قوبلت خسارة حزب الله وحلفائه الانتخابات البرلمانية اللبنانية، وفقدانهم الأغلبية، باهتمام دولي وعربي كبير، وترحيب من خصوم الحزب، وهو ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان يمكن تشكيل حكومة لبنانية من دون حزب الله وحلفائه، وكيف سيردّ الحزب على هذه المحاولات، وهل تخرج الأمور عن السيطرة وتطور إلى أزمة خطيرة.
وكشفت النتائج الرسمية للانتخابات البرلمانية اللبنانية، الثلاثاء 17 مايو/أيار2022، عن دخول لوائح المعارضة المنبثقة عن التظاهرات الاحتجاجية ضد السلطة السياسية البرلمان لأول مرة، وتراجع حزب الله وحلفائه بعد أن حصلوا على 62 مقعداً من بين 128 تشكل مجمل مقاعد البرلمان، ليفقدوا بذلك الأغلبية البرلمانية التي كانوا يحتفظون بها منذ عام 2018، فيما حصل حزب القوات اللبنانية وسمير جعجع على نحو 20 مقعداً برلمانياً.
وجرت هذه الانتخابات في ظل أزمة غير مسبوقة يمرّ بها لبنان مع انهيار عملته الوطنية، وتراجع الخدمات إلى أدنى مستوياتها.
قراءة متعمقة في نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية
من أبرز نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية ظهور قوّة جديدة على الساحة النيابية، هي قوى التغيير والمجتمع المدني، التي دخلت بأكثر من 15 نائباً، منهم 13 من الوجوه الجديدة التي لم يسبق أن تولت منصباً في الشأن العام، ومن شأن هؤلاء أن يشكلوا مع نواب آخرين مستقلين عن الأحزاب التقليدية كتلة موحدة في البرلمان.
بالنسبة للقوى الحزبية فلا تعديلات كبرى عليها، رغم احتفال رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بانتصاره، حسب وصف موقع رصيف 22 اللبناني، حيث أعلن حزب القوات عن حصوله على أكبر كتلة مسيحية بأكثر من 20 نائباً مقابل 15 في البرلمان السابق، إلا أن تقارير تفيد بأنه حصل على على 18 نائباً، ولكنه بالتأكيد أصبح صاحب أكبر كتلة مسيحية، وأكبر كتلة لحزب منفرد في البرلمان، لكن من دون حصوله وحلفائه على الأكثرية أيضاً.
وحصل الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يقوده الزعيم الدرزي وليد جنبلاط على ستة مقاعد، تُصبح تسعةً إذا أضيفت إليها الأسماء التي يعدّها متحالفةً معه، والتي خاض معها الانتخابات، فيما حصل حزب الكتائب، الذي كان جزءاً من انتفاضة 17 تشرين على خمسة مقاعد.
والتقدمي والكتائب هم من بقايا قوى 14 آذار، ويعتبرون حلفاء للقوات اللبنانية بشكل أو بآخر، ولكنهم غير متطابقين معه في المواقف السياسية.
على جبهة حزب الله وحلفائه، يظهر أن من أكبر الخاسرين التيار الوطني الحر، الذي أسسه الرئيس عون، ويقوده صهره جبران باسيل، الذي كان دوماً صاحب أكبر كتلة مسيحية في البرلمان منذ عودة عون من المنفى، كما كان صاحب أكبر كتلة برلمانية في البرلمان السابق، وحل التيار العوني ثانياً بالحصول على 17 مقعداً بينما كان قد نال 21 في 2018.
اللافت أن حزب الله الذي كان يقود أكثريةً نيابيةً من 74 نائباً من أصل 128 عام 2018، خسر الأكثرية، لكنه زاد عدد نواب كتلته هذه المرة إلى 14 في مختلف الدوائر الـ15، وهو ما يشير إلى أنه لم يفقد سيطرته على الطائفة الشيعية.
كما نال حلفاؤه في حركة أمل 15 مقعداً، وتيار المردة (تيار مسيحي موال لحزب الله وسوريا) نائباً واحداً.
وكان اللافت سقوط عدد من حلفاء حزب الله، خاصة في معاقله بجنوب البلاد، ومناطق أخرى، وأغلبهم من غير الشيعة، مثل رئيس حزب التوحيد العربي، الزعيم الدرزي الموالي للأسد وحزب الله وئام وهاب، ورئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان، سليل زعامة آل أرسلان الدرزية التاريخية، ورئيس تيار الكرامة القيادي السني فيصل كرامي (نجل رئيس سابق للوزراء)، ورئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أسعد حردان، بالإضافة إلى "رئيس حزب المصارف" كما يوصّف نفسه، النائب الأرثوذكسي إيلي الفرزلي.
وقوبلت النتائج بالحزن المكتوم في أوساط حزب الله وحلفائه والارتياح، إن لم يكن بالشماتة في أوساط خصومه، وبشّر البعض بنهاية هيمنة حزب الله على لبنان.
برلمان غير مسبوق
وأدت هذه الانتخابات إلى تشكيلة غير مسبوقة منذ عقود للبرلمان اللبناني، الذي كان يتقاسمه حصراً قوى 8 آذار، التي يقودها حزب الله وحركة والتيار الوطني، التابع للرئيس ميشال عون، وقوى 14 آذار، التي كان يقودها تيار المستقبل السُّني، الذي يتزعّمه سعد الحريري، ومعه حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع، وكتلة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وقوى أخرى.
فالنجاحات التي حققها الإصلاحيون أو قوى المجتمع المدني قسّمت المجلس النيابي الجديد إلى ثلاثة أقسام: القوات اللبنانية وبقايا 14 آذار، بغياب الشريك الأساسي في السنوات السابقة، تيار المستقبل، بعد تنحّي رئيسه سعد الحريري، والقسم الثاني حزب الله ومكوّنات 8 آذار، التي تعرضت لنتائج صادمة بإسقاط العديد من رموزها في مناطق كانت تُعد معاقل نفوذهم.
هل تؤدي النتائج إلى انتهاء هيمنة حزب الله على السياسة اللبنانية؟
وقد اعتبر الكثيرون هذه النتيجة بدايةً لتغيير الوضع في لبنان، الذي كان يهيمن فيه حزب الله على سياسة البلاد وشؤونها الأمنية بشكل خاص.
ولكن الحقيقة أن الوضع في لبنان أعقد مما يبدو للوهلة الأولى.
فمازالت قوى 8 آذار صاحبة أكبر كتلة مجمعة، رغم فقدانها الأغلبية البرلمانية.
في المقابل تشكلت أمام تحالف حزب الله كتلتان غير متجانستين، أكبرهما كتلة تمثل بقايا 14 آذار، بقيادة القوات، وسط غياب لافت لوجود قوة سنية أساسية.
أما الكتلة الأصغر فهم النواب المحسوبون على التيار التغييري، الذي يُوصف بالمستقلّ، والذي يفترض أنه معارض لسياسات النخب الحاكمة، سواء 14 أو 8 آذار على السواء.
تشكيل الحكومة بات أكثر صعوبة
ويعني هذا أن حزب الله وحلفاءه لن يستطيعوا تشكيل حكومة وحدَهم، فلكي يصلوا إلى النصاب اللازم (النصف+ واحد)، يحتاجون للتحالف مع أي من الفائزين من قوى 14 آذار، مثل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط (وهو خيار محتمل في ظل براغماتية جنبلاط وعلاقته الوثيقة مع زعيم حركة أمل نبيه بري)، أو أنهم يحتاجون أصواتاً من الكتلة الإصلاحية المستقلة لتشكيل الحكومة.
ولكن هذا ليس بالأمر السهل، باعتبار أن كتلة الإصلاح قدمت نفسها باعتبارها معارضة لسياسات الطبقة الحاكمة، بما فيها حزب الله وحلفاؤه، كما أن هذه الكتلة يعتقد أنها فازت بشكل كبير بفضل أصوات نسبة كبيرة من الناخبين السنة المعارضين لتوجهات حزب الله، بل يناصبونه العداء أحياناً.
كما أن اشتراك الإصلاحيين في تشكيل حكومة يقودها حزب الله وحلفائه قد يُعرّضهم لنقمة غربية، وهي مسألة تهم المحسوبين من القوى الإصلاحية على قوى المجتمع المدني والليبراليين (هذه المخاوف لن تؤثر على اليساريين منهم كثيراً)، علماً أن المجتمع المدني اللبناني يحظى بتشجيع غربي ظهر واضحاً خلال مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحل الأزمة اللبنانية.
هل يمكن تشكيل حكومة تستبعد حزب الله وحلفاءه؟
في المقابل، فإن احتمال تحالف كتلة الإصلاح مع حزب القوات اللبنانية وبقايا 14 آذار يبدو صعباً لنفس السبب، فالكتلة الإصلاحية تقدم نفسها معارضةً للفساد والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية، التي مُورست من مجمل الطبقة السياسية خلال العقود الماضية، وهي ممارسات تتحمل قوى 14 آذار مسؤولية كبيرة فيها، خاصة في الملف الاقتصادي، الذي لعب فيه تيار المستقبل دوراً كبيراً منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية.
كما أنه من الناحية الإحصائية احتمال إجماع الكتلة الإصلاحية على التحالف مع 14 آذار أصعب من احتمال تحالفها مع 8 آذار، التي يقودها حزب الله، لأن القوى الأخيرة مقاعدها أكثر عدداً، أي أن تشكيل تحالف بين الإصلاحيين و14 آذار يستلتزم موافقة معظم الأعضاء الإصلاحيين، بينما التحالف مع 8 آذار يستلزم انضمام جزء فقط من الإصلاحيين للائتلاف الحكومي.
والأخطر أن محاولة تحالف التيار الإصلاحي تشكيل الحكومة مع حزب القوات اللبنانية وبقايا 14 آذار دون حزب الله وحلفائه، يهدد بحدوث أزمة تتعدى البعد السياسي، وقد تدفع حزب الله للجوء لأساليب غير سياسية، بما في ذلك اللجوء إلى الشارع أو التلويح بسلاحه.
هل يلجأ حزب الله لسيناريو 7 أيار أو القمصان السود؟
فليست هذه أول مرة لا يكون لتحالف 8 آذار بقيادة حزب الله أغلبية برلمانية.
فالواقع أنه منذ انقسام الساحة السياسية اللبنانية إلى الاستقطاب بين قوى 8 آذار الموالية لسوريا وإيران وقوى 14 آذار الموالية للسعودية والحليفة للغرب، عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري عام 2005، ثم انسحاب القوات السورية من البلاد، فإن حزب الله وحلفاءه شاركوا في أغلب حكومات لبنان، حتى ولو حصدوا الأغلبية، ورغم أنف الجميع.
بل إن الواقع أن البرلمان الأخير هو أول برلمان تحصل فيه قوى 8 آذار بقيادة الحزب على الأغلبية.
الحزب سيتهمها بأنها غير ميثاقية وبالتالي غير شرعية
فلقد وضع حزب الله وحلفاؤه عرفاً سياسياً لم يكن موجوداً من قبل في السياسة اللبنانية، هو ضرورة مشاركتهم في الحكومة، حتى لو نالوا الأغلبية؛ لكي تكون الحكومة ميثاقية، أي متوافقة مع الميثاق الذي تأسس عليه لبنان، ويعد أهم من الدستور المكتوب.
ويؤكد الميثاق على مشاركة كل الطوائف في السلطة من دون إقصاء لأي طائفة، وخاصة الرئيسية منها، وهو ما يعني أن يتم توزيع الحقائب الوزارية على الطوائف، وفقاً لنظام معقد للمحاصصة الطائفية.
وقديماً كان يعني ذلك أن الأحزاب الفائزة، سواء مسلمة أو مسيحية، يمكن أن تمنح حقائب وزارية لأي من أبناء الطوائف، ولا يشترط أن تمنحها للأحزاب المنافسة الفائزة بأصوات هذه الطوائف.
ولكنّ حزب الله وحلفاءه اعتبروا أن الميثاقية هي إشراك الأحزاب الفائزة من كل الطوائف اللبنانية الرئيسية في الحكومة.
وبالتالي، ووفقاً لهذا النهج، لا يمكن اعتبار اختيار تيار المستقبل السني إذا فاز في الانتخابات، لوزير شيعي مستقل، أو حليف له، تطبيقاً للميثاقية، بل يجب مشاركة حركة أمل وحزب الله باعتبارهما يحتكران التمثيل السياسي للطائفة الشيعية.
بل وزاد الحزب من توسيع هذه القاعدة، عبر اشتراط أن أي حكومة يجب أن تحصل قوى 8 آذار فيها على الثلث المعطل، أي ثلث عدد الحقائب الوزارية + واحد، وهي النسبة التي تمكن من تعطيل قرارات الحكومة، بل وإجبارها على الاستقالة.
والحكومات القليلة التي لم يشارك فيها حزب الله وحلفاؤه أو انسحبوا منها في العقود الماضية، اعتبروها غير ميثاقية وغير شرعية، وهو المبرر الذي استند إليه الحزب في إشعاله أحداث 7 أيار/مايو 2008، حينما اعتدى أنصاره وأنصار حركة أمل على مؤيدي تيار المستقبل في بيروت، وحاولوا اقتحام معاقل الحزب الاشتراكي بقيادة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في الجبل.
إذا اعتبر الحزب في ذلك الوقت قرارات حكومة القيادي بتيار المستقبل فؤاد السنيورة في ذلك الوقت بإقالة مدير أمن مطار بيروت الموالي للحزب وتفكيك شبكة اتصالات الحزب غير شرعية.
بل مارس حزب الله نوعاً من البلطجة ضد هذا النوع من الحكومات، مثلما حدث في واقعة "القمصان السود"، عندما اجتاح عناصر حزب الله المعروفة بـ"القمصان السود" لشوارع بيروت مرة أخرى عام 2011، للضغط على سعد الحريري، للتنحي عن رئاسة الحكومة والإتيان بحكومة تابعة للحزب برئاسة نجيب ميقاتي.
برلمان متخاصم
أدت نتائج الانتخابات اللبنانية إلى تشكيل برلمان يهيمن عليه أقصى أطراف الطيف اللبناني بشكل غير مسبوق، منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1991.
كتلة مستقلة تستند للأحلام الطوباوية لقوى المجتمع المدني والمحتجين الرافضة للطبقة التي أوصلت البلاد لهذا الانهيار، وهي كتلة غير طائفية نسبياً ونبيلة المقاصد، ولكنها صغيرة وغير واقعية وغير موحدة، وبدا تشرذمها واضحاً في تعدد لوائحها، وتنافسها ضد بعضها البعض، الذي أضاع عليها فرصة لتحقيق انتصار أكبر بكثير، والأهم أن هذه الكتلة ستعاني من تغلغل التقاليد الطائفية والاستقطاب الحاد بين الكتلتين الكبيرتين الأخيرتين.
وهناك كتلة بقايا 14 آذار دون وجود لتيار المستقبل، بل يقودها هذه المرة حزب القوات اللبنانية، الذي ينظر إليه تقليدياً على أنه كان يمثل أقصى اليمين المسيحي المتطرف، والذي ارتكب أبشع الجرائم خلال الحرب الأهلية، وله علاقات قديمة بإسرائيل.
ورغم أن رئيس حزب القوات سمير جعجع قام بجهد كبير للتبرؤ من جرائم القوات خلال الحرب الأهلية، وهو يزعم أنه الفصيل الوحيد الذي اعتذر عن هذه الجرائم، وإن لم يكن الوحيد الذي تورط بالدماء.
كما أن جعجع يلتزم خطاباً أقل طائفية من منافسه على زعامة المسيحيين؛ التيار العوني، إضافة إلى تبنّيه أطروحات ليبرالية، ويؤكد على محاربة الفساد، مع تأييد لافت للثورة السورية التي شارك حزب الله في وأدها.
وبدل حزب القوات خطابه القديم المعادي للإسلام والعروبة، الذي استخدمه خلال الحرب الأهلية، إلى خطاب آخر يؤكد على أن لبنان جزء من النظام العربي الرسمي الذي تقوده السعودية، حليفته الرئيسية بدول الخليج ومصر، مع علاقة وثيقة مع الغرب، والتركيز على رفضه للمحور الإيراني السوري ومحاولة حزب الله ضم لبنان إليه.
عداء شديد بين القوات اللبنانية وحزب الله
وفي الوقت ذاته فإن حزب القوات يتبنى الخطاب الأكثر حدة ضد حزب الله، بما في ذلك رفض سلاحه، لدرجة أنه يرفض الإقرار بلبنانية مزارع شبعا، التي يتخذ حزب الله الاحتلال الإسرائيلي لها كأحد مبررات استمرار سلاحه.
وحزب الله يجاهر بدوره بالعداء للقوات اللبنانية، ورفض الحزب تلميحات القوات مراراً بفتح أي قناة للحوار.
وبدت صلابة موقف القوات أمام حزب الله (وهو أمر نادر في ظل قوة حزب الله العسكرية، خاصة بعد أحداث 7 أيار)، في أحداث الطيونة، التي وقعت في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وشهدت إطلاق نار من قبل مسلحين مسيحيين على مسيرة تمر بحي مسيحي، شارك فيها مسلحون شيعة، من بينهم أنصار لحزب الله، وتحولت لمعركة حامية الوطيس، كان يمكن أن تشعل حرباً أهلية.
واتهم حزب الله القوات بتعمد تنفيذها، وهو ما نفته الأخيرة، ولكن لم تنفِ مشاركة أعضائها في الأحداث كأفراد من أبناء الحي الغاضبين من تنظيم مسيرة شيعية مسلحة على أعتاب حيهم.
لماذا تبدو القوات واثقة في قدرتها على تحدي حزب الله من بقية المكونات اللبنانية الأخرى؟
جزء من صلابة حزب القوات أمام حزب الله، والتي جعلته حليف السعودية الأول في لبنان، بدلاً من سعد الحريري، هو الجذور الميليشياتية للقوات التي تعطيها قوة نسبية، وهي قوة مازالت قائمة بفضل التنظيم القوي للقوات، مقارنة بتيار المستقبل غير الميليشياتي الذي لم يحمل يوماً السلاح.
كما أن هذه القوة تعود لاستناد حزب القوات للطائفة المارونية المتحصنة في مواطنها الأساسية في جبل لبنان، والمعزولة نسبياً عن المناطق المسلمة باستثناء بعض مناطق بيروت الشرقية، وخاصة أن مسيحيي لبنان حريصون على تحصين مناطقهم ضد أي توغل لحزب الله وحركة أمل الشيعيتين (أو أي وجود مسلم دائم)، اللتين تسيطران تقليدياً على المناطق السنية الشيعية المشتركة، ما يمنحها سيطرة كاملة عليها في حال حدوث أي نزاع مع تيار المستقبل مثلما حدث في 7 أيار.
كما أن موارنة لبنان لديهم تاريخ مما يشبه الحكم الذاتي على مدار قرون ترسخ عبر تماسكهم الطائفي وتقاليدهم العسكرية كأقلية جبلية يمتلك أفرادها السلاح، ولديهم نزعة تاريخية وطائفية شديدة الحساسية لأي انتهاك لمناطقهم.
وتعزز الطبيعة الجغرافية الجبلية كثيفة السكان هذه المناعة للمناطق المسيحية.
القوات قد يرفض شروط حزب الله لتشكيل الحكومة وأهمها السلاح
يعني الانقسام الثلاثي الواسع بالبرلمان اللبناني، ووقوف حزب الله والقوات اللبنانية على طرفي النقيض في السياسة اللبنانية، صعوبة في تشكيل حكومة، سواء شملت الكتل الثلاث أو كتلتين منها، وحتى لو قبل القوات وحزب الله المشاركة في حكومة واسعة فإن حزب القوات سيكون أقوى في فرض الشروط على حزب الله، وفي مسائل يعدها الحزب خطوطاً حمراء، مثل ضرورة ذكر سلاح المقاومة في البيان الوزاري.
وقد يؤدي ذلك إلى تعطل تشكيل الحكومة لفترة طويلة.
وقد ينجح حزب الله وحلفاؤه في جذب أصوات بعض المستقلين، مع إمكانية ضم كتلة جنبلاط دون مشاركة جعجع، وفي هذه الحالة ستكون حكومة غير مرضي عنها دولياً، ومنبوذة أمريكياً وسعودياً بالتحديد.
متى يعمد حزب الله للخيار الحوثي؟
أما لو توجهت بقايا 14 آذار والقوات لتشكيل حكومة دون حزب الله وحلفائه، فقد يلجأ الحزب لسلاح التهديد، لأنه سيقدم هذا السيناريو على أنه إقصاء للطائفة الشيعية برمتها.
ولأن من يقود 14 آذار حالياً هو حزب القوات اللبنانية بخلفيته الميليشياتية، فقد يردّ حزب القوات على هذا التهديد بمزيد من التحدي، مستنداً إلى قواعده المحصنة في الجبل، التي يصعب الضغط عليها من قِبل حزب الله.
وهو أمر قد يفتح الباب لتصعيد أكبر من قِبل حزب الله، لأن أي رد ميداني على حزب القوات سيحتاج إلى عمل عسكري أكبر بكثير من اجتياح حزب الله وأمل لبيروت، في 7 مايو/أيار 2008.
ويجب الإشارة في هذا السياق إلى أنه بينما اجتاح اتباع حزب الله وأمل بيروت بسهولة نسبية خلال أحداث 7 أيار، حيث هاجموا أنصار المستقبل غير المتمرسين بأساليب الميليشيات، كان اجتياح حزب الله لمناطق الدروز في جبل لبنان أشد صعوبة بكثير، وقيل إن الدروز بأسلحة بسيطة ردوا قوات خاصة لحزب الله، وقتلوا أفراداً منها، ولجأ الحزب لقصف مناطقهم بالمدفعية، علماً أن الدروز أقل عدداً بكثير من الموارنة، ولكن لديهم نفس التقاليد العسكرية والطائفية.
يعني ذلك أن أي تصعيد على الأرض ضد القوات اللبنانية سيكون عملية واسعة ميدانياً، وقد تنتهي إلى السيناريو اليمني، الذي استولى فيه الحوثيون الموالون لإيران بالقوة على العاصمة صنعاء، ولجوء الحكومة الموالية للسعودية للجنوب وتعز.
وهذا ما قد يحدث في لبنان، إذ يستطيع حزب الله عسكرياً السيطرة على بيروت، حيث يوجد مقر الحكومة وأغلب الوزارات، إضافة إلى الجنوب وأجزاء كبيرة من البقاع، حيث يتواجد الشيعة بأعداد كبيرة، بينما قد يستطيع حزب القوات اللبنانية التحصن في المعاقل المسيحية في الجبل.
شيء واحد يمنع اللبنانيين من الانخراط في الحرب الأهلية اللبنانية مجدداً
تخيف تجربة الحرب الأهلية اللبنانية جميع اللبنانيين، ومازالت ماثلة في أذهان كل السياسيين اللبنانيين حالياً، رغم العداوات التي تفصل بينهم.
كما أن تراث لبنان الكبير في المساومات والعودة عن حافة الهاوية في اللحظات الأخيرة وإبرام صفقات ولو جزئية قد يمنع هذا السيناريو، خاصة أن حزب القوات لديه اتصالات وثيقة مع حركة أمل ورئيسها نبيه بري، حليف حزب الله الكبير والمقرب.
وقد تؤدي هذه الاتصالات إلى حل وسط، وخاصة أن اللبنانيين ملوك الحلول الوسط، وقد يلجأ الغرماء اللبنانيون إلى الفراغ الحكومي، بدلاً من الاقتتال، وسيُفضي هذا السيناريو إلى استمرار حكومة نجيب ميقاتي كحكومة تصريف أعمال، وهي حكومة مقبولة نسبياً دولياً ومحلياً، كما أن الفراغ الحكومي أمر شائع في السياسة اللبنانية.
ولكن حتى أكثر السيناريوهات تفاؤلاً بعد انتخاب البرلمان الجديد (أي الفراغ أو حكومة شاملة تضم كل أو معظم الفرقاء بما فيهم حلفاء حزب الله) لن تؤدي إلى تغييرات جذرية تُنهي الفساد وتُخرج البلاد من عثرتها، أو تقتلع الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة المزرية.
ولكن الجانب الأكثر إيجابية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة هو أنها أظهرت رغبة جزء من اللبنانيين في التغيير واقتلاع الطبقة الحاكمة، وإذا أثبتت كتلة الإصلاح المستقلة نفسها، ودخلت الانتخابات القادمة موحدة، فقد تشكل مفاجأة، وقد تضع لبنة أساسية لزعزعة نظام المحاصصة الطائفية الذي دمر البلاد.