كانت مركبات الجيش الروسي متهالكة للغاية لدرجة أنها احتاجت تمركز أطقم الإصلاح كل 15 ميلاً تقريباً، وبعض الضباط لم يكونوا لائقين بدنياً لدرجة أن الجيش حدد ميزانيةً بقيمة 1.5 مليون دولار لضبط مقاسات البزات العسكرية، كان هذا هو الحال قبل إصلاح الجيش الروسي الذي أُنفقت عليه عشرات المليارات.
وكان يُتوقع أن إصلاح الجيش الروسي الذي جرى خلال السنوات الماضية، سيجعله جيشاً شديد الكفاءة، لكن المفارقة أن الإصلاحات قد زادت الطين بلة في بعض النواحي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
عندما غزت روسيا جورجيا، منذ أكثر من 10 سنوات، كانت أوجه القصور، الكبيرة منها والصغيرة، صارخةً بما يكفي لدفع الكرملين إلى إعلان إصلاح شامل للجيش؛ بهدف بناء قوة أكثر رشاقة ومرونة واحترافية، حسب وزير الدفاع الروسي آنذاك.
غير أن ما يتضح الآن، بعد مرور قرابة ثلاثة أشهر على بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، هو أن الكرملين عجز بصورة مؤسفة عن بلوغ أهدافه المتمثلة في استحداث آلة قتالية ناجعة، حسب The New York Times.
كان أداء القوات الروسية في أوكرانيا هزيلاً لدرجة أدهشت غالبية المحللين الغربيين، مما أثار احتمالية تشير إلى أن العملية العسكرية الخاصة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تبوء بالفشل.
وبكل المقاييس، وبرغم الاستيلاء على الأراضي في جنوب وشرق أوكرانيا، عانى الجيش الروسي من ضربة كبيرة لِهيبته في أوكرانيا. فقد أُجبر على التخلي عن التوقعات بأنها مجرد حرب خاطفة للاستيلاء على البلاد بأكملها في غضون أيام قليلة. طُردت قواته من العاصمة الأوكرانية كييف، وغرقت السفينة موسكفا، وهي السفينة الرئيسية في أسطول البحر الأسود الروسي. ولم يسيطر قط على السماوات، بجانب أن بعض التقديرات الغربية تشير إلى خسارة في أرواح الجنود الروس تقدر بعشرات الآلاف.
حرب أوكرانيا أظهرت أن إصلاح الجيش الروسي لم يغيّره كثيراً
كشفت هذه الحرب عن الحقيقة التي تفيد بأن غالبية ثقافة الجيش والسلوك المكتسب من عهد الاتحاد السوفييتي لا تزال باقية، وعلى حساب روسيا، وتتمثل في: انعدام المرونة في هيكل القيادة، والفساد في الإنفاق العسكري، وإخفاء الأرقام الصحيحة للخسائر في الأرواح، وترديد شعار أن كل شيء يسير وفقاً للخطة.
كانت الإشارات الدالة على وجود إشكالية ما، تختبئ في مكان واضح للعيان، حسب الصحيفة الأمريكية.
في الصيف الماضي، نظمت روسيا مناورات حربية قالت وزارة الدفاع الروسية عنها إنها أظهرت قدرتها على تنسيق نشر 200 ألف جندي من فروع مختلفة بالجيش، في إطار جهود محاكاة لمواجهة الناتو. وأوضحت الوزارة أنها كانت واحدة من أضخم التدريبات العسكرية على الإطلاق.
أخبر الفريق يونس بك إيفكونوف، نائب وزير الدفاع، الصحفيين بأن التدريبات توضح قدرة روسيا على النشر السريع للقوات بأسلوب من شأنه "جعل أي عدو يفكر ملياً".
كان التدريب كله مكتوباً على الورق. لم تكن هناك أية قوات معادية، والوحدات الأساسية التي اشتركت في التدريب تدربت على هذا الأداء على مدى شهور، وكل تدريب عسكري بدأ وانتهى في وقت محدد. وقال محللون عسكريون إن عدد القوات المشاركة كان تقريباً نصف العدد المعلن عنه.
الهدف كان التخلص من المركزية والأعداد الكبيرة
قال كميل جاليف، المحلل الروسي المستقل والزميل السابق في مركز ويلسون بواشنطن: "إنهم على طريق الاتحاد السوفييتي بشكل أساسي. الإصلاحات رفعت كفاءة الجيش، لكنهم خاضوا نصف الطريق فحسب".
في أعقاب الصراع بجورجيا عام 2008، عندما حاولت روسيا تجديد جيشها، كانت الفكرة ترمي إلى التخلص من الجيش الذي يعود إلى عهد الاتحاد السوفييتي، والذي يتسم بالمركزية الصارمة، مما يعني أنه سيصير قادراً على حشد 4 ملايين جندي من القوات في وقت قصير. وبدلاً من الأسلوب القديم، سوف يحصل الضباط الميدانيون على مزيد من المسؤولية، وسوف تتعلم الوحدات مزامنة مهاراتها، وسوف تنتقل الترسانة بأكملها إلى عصر الحاسوب.
قاوم كثير من التقليديين هذا التغيير، وفضّلوا النموذج القديم المتمثل في قوة ضخمة مُركزة.
تراجع أعداد المواليد خلق مشكلة في التجنيد
لكن عوامل أخرى أسهمت كذلك في عجز الجيش عن التحول. تراجعت نسبة المواليد في تسعينيات القرن الماضي، مما أدى إلى تقلص عدد الرجال المؤهلين للتجنيد. أجَّل ذلك الأمر، بجانب استمرار منح رواتب منخفضة، الوصول إلى العدد المستهدف للتجنيد، وعرقل الفساد المستشري هذه الجهود.
غير أن المشكلة الأساسية تمثلت في أن ثقافة جيش الاتحاد السوفييتي ظلت كما هي، برغم قلة الرجال والوسائل اللازمة لبقائها، وذلك حسبما قال المحللون.
أي فقدت روسيا عنصر العدد الضخم الذي يميز الاتحاد السوفييتي مع الحفاظ على طرقه البيروقراطية نفسها.
قال مايكل كوفمان، مدير الدراسات الروسية في المنظمة البحثية المستقلة CNA بمقاطعة أرلينغتون بولاية فيرجينيا: "بُني جيش الاتحاد السوفييتي على أساس وجود ملايين الرجال لشغل كثير جداً من الأقسام التي امتلكت مخزوناً لا ينتهي من العتاد. لقد كان مصمماً من أجل الحرب العالمية الثالثة، ولم تأتِ الحرب مع الناتو على الإطلاق".
الجيش يُستخدم لأغراض دعائية
وفي النهاية، توقفت جهود التغيير، لتترك نسخة هجينة من الجيش: في صورة حشد عددٍ كبيرٍ من القوات وقوة أكثر مرونة. ولا يزال الجيش الروسي يفضل القوة المدفعية الكبيرة على قوات المشاة القادرة على الاستيلاء على الأراضي والسيطرة عليها.
إن طريقة كتابة التدريبات العسكرية على خوض الحروب، التي عُرضت في تدريبات الصيف الماضي، تكشف الكثير. قال وليام ألبيرك، مدير برنامج السيطرة على السلاح بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS): "لا يُختبر أحدٌ على قدرته على التفكير في أرض المعركة". وأوضح أن الضباط يتم تقييمهم بدلاً من ذلك استناداً إلى قدرتهم على اتباع التعليمات.
قال جليب آيريسوف، ملازم القوات الجوية السابق البالغ من العمر 31 عاماً، والذي غادر الجيش الروسي في 2020 بعد قضاء خمس سنوات فيه: "إنهم يستخدمون القوات المسلحة كأنها آلة دعائية". عمل آيريسوف محللاً عسكرياً في وكالة الأنباء الرسمية TASS قبل أن يستقيل ويغادر البلاد؛ لمعارضته الشديدة الهجوم الروسي ضد أوكرانيا.
لماذا يبدو أن الجيش الروسي لم يستفد من حربه في سوريا؟
يجادل كبار القادة في الجيش الروسي بأن قوات العمليات الاستكشافية التي انطلقت مؤخراً، لا سيما في سوريا، قدمت تدريباً واقعياً على المعارك، لكن المحللين يصفون هذا الادعاء بأنه مضخم.
فالقوات الروسية لم تواجه خصماً حقيقياً في سوريا؛ فالحرب كانت في الغالب عملية نفذتها القوات الجوية الروسية، حيث يحوم الطيارون فوق الأهداف حسب رغبتهم.
كما يُلاحظ أن العمل العسكري على الأرض تكفلت بأغلبه قوات الأسد المشهورة بوحشيتها، والميليشيات الشيعية العراقية والباكستانية والأفغانية الموالية لإيران والمشهورة بتعصبها المذهبي، وقادها حزب الله الذي يمكن وصفه بأفضل ميليشيات في العالم.
كما أن القوات الروسية وحلفاءها في سوريا واجهوا معارضة مُنهكة بعد أن دُمِّر جزء من قواتها على يد داعش، وجزء آخر على يد جيش النظام السوري والميليشيات الشيعية، وفعلياً عند مجيء القوات الروسية لسوريا كان معقل المعارضة الرئيسي يقتصر على حلب فقط، التي دمرها الطيران الروسي عن بكرة أبيها، وضمن ذلك ضرب المستشفيات والمباني والأسواق والآثار، بطريقة لم تحدث حتى الآن في أوكرانيا.
والأهم أن المعارضة السورية لسنوات كانت تقاتل الميليشيات الشيعية، وجيش الأسد الذي يمتلك سلاح جو ضعيفاً للغاية، وبالتالي لم تطور آليات للتعامل مع القصف الجوي الذي كان نادراً قبل مجيء الروس، ولم يكن لدى قوات المعارضة السورية المنقسمة صواريخ محمولة على الكتف مضادة للطائرات كـ"ستينغر" الموجودة في أيدي الأوكرانيين، عندما جاء الروس لبلادهم.
فالحقيقة أن روسيا لم تخض حرباً برية ضخمة منذ الحرب العالمية الثانية، فحتى الغزو السوفيتي لأفغانستان، كان حرب عصابات ضد خصم ذي تسليح خفيف.
ومع ذلك، بالغ قادة روسيا في تضخيم نجاح البلاد. ففي عام 2017، تفاخر وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، في اجتماع مع نظرائه في الفلبين، بأن روسيا "حررت" 503223 كيلومتراً مربعاً من سوريا. غير أن المشكلة تكمن في أن المساحة التي تباهى شويغو بتحريرها من المسلحين تبلغ أكثر من ضعف المساحة الفعلية للبلاد كلها، وذلك وفقاً لموقع Proekt الإخباري المستقل.
جيش روسيا ليس كبيراً أمام المهمة المكلف بها
قال المحللون إن الجيش الروسي المكون من نحو 900 ألف جندي، وأكثر من ثلثهم يشكلون قوات المشاة، ليس كبيراً للغاية، بالنظر إلى أنه يتوجب عليه الدفاع عن بلد كبير يتألف من 11 منطقة زمنية. وهدف الجيش الروسي بتجنيد 50 ألف جندي سنوياً، الذي بدأ قبل 10 سنوات، لم يتحقق، ومن ثم لا يزال التجنيد العسكري يُعقد سنوياً للروس الذين تتراوح أعمارهم بين 18 عاماً و27 عاماً.
لم يلجأ بوتين إلى التجنيد العسكري الإلزامي الذي يمكن أن يحشد جميع البالغين الذكور من أجل الحرب. ولكن حتى لو فعل ذلك، فإن البنية التحتية المطلوبة لتدريب المدنيين بأعداد كبيرة لم تعد موجودة. ويشير إجماع الآراء إلى أن العدد الأكبر من القوات البرية المتاحة في روسيا، نُشر بالفعل في أوكرانيا.
وهو ساحة لكل أنواع السرقات
ينتشر الفساد في الجيش الروسي لدرجة أن بعض القضايا ينتهي بها الحال في المحاكم.
في يناير/كانون الثاني، اتُّهم العقيد يفجيني بوستوفوي، الرئيس السابق لقسم مشتريات قوة المدرعات، بالمساعدة على سرقة أكثر من 10 ملايين دولار من العقود المزورة لشراء بطاريات بين عامي 2018 و2020، وذلك وفقاً لوكالة الأنباء الرسمية TASS.
وفي فبراير/شباط، جردت المحكمة العسكرية في موسكو الفريق ألكسندر أوجلوبلين من رتبته وحكمت عليه بالسجن 4.5 سنة؛ لإدانته في الاحتيال، "على نطاق واسع بصورة خاصة". فقد اتهمته السلطات باختلاس نحو 25 مليون دولار عن طريق تضخيم مصروفات العقود الحكومية الخاصة بالأقمار الصناعية والمعدات الأخرى، حسبما ورد في موقع أخبار الأعمال BFM.RU.
ليست العقود الضخمة مصدر الإغراء الوحيد. بحسب المحللين، يحصل أي ضابط كبير في الجيش الروسي على نحو ألف دولار شهرياً، ومن ثم فإن مزيجاً من الرواتب المنخفضة والميزانيات الضخمة يجسد وصفة ملائمة لجميع أنواع السرقات، التي تؤدي بدورها إلى تفاقم المشكلات.
قال آيريسوف إن القادة يخفون الطريقة التي تُؤدَّى بها بعض التدريبات، وذلك بهدف تكديس الموارد المخصصة لها في جيوبهم.
في حديثه مع الصحيفة الروسية الرسمية Rossiyskaya Gazeta في 2011، قال المدعي العام العسكري الروسي، سيرجي فريدنسكي، إنه من بين كل 5 روبلات في الجيش الروسي يُسرق روبل واحد.
انصهار المصابيح الموجودة على متن السوخوي
فيما أوضح آيريسوف أنه واجه عدداً من الأمثلة على تدني مستوى المعدات العسكرية الروسية، وتتمثل في: عجز منظومة الدفاع الجوي الروسية بانتسير عن إسقاط طائرة إسرائيلية مسيّرة صغيرة في سوريا برغم التفاخر بهذه المنظومة، وانصهار المصابيح الروسية على أجنحة الطائرة الروسية المقاتلة سوخوي سو-35 عندما تتجاوز سرعة الصوت، وانهيار الشاحنات الجديدة بعد عامين فقط.
وقال المحللون إن التسليح الروسي، بصفة عامة، يتخلف عن مجاراة نظائره الغربية المتمثلة في التسليح المحوسب، لكنه يؤدي الغرض. بجانب أن بعض المنتجات الجديدة لا تزال محدودة.
أنفقت روسيا مئات المليارات من الدولارات على الجيش، لتنتج بموجب برنامج التسليح الحكومي الروسي سيلاً من الطائرات والدبابات والمروحيات الجديدة، بجانب المواد الأخرى. فضلاً عن أن الإنفاق العسكري لم يقل عن 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى غالبية سنوات العقد الماضي، وذلك وفقاً لمعهد IISS، في حين أن غالبية الدول الأوروبية تكافح من أجل الوصول بالاستثمار العسكري إلى 2% من الناتج المجلي الإجمالي. وذلك هو الجزء المعلن فقط من ميزانية الجيش الروسي.
وقد ساعدت هذه النوعية من الاستثمارات العسكرية روسيا على تحقيق المكاسب التي حازتها في أوكرانيا.
قال يوهان نوربيرج، محلل الشؤون الروسية لدى الوكالة السويدية لأبحاث الدفاع، إن روسيا وجيشها كبيران للغاية على أن نتوقع منهما إصلاح كل المشكلات، حتى في غضون عقد من الزمان. وأضاف أن الحرب في أوكرانيا كشفت النقاب عن الحقيقة التي تفيد بأن الجيش الروسي "ليس عملاقاً ضخماً، لكنه أيضاً ليس قزماً".