اقتحام المستوطنين المتطرفين للمسجد الأقصى في حماية شرطة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يقول الفلسطينيون إنه مخطط لفرض التقسيم الزماني والمكاني وتغيير الوضع القائم في المسجد منذ ما قبل تأسيس إسرائيل على أراضي فلسطين بعقود طويلة.
وقال حاتم عبد القادر، الأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس (خاصة)، لوكالة الأناضول: "على مدى سنوات طويلة، كانت المسيرة تنطلق من القدس الغربية وتقتحم البلدة القديمة من خلال باب الخليل، ومن ثم تمر قبالة الحي الأرمني وصولاً إلى حائط البراق".
"ولكن في السنوات الماضية وتحديداً في فترة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، بدأت المسيرة باختراق باب العامود، مروراً بحي الواد وصولاً إلى حائط البراق"، بحسب عبد القادر.
"يعتبر الإسرائيليون أن هذه المسيرة هي بمثابة تأكيد على ما يسمونها السيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية المحتلة، فتستبيح الجماعات المتطرفة البلدة القديمة لترسيخ الرواية الإسرائيلية بما يسمى القدس الموحدة. بذلك فإن السلطات الإسرائيلية تعتبر هذه المسيرة، بمثابة بصمة، لما تسميه السيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية، وتحديداً البلدة القديمة".
السيادة على القدس في قلب المعركة
اعتبر عبد القادر، وزير شؤون القدس الأسبق، والقيادي في حركة التحرير الوطني "فتح"، مسيرة الأعلام بمثابة "معركة سيادة، على القدس". وقال: "نحن نقول إن البلدة القديمة، كجزء من القدس الشرقية، هي محتلة، والوجود الإسرائيلي فيها هو وجود احتلالي ولا سيادة لإسرائيل عليها". وأضاف: "مسيرة الأعلام هي بطابعها استفزازية أيضاً، فخلالها يتم تحويل أجزاء كثيرة من القدس الشرقية إلى مناطق عسكرية مغلقة ويتم إجبار التجار في البلدة القديمة على إغلاق محالهم التجارية، وإذا ما أبقوا على المحال مفتوحة يتم الاعتداء عليهم من قبل المستوطنين، وخلال المسيرة يتم نشر الفوضى في القدس القديمة وهذا مدان وغير مقبول".
"الآن، هناك جيل جديد في القدس الشرقية، كبُر على مشاهد القتل والاعتقال والضرب وتدمير المنازل، وهو يرفض ما يجري في المدينة، وبالنسبة له فإن القضية هي قضية كرامة".
وأشار عبد القادر إلى أن "السماح بالمسيرة الاستفزازية من قبل شرطة الاحتلال، هو تصعيد خطير ولعب بالنار؛ وإصرار إسرائيل على مرور المسيرة من باب العامود ستكون له تداعيات خطيرة، يتحمل الاحتلال الإسرائيلي وحده المسؤولية عنها".
في السياق ذاته، حذّرت أوساط رسمية وحزبية فلسطينية، خلال الأيام الماضية، من عواقب "مسيرة الأعلام". فقد أدانت وزارة الخارجية والمغتربين "إصرار الحكومة الإسرائيلية على المضي في تنظيم ما تُسمى بالمسيرة، واعتبرتها "جزءاً لا يتجزأ من تصعيد العدوان الإسرائيلي على المدينة المقدسة ومواطنيها ومقدساتها".
أما الفصائل الفلسطينية في غزة، فقد حذرت إسرائيل من اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى عبر "مسيرة الأعلام". وقالت في مؤتمر صحفي عُقد عقب اجتماع للفصائل الفلسطينية، بغزة، إن اقتحام المسجد الأقصى، من قبل المشاركين في المسيرة، سيكون "بمثابة برميل بارود سينفجر ويُشعل المنطقة بأكملها".
والأربعاء، أمر قائد الشرطة الإسرائيلية كوبي شبتاي، بنشر آلاف من رجاله في القدس الشرقية والمدن المختلطة، وألغى الإجازات الخاصة بجميع عناصر الشرطة، بحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، استعداداً لتأمين "المسيرة".
كما نشر الجيش الإسرائيلي منظومة "القبة الحديدية" المضادة للصواريخ، قرب الحدود مع قطاع غزة، تحسباً لإطلاق قذائف رداً على "المسيرة"، بحسب القناة (13) الإسرائيلية الخاصة.
حماس تحذر إسرائيل.. ألغوا المسيرة!
وحذرت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) التي تدير قطاع غزة إسرائيل من أنها تخاطر بحرب أخرى إذا سمحت بمسيرة الأعلام التي يخطط لها القوميون بالمرور في البلدة القديمة بالقدس.
ودعا باسم نعيم، رئيس دائرة السياسة والعلاقات الخارجية في حركة حماس في قطاع غزة، حكومات دول العالم للضغط على إسرائيل لتغيير مسار المسيرة التي من المقرر حتى الآن أن تمر في قلب البلدة القديمة.
وقال نعيم الخميس لرويترز: "أتوقع أن حماس والفصائل (العسكرية) الأخرى مستعدة لبذل كل ما في وسعها لمنع هذا الحدث بغض النظر عن التكلفة". وأضاف: "القرار بيد الإسرائيليين والمجتمع الدولي. يمكنهم تجنب الحرب والتصعيد إذا أوقفوا هذه (المسيرة) المجنونة".
كانت الحرب بين حماس وإسرائيل، التي انتصرت فيها المقاومة، قد اندلعت بسبب اعتداءات الاحتلال على المسجد الأقصى والسعي لتهجير الفلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، إضافة إلى مسيرة الأعلام ومسارها الذي يراه الفلسطينيون استفزازياً.
"من قال إن رد الفعل سيكون من غزة فقط؟ ربما سيكون هناك انتحاريون داخل القدس، لا أعلم. لا يعملون بأوامر منا"، مشيراً إلى سلسلة من الهجمات الأخيرة في إسرائيل نفذها رجال لا ينتمون إلى أي فصائل فلسطينية. "المعركة ليست مع حماس وحدها إنها مع الشعب الفلسطيني"، بحسب ما قاله نعيم لرويترز.
وبعد شهور من الهدوء النسبي في أعقاب حرب عام 2021، تصاعدت التوترات منذ الربيع، وكانت القدس والمسجد الأقصى النقطة المحورية للاحتكاكات المتزايدة في أغلب الأوقات.
وأواخر أبريل/نيسان الماضي، منعت الشرطة الإسرائيلية في آخر لحظة مسيرة للقوميين الإسرائيليين المتطرفين من الوصول إلى باب العامود، فاحتشدوا قرب سور البلدة القديمة رافعين الأعلام ومرددين هتافات منددة برئيس الوزراء نفتالي بينيت، والذي يعتبر واحداً من القوميين اليمينيين، وطالبوه بـ"العودة إلى المنزل"، في إشارة إلى المطالبة بتنحيه عن منصبه، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وقال نعيم لرويترز إن حماس وفصائل أخرى ناقشت مسيرة الأعلام المزمعة مع وسطاء دوليين قالوا إن إسرائيل تتطلع لتجنب التصعيد.
ودافع رئيس الوزراء نفتالي بينيت عن قرار مسؤولي الأمن بالسماح لمسيرة الأحد بالدخول من باب العامود والمرور بالبلدة القديمة. ومع ذلك حثّه بعض أعضاء حكومته الائتلافية على إعادة التفكير في المسار، وأشاروا إلى أنه قد يكون هناك تغيير في الموقف في اللحظة الأخيرة.
ويقول المنظمون إن المسيرة مرت بباب العامود في السنوات السابقة؛ مما يعني أنها جزء من "الوضع القائم" في المدينة. لكن نعيم قال إن حماس لن تقبل أبداً مثل هذا التفكير. وقال: "يمكن إلغاء هذه المسيرة. إنها خطوة سياسية ولا علاقة لها بالدين".