تتبادل روسيا وأمريكا الاتهامات بشأن المسؤولية عن أزمة الغذاء التي يعاني منها العالم وتهدد الملايين بالجوع، فمن منهما يتحمل المسؤولية فعلاً؟ وهل الحرب في أوكرانيا السبب الوحيد للكارثة؟
وقبل الدخول إلى تفاصيل الاتهامات التي يوجهها كل طرف للآخر، من المهم التأكيد على أن أسعار الحبوب، وبصفة خاصة القمح، قد بدأت رحلة صعود مطردة عالمياً منذ عام 2012، فيما أرجعه الخبراء بالأساس إلى تأثير التغير المناخي السلبي على الإنتاج الزراعي.
لكن المؤكد هو أن الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" ويصفه الغرب بأنه غزو، قد أدى إلى ارتفاعات قياسية في أسعار الغذاء عالمياً وبات شبح المجاعة يتهدد مئات الملايين من الناس حول العالم. ونشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً عنوانه "على من يقع اللوم في أزمة الجوع العالمية؟"، رصد تداعيات الحرب الأوكرانية وألقى بطبيعة الحال بالجانب الأكبر من "اللوم" على الجانب الروسي.
أمريكا تتهم روسيا.. وهذا ما تقوله
نبدأ القصة من أحدث فصولها، حيث اتهم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن روسيا، الخميس 19 مايو/أيار، باستخدام الغذاء سلاحاً، ليس فقط ضد الملايين من سكان أوكرانيا، ولكن أيضاً ضد الملايين حول العالم الذين يعتمدون على الصادرات الأوكرانية، وذلك من خلال احتجاز إمدادات الغذاء "رهينة"، بحسب تقرير لرويترز.
وفي كلمة أمام مجلس الأمن الدولي، ناشد بلينكن روسيا الكف عن محاصرة الموانئ الأوكرانية، وقال: "يبدو أن الحكومة الروسية تعتقد أن استخدام الغذاء سلاحاً سيساعد في تحقيق ما لم يفعله غزوها، وهو تحطيم معنويات الشعب الأوكراني. إن الإمدادات الغذائية لملايين الأوكرانيين وملايين آخرين حول العالم يحتجزها الجيش الروسي حرفياً رهينة".
وأراد بلينكن أن يحسم الأمور تماماً وأن يصدر القرار الأخير في القضية، فقال: "قرار استخدام الغذاء سلاحاً هو قرار موسكو، وموسكو وحدها. نتيجة لإجراءات الحكومة الروسية، هناك حوالي 20 مليون طن من الحبوب غير مستخدمة في الصوامع الأوكرانية مع تراجع الإمدادات الغذائية العالمية، وارتفاع الأسعار ارتفاعاً كبيراً".
ماذا عن وجهة نظر روسيا إذاً؟
لكن روسيا ترفض بشكل قاطع الاتهامات الأمريكية، وتلقي بالكرة في ملعب واشنطن؛ إذ رفض سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، أي تلميح إلى أن روسيا مسؤولة عن أزمة غذاء عالمية كانت تختمر منذ عدة سنوات، ووصف ذلك بأنه "خاطئ تماماً". كما اتهم أوكرانيا باحتجاز سفن أجنبية في موانئها وتلغيم المياه.
وترى روسيا أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن هي المسؤولة عن أزمة الغذاء العالمية بسبب طبيعة العقوبات التي تم فرضها على روسيا منذ بداية الهجوم على أوكرانيا.
كان ديفيد بيزلي، مدير برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، قد ناشد، الأربعاء 18 مايو/أيار، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائلاً: "إذا كان لديك قلب، فرجاء افتح هذه الموانئ". في إشارة إلى الموانئ الأوكرانية على بحر آزوف والبحر الأسود، وجميعها تخضع لحصار بحري روسي صارم.
وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء نقلت عن نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودنكو قوله: "ليس عليكم فقط مناشدة روسيا الاتحادية لكن أيضاً النظر بتمعن في مجموعة الأسباب الكاملة التي تسببت في أزمة الغذاء الحالية، وفي المقام الأول هذه العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا والتي تصطدم بالتجارة الحرة العادية بما يشمل المنتجات الغذائية مثل القمح والأسمدة وغيرهما".
خلاصة وجهة النظر الروسية إذاً هي أن أزمة الغذاء العالمية ترجع لأسباب متعددة أغلبها يسبق الهجوم الروسي، وأن أوكرانيا والغرب يتحملون المسؤولية عن تفاقم الأزمة ووصولها إلى حد شبح الجوع الذي يتهدد الملايين، وأن روسيا لن ترفع الحصار عن الموانئ الأوكرانية إلا إذا أعيد النظر في العقوبات الغربية.
ما الحجم الحقيقي لأزمة الحبوب عالمياً؟
إنتاج روسيا وأوكرانيا معاً يمثل ما يقرب من ثُلث إمدادات القمح العالمية، كما تعتبر أوكرانيا من الدول الرئيسية المصدرة للذرة والشعير وزيت عباد الشمس وزيت بذور اللفت (زيت السلجم)، بينما تمثل روسيا وروسيا البيضاء، التي دعمت موسكو في تدخلها في أوكرانيا وتخضع أيضاً لعقوبات، أكثر من 40 بالمئة من الصادرات العالمية من البوتاس الذي يستخدم كسماد.
المعلومة الثانية الهامة أيضاً في هذا السياق تتعلق ببرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة؛ إذ يوفر البرنامج مساعدات غذائية لنحو 125 مليون شخص في العالم، ويشتري 50 في المئة من الحبوب من أوكرانيا. وتفسر هذه الأرقام الدافع وراء مناشدة مدير البرنامج للرئيس الروسي.
وفي هذا السياق، يسعى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للتوسط في "صفقة شاملة" تسمح لأوكرانيا باستئناف صادراتها الغذائية عبر البحر الأسود وزيادة الأغذية والأسمدة الروسية في الأسواق العالمية، بحسب رويترز.
حجم أزمة الحبوب يعتبر خطيراً للغاية إذاً، لأنه من الصعب على بقية مزارعي العالم تعويض الفجوة التي سببتها حرمان السوق من ربع صادرات القمح العالمية، التي توفرها روسيا وأوكرانيا معاً. وقلَّصت وزارة الزراعة الأمريكية منذ بدء الحرب، توقعاتها لتجارة القمح العالمية في الموسم الحالي بأكثر من 6 ملايين طن، أي أكثر من 3% من حجم التجارة عالمياً.
لكن تلك الأرقام تتعلق بموسم الزراعة الماضي، أما موسم الزراعة في روسيا وأوكرانيا للعام الحالي فمن المتوقع أن يزيد الطين بلة؛ لأن الموسم يبدأ في النصف الثاني من العام، وهو ما يعني تقلصاً ضخماً في الإنتاج في أوكرانيا بصفة خاصة.
وعلى الرغم من عدم توفر أرقام دقيقة وموثوق بها بشأن مساحة الأراضي الزراعية التي تم تدميرها بفعل العمليات العسكرية أو تلك التي أصبحت ساحات معارك أو في مرمى نيران المدفعية، فإن جميع التقارير تشير إلى أن موسم الزراعة هذا العام في أوكرانيا قد تعرض لضربة قاصمة، ومع استمرار الحرب وعدم وجود مؤشرات على قرب نهايتها، تزداد الصورة القاتمة بالفعل قتامة وتشاؤما بالنسبة للعام القادم أيضاً وليس فقط العام الحالي.
ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، بلغت أسعار الغذاء العالمية بالفعل مستويات قياسية عالية، ويمكن أن تقفز الأسعار بمقدار 22% أخرى خلال العام الحالي، ويقول تشو دونغ يو، المدير العام لـ"الفاو"، يُعَد القمح غذاءً أساسياً لأكثر من 35% من سكان العالم.
هل يمكن أن تجبر أمريكا روسيا على فك الحصار البحري؟
تفرض روسيا حالياً حصاراً بحرياً كاملاً على الشواطئ والموانئ الأوكرانية على البحر الأسود وبحر آزوف، وهو ما حرم كييف من استخدام موانئها الرئيسية وأدى إلى تراجع صادراتها من الحبوب هذا الشهر بأكثر من النصف مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وأجبر ذلك الحصار أوكرانيا على اللجوء للتصدير عن طريق القطارات أو عبر موانئها الصغيرة المطلة على نهر الدانوب، لكن قطارات الشحن تواجه عقبات لوجستية، كما أن الشاحنات في وضع حرج؛ لأن معظم سائقي الشاحنات هم من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عاماً ولا يُسمح لهم بمغادرة البلاد ولا يمكنهم دفع الصادرات الزراعية عبر الحدود.
وفي هذا السياق من الصعب الفصل بين الاتهامات التي وجهها وزير الخارجية الأمريكي لروسيا في مجلس الأمن بشأن "تجويع أوكرانيا والعالم"، وبين التقارير عن سعي واشنطن لتزويد كييف بصواريخ متطورة مضادة للسفن للمساعدة في كسر الحصار البحري الروسي. ونقل عن ثلاثة مسؤولين أمريكيين ومصدرين بالكونغرس قولهم إن نوعين من الصواريخ القوية المضادة للسفن، هاربون من صنع بوينج، ونافال سترايك الذي تصنعه كونجسبرج وريثيون تكنولوجيز، قيد البحث فعلياً إما للشحن المباشر إلى أوكرانيا، أو من خلال النقل من حليف أوروبي لديه تلك الصواريخ.
وفي أبريل/نيسان الماضي، ناشد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي البرتغال تزويد الجيش الأوكراني بصواريخ هاربون التي يصل مداها إلى 300 كيلومتر تقريباً. لكن هناك العديد من المشكلات التي تمنع حصول أوكرانيا على الصواريخ. على سبيل المثال، فإن منصات إطلاق هاربون من الشاطئ محدودة، وهو حل صعب تقنياً وفقاً للعديد من المسؤولين؛ لأنه في الغالب صاروخ يُطلق من البحر.
وقال مسؤولان أمريكيان لرويترز إن الولايات المتحدة تعمل على إيجاد حلول محتملة تشمل سحب قاذف من سفينة أمريكية. ويتكلف كل صاروخ حوالي 1.5 مليون دولار، وفقاً لخبراء ومسؤولين تنفيذيين في الصناعة. وقال برايان كلارك، الخبير البحري في معهد هادسون، إن 12 إلى 24 صاروخاً مضاداً للسفن مثل هاربون بمدى يزيد على 100 كيلومتر ستكون كافية لتهديد السفن الروسية ويمكن أن تقنع موسكو برفع الحصار. وقال كلارك لرويترز: "إذا أصر بوتين، يمكن لأوكرانيا أن تقضي على أكبر السفن الروسية، حيث لا يوجد مكان تختبئ فيه في البحر الأسود".
كانت القوات الأوكرانية، في 14 أبريل/نيسان وباستخدام صاروخين جوالين من طراز نبتون أُطلقا من البر وكلاهما بتقنية منخفضة نسبياً، قد نجحت في إحداث ثقبين كبيرين في جانب طراد الصواريخ الروسي الثقيل موسكفا، وهي السفينة الرئيسية لأسطول البحر الأسود الخاص بموسكو.
لكن وصول تلك الصواريخ المتطورة إلى أوكرانيا مخاطرة كبيرة ربما تؤدي إلى مواجهة مباشرة مع الناتو أو استخدام روسيا لأسلحة نووية أو اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة بين موسكو وواشنطن وهي العراقيل التي أشار إليها مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون ومصادر في الكونغرس.
وهناك أيضاً عقبات عملياتية في طريق إرسال أسلحة أطول مدى وأكثر قوة إلى أوكرانيا، تشمل الحاجة إلى فترات تدريب طويلة، وصعوبات في صيانة المعدات، أو مخاوف من إمكانية استيلاء القوات الروسية على الأسلحة الأمريكية، وليس فقط الخوف من التصعيد.
وقال مسؤولون أمريكيون ومصادر في الكونغرس لرويترز إن عدداً قليلاً من الدول ستكون على استعداد لإرسال صواريخ هاربون إلى أوكرانيا. لكن لا أحد يريد أن يكون الدولة الأولى أو الوحيدة التي تفعل ذلك، خوفاً من انتقام روسيا إذا غرقت سفينة بصاروخ هاربون من مخزونها، حسبما قال مسؤول أمريكي.
وقال المسؤول الأمريكي إن دولة واحدة تفكر في أن تكون أول من يزود أوكرانيا بالصواريخ. وأضاف أنه بمجرد أن تلتزم تلك الدولة "التي تملك مخزوناً جيداً" بإرسال هاربون، قد يتبعها آخرون. ولم يذكر المسؤول اسم الدولة، لكن يبدو أنها البرتغال.
ويمكن إطلاق الصاروخ نافال سترايك من الساحل الأوكراني، ويبلغ مداه 250 كيلومتراً. كما يستغرق التدريب على إطلاقه أقل من 14 يوماً. وقالت المصادر إن تلك الصواريخ تعتبر أقل صعوبة من الناحية اللوجيستية من هاربون.
وقال مسؤولان أمريكيان ومصادر في الكونغرس إن الولايات المتحدة تحاول إيجاد طريقة تتيح لأوكرانيا الحصول على الصواريخ نافال سترايك وقواذف من الحلفاء الأوروبيين.
الخلاصة هنا هي أزمة الحبوب العالمية تبدو في طريقها للازدياد سوءاً، في ظل تمسك روسيا والولايات المتحدة بموقفهما ولا أحد يمكنه التكهن بما قد تنتهي عليه الأمور في الميدان، لكن المؤكد هو أن الجوع يلتهم الملايين بالفعل وهو على وشك أن يزداد توحشاً.