"الترحيل الرابع من منازلهم"، هكذا يمكن أن توصف عملية إجلاء "أتراك أهيسكا" من أوكرانيا والتي نفذتها تركيا بسبب الهجوم العسكري الروسي.
إذ تعود المواطن الأصلية لأتراك أهيسكا الأصليين إلى منطقة في جورجيا على الحدود مع تركيا، ولكنهم رُحِّلوا من قِبل الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين في الأربعينيات إلى جمهوريات آسيا الوسطى (خاصةً أوزبكستان)، وكذلك إلى أصقاع سيبيريا الباردة حيث عانوا الويلات قبل أن يتم تشريدهم في العديد من بلدان العالم.
وتمت عملية إجلاء أتراك أهيسكا المعروفين أيضاً باسم الأتراك المسخاتيين من أوكرانيا، بتنسيق من قبل وزارة الخارجية التركية، وشملت العملية 180 شخصاً من أتراك أهيسكا، حيث وصلوا لتركيا أمس الثلاثاء.
ولكن معاناة عشرات آلاف منهم لم تنته منذ عملية الترحيل الأولى التي نفذها الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين من مواطنهم الأصلية بجورجيا، ضمن العديد من الشعوب السوفييتية، لا سيما المسلمة التي عانت من ويلات الحكم الروسي لقرون.
مأساتهم مشابهة لتتار القرم ولكنهم أسوأ حظاً
وتتشابه مأساة أتراك أهيسكا مع مأساة تتار القرم المسلمين، وهو شعب تركي تصفه أوكرانيا بأنهم السكان الأصليون لشبه جزيرة القرم التي كانت لقرون، دولة إسلامية قوية مهيبة في أوروبا، ثم أصبحت تابعة للدولة العثمانية، إلى أن ضمتها روسيا القيصرية في نهاية القرن الثامن عشر عنوة.
الفارق بين المحنتين أن مأساة تتار القرم الذين تم نفيهم خلال الحرب العالمية الثانية أيضاً، نالت نصيباً أكبر من الشهرة مقارنة بمأساة أتراك أهيسكا، كما أن تتار القرم عادوا لمواطنهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي رغم أنهم أصبحوا أقلية في القرم، بينما أتراك أهيسكا مازالوا مشردين في المنافي.
ووصلت المجموعة المشار إليها، من أتراك أهيسكا أمس الثلاثاء، إلى مطار ولاية ألازيغ شرقي تركيا، حيث كان في استقبالهم عدد من المسؤولين الأتراك يتقدمهم والي ألازيغ عمر طورامان، ومدير الأمن في الولاية جلال سل.
وفي تصريح صحفي، أكد الوالي طورامان أن تركيا ستواصل الوقوف دائماً إلى جانب أتراك أهيسكا.
وقال إن أتراك أهيسكا هم الآن في منزلهم (تركيا)، وستتم استضافتهم لحين عودة الهدوء إلى ديارهم.
وقالت غول باتوم (67 عاماً)، إنهم اضطروا إلى النزوح عن قريتهم في أوكرانيا بسبب الحرب، وأعربت عن جزيل شكرها لتركيا على استضافتها لهم.
أما صيرما طاهر أوغلو (13 عاماً)، فقالت إن حياتهم انقلبت رأساً على عقب بسبب الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا.
وقالت إنها تشعر بالأمان في تركيا، وأعربت عن أملها في أن يلحق والدها الذي ظل في أوكرانيا بها بأسرع وقت.
وجرى نقل أفراد المجموعة بحافلات من المطار إلى مركز الإيواء المؤقت الذي سيمكثون فيه.
موطنهم الأصلي كان جزءاً من تركيا
وأتراك أهيسكا كانوا يقيمون بمنطقة تحمل اسمهم جنوب غربي جورجيا، إلا أن الحكومة السوفييتية نفتهم، في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1944، إلى أوزبكستان بشكل أساسي، إضافة إلى قرغيزيا وكازاخستان وأذربيجان وأوكرانيا وسيبيريا.
ومسخيتي، أو أهيسكا، هي منطقة تقع الآن على حدود جورجيا مع تركيا، استولت عليها موسكو بعد حرب بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا القيصرية في 1828-1829.
وبعد الحرب العالمية الأولى، ضم الاتحاد السوفييتي المنطقة إلى جمهورية جورجيا الاشتراكية السوفييتية. وستكون هذه بداية المعاناة لأتراك أهيسكا، مثل العديد من المجتمعات التركية والمسلمة الأخرى في الاتحاد السوفييتي المنحل.
ووقعت ذروة مأساتهم بعد أن وقّع ستالين على أمر نفي لأتراك أهيسكا على الرغم من خدمتهم في الجيش السوفييتي في القتال ضد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية بدعوى الاشتباه في تأييدهم لهتلر، حيث تم طرد أكثر من 86 ألفاً من أتراك أهيسكا، من وطنهم إلى أراضٍ بعيدة داخل الاتحاد السوفييتي.
أُمروا بالرحيل خلال ساعات
تم وضع الآلاف من الأتراك والمسلمين الذين يعيشون بمنطقة المسخيتية في عربات بعد ساعات فقط من إبلاغهم بهجرتهم القسرية، ولم يُسمح لهم حتى بحزم أمتعتهم.
وخلال فترة الترحيل التي استمرت 40 يوماً تقريباً من وطنهم إلى أوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزستان، فقد نحو 13000 من أتراك أهيسكا حياتهم، بسبب الجوع والطقس البارد والأمراض.
وقال أحد الناجين من منفى أتراك أهيسكا، سوكري أنفاروف (87 عاماً)، لتقرير سابق لوكالة الأناضول، إنه كان يبلغ من العمر 12 عاماً عندما أُجبروا على مغادرة وطنهم.
وأضاف أن الجنود جاءوا يطرقون أبوابهم عند الفجر وبنادقهم في أيديهم، وأجبروا الجميع على الخروج من منازلهم وكسروا نوافذهم.
واضطر أنفاروف ورفاقه أتراك أهيسكا، الذين أُجبروا على ركوب عربات بدون نوافذ تستخدم في نقل الفحم، إلى السفر بالقطار لمدة 19-20 يوماً في هذه الظروف ووصلوا إلى أوزبكستان بآسيا الوسطى.
وقال: "جعلونا ننتظر في بازار لمدة ثلاثة أيام ثم أرسلونا إلى القرى".
النفي لأصقاع سيبيريا لمن يرفض طاعة الأوامر
وأُجبر أولئك الذين نجوا على البقاء في مناطق مختلفة بآسيا الوسطى، في حين مات 30 ألفاً آخرين، بسبب الجوع والمرض.
بعد اقتلاعهم من وطنهم قبل 78 عاماً على يد الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، لا يزال أتراك أهيسكا يعانون من آلام المنفى والشوق إلى وطنهم.
وخلال فترة المنفى الأولى، أجبرت الإدارة السوفيييتية أتراك أهيسكا على العمل في أصعب الوظائف بغض النظر عن سنهم وجنسهم، ومنعتهم من مغادرة مناطقهم التي أُجبروا على العيش فيها، ومعاقبة المخالفين بنفيهم وعائلاتهم إلى سيبيريا لمدة 25 عاماً.
لماذا غادر أتراك أهيسكا أوزبكستان؟
واستقر عدد كبير من أتراك أهيسكا، في منطقة وادي فرغانة بأوزبكستان، إلا أن نحو 100 ألف منهم اضطروا إلى ترك المنطقة، بعد اضطرابات بينهم وبين الأوزبك عام 1989، وهاجروا بعد ذلك إلى أذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا وأوكرانيا.
روى أنفاروف الذي يعيش حالياً في أوكرانيا، أنهم عاشوا بأوزبكستان بلا مشاكل حتى عام 1989-1990، وقال إنهم اضطروا إلى المغادرة بعد سلسلة من الحوادث في وادي فرغانة، مضيفاً: "طردنا الأوزبك أيضاً، رغم أننا نؤمن بالدين نفسه (كما أن كلا الشعبين ينتمي للعرق التركي الواسع)" .
وأكد أن أتراك أهيسكا وجدوا أنفسهم مرة أخرى في حالة من الفوضى وكان عليهم الهجرة إلى مناطق مختلفة، من ضمنها كازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وأوكرانيا.
وأضاف: "أتينا إلى أوكرانيا، مدينة نيكولاييف. يسعدنا أن نعيش في أوكرانيا، لكن وطننا هو تركيا، ونريد أن نعيش هناك يوماً ما".
جورجيا تتجاهلهم وتحاول إنكار جذورهم التركية المسلمة
واجهت أغلب القوميات في الأراضي الشاسعة من الاتحاد السوفييتي السابق أوقاتاً عصيبة، لكن القليل منهم اضطر إلى تحمُّل المصاعب المأساوية مثل تلك التي عانى منها الأتراك المسخاتيون.
والأسوأ من ذلك، أن هذه المأسي مرت دون أن يلاحظها أحد، حسب دراسة لمجلة البقاء الثقافي الفصلية (Cultural Survival Quarterly Magazine).
إذ يوجد القليل جداً من التوثيق عن التاريخ القديم لهذا الشعب، ولم يتم نشر أي تحقيقات مفصلة حولهم. علاوة على ذلك، لم تورد دراسات التاريخ والإثنوغرافيا لجورجيا التي نُشرت بعد الحرب العالمية الثانية أي ذكر لشعب أتراك أهيسكا، ولم تتحدث إلا عن شعب المسخات الجورجيين الذين قيل إنهم أُجبروا على الاندماج في الثقافة التركية واعتناق الإسلام.
في القرن السادس عشر، كان السكان الأتراك يعيشون على منطقة حدودية يسميها الأتراك أخالتسيخ ويسمي الجورجيون مسخيت دزافاختي.
ومعظم أتراك أهيسكا يعتبرون أنفسهم منحدرين من القبائل التركية التي شكلت تركيا الحديثة، بينما جادل علم التأريخ الموالي لجورجيا تقليدياً بأن الأتراك المسخاتيين أو أتراك أهيسكا، الذين يتحدثون لهجة كارس من اللغة التركية وينتمون إلى المدرسة الحنفيّة للإسلام السني، هم ببساطة مسخيتيون (مجموعة فرعية من الجورجيين) تحولوا إلى اللغة التركية والإسلام في الفترة ما بين القرن السادس عشر وعام 1829، عندما كانت منطقة سامتسخي جافاخيتي (مسخيتي التاريخية) تحت حكم الإمبراطورية العثمانية.
ومع ذلك، جادل عالم الأنثروبولوجيا والمؤرخ الروسي البروفيسور أناتولي ميخائيلوفيتش خزانوف ضد هذه السردية الجورجية، وقال: "لقد احتفظ العديد من أتراك أهيسكا بأسمائهم الجورجية التقليدية، ولكنهم يعرّفون أنفسهم على أنهم أتراك عرقياً ويتحدثون اللغة الأصلية لشعب شرق الأناضول التركي".
وقبل حملة الاضطهاد السوفيتي ضدهم، نشر الأتراك المسخاتيون جرائدهم الخاصة في مدينة "أخالتسيخ"، حيث كان تجمُّعهم الأساسي، وكانت اللغة التركية تُدرس في مدارسهم، حتى إن فرقتهم الشعبية قدمت عروضها في موسكو. ثم جاءت سنوات القمع الستاليني، التي حاولت تغيير هويتهم الوطنية خاصةً الأطفال، وأصبحوا يُجبرون على تسجيل أنفسهم على أنهم أذربيجانيون أو مجرد مسلمين، وإنكار وجودهم كقومية مستقلة.
وتم منع اللغة التركية في المدارس، وتقريباً تم نفي كل المثقفين؛ المعلمين والأطباء والكُتاب، من جورجيا. وأُلقي بكثير منهم في معسكرات العمل، وذلك في تمهيد من قِبل السوفييت للمأساة المروعة التي سيعيشها هذا الشعب.
الأسباب الحقيقية لحملة التطهير العرقي البشعة لستالين ضدهم
في بداية الحرب العالمية الثانية، ادعت السلطات السوفييتية أن أتراك أهيسكا قد تعاونوا مع ألمانيا النازية، بينما كانوا في الواقع على الخطوط الأمامية مع الروس.
وفقاً للسجلات السوفييتية، فإن نفي أتراك القرم والميسخاتيان كان يهدف إلى التطهير العرقي لمناطق البحر الأسود من الأتراك (تتار القرم شعب تركي من فرع آخر)، على الأرجح لأن منطقة القرم ذات أهمية حيوية للاتحاد السوفييتي، ومنطقة الأتراك الميسخاتيان ملاصقة لتركيا وكانت في الأصل مناطق تابعة لها.
في المنفى، أُجبر أتراك أهيسكا على العيش بمستوطنات منفصلة دون الحق في مغادرتها، ولم يتم السماح لهم بالعودة إلى مواطنهم حتى بعد وفاة ستالين مثلما فعل الاتحاد السوفييتي مع الشيشانيين الذين كان قد نفاهم الزعيم السوفييتي في توقيت وظروف متشابهة.
ولكن حافظ الأتراك المسخاتيون على هويتهم، رغم النفي والاضطهاد، وكان الاعتراف بوجود أتراك أهيسكا، كجماعة عرقية مُرحَّلة، محظوراً.
مع حل الاتحاد السوفييتي، كان من المفهوم أن هذه الاتهامات باطلة وأن الهدف الحقيقي لترحيلهم كان مختلفاً، ولكن لم يتم إعادتهم لموطنهم.
اليوم، يعيش ما يقرب من 20 ألف شخص في منطقة المسخيتية، عدد قليل جداً منهم من الأتراك.
ولا يزال غالبية أتراك أهيسكا يعيشون بالأماكن التي تم نفيهم إليها أو في البلدان التي هاجروا إليها فيما بعد.
فلقد أُجبر أتراك أهيسكا على الانتقال عدة مرات في تاريخهم. أولاً، تم نفيهم من وطنهم أهيسكا إلى أوزبكستان على يد ستالين في عام 1944، ثم من أوزبكستان إلى منطقة كراسنودار في روسيا عام 1989 في نهاية العهد السوفيتي.
جورجيا تتجاهل التزاماتها الأوروبية والتعهد الصادر من برلمانها لهم
من جانبها، فشلت جورجيا حتى الآن في اتخاذ خطوات ملموسة لإعادة أتراك أهيسكا إلى موطنهم الأصلي، على الرغم من القانون الذي سنّته في عام 2007 بشأن عودتهم.
وكانت جورجيا قد التزمت بعد استقلالها عن الاتحاد السوفييتي بإعادة السكان المرحلين من مسخيتيا كأحد شروط دخولها إلى مجلس أوروبا في عام 1999.
ومع ذلك، فإنه لم تؤد هذه النظرة المستقبلية الواعدة إلى مشاركة بناءة في تنفيذ هذا القانون سواء من قبل صانعي السياسة الجورجيين أو من قبل حراس القيم الأوروبية في مؤسسات القارة المختلفة، حسب تقرير لفيدرالية القوميات الأوروبية"Fuen".
وتقول الفيدرالية إن الأتراك المسخاتيين بالمنافي في حاجة ماسة إلى المساعدة القانونية، وتشكيل مؤسسات عامة خاصة بها، للحفاظ على قيمهم الثقافية والإنسانية في بلدان الإقامة.
كم بقي منهم وأين يعيشون؟
منحت الحكومة الأمريكية وضع اللاجئ للعديد من أتراك أهيسكا من كراسنودار في عام 2004، وبحلول نهاية عام 2006 استقر نحو 17 ألفاً منهم في 33 ولاية أمريكية.
وشق البعض طريقهم إلى تركيا، حيث استقبلت أنقرة في عهد أردوغان العديد من أتراك أهيسكا، والبعض الآخر يعيش في كازاخستان وأذربيجان وروسيا وأوزبكستان وقيرغيزستان وأوكرانيا والولايات المتحدة.
وفقاً لتقارير المنظمات الدولية ومصادر أخرى، يعيش ما بين 550 ألفاً و600 ألف من أتراك أهيسكا حالياً بعيداً عن وطنهم.
وتشير تقديرات إلى أن نسبة كبيرة منهم تعيش في تركيا، وبين 150 ألفاً و250 ألفاً في كازاخستان، ومن 90 إلى 130 ألفاً في أذربيجان، وأقل من مئة ألف في روسيا، ومن ثمانية آلاف إلى 15 ألفاً في أوكرانيا، بينما بقى في جورجيا نحو 1500 فقط، وفقاً لبعض التقديرات.
حافظوا على تقاليدهم ودينهم رغم التشرد
وأظهرت دراسة حول أتراك أهيسكا المقيمين في الولايات المتحدة، أن أهم مكونات الهوية العرقية لهم هي الدين واللغة والأسرة وزواج الأقارب.
الدراسة التي نشرها مستودع MOspace الجامعي الأمريكي، قالت إن الدين يأتي أولاً بالنسبة لهوية أتراك أهيسكا العرقية، حيث استخدم المستطلع آراءهم في الدراسة مصطلحات أتراك أهيسكا والمسلمين الأتراك والأتراك العثمانيين، لتعريف هويتهم.
وقد كفل العيش في الولايات المتحدة الأمن والمساواة ومناهضة العنصرية والحرية لهم. ولكن تختلف الثقافة الأمريكية الأساسية اختلافاً جوهرياً عن ثقافتهم الأصلية. وعلى الرغم من أن الأشخاص الذين تمت مقابلتهم منهم من قبل الباحثين لا يعانون من مشاكل كبيرة في الولايات المتحدة، فإن الأجيال الأكبر سناً ترغب في الانتقال إلى تركيا بعد التقاعد.
ووافق أتراك أهيسكا الأمريكيون على أهمية التغيير والتكييف ودمج ثقافتهم مع المجتمع الأمريكي، لكنهم لا يريدون الذوبان أو الأمركة.
من المقبول بالنسبة لهم استعارة نوع من الأشياء من الثقافة المضيفة أو المجموعات العرقية الأخرى. ومع ذلك، يرفضون تغيير المكونات الرئيسية لهويتهم مثل الدين واللغة، والطعام وعادات الأكل وما إلى ذلك.