منذ عام 2008، منع اللوبي الروسي في واشنطن فرض أي عقوبات فعالة ضد موسكو؛ رداً على عملياتها العسكرية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن اليوم يواجه هذا اللوبي ظروفاً مختلفة تعرقل أنشطته.
إذ لم يكن الغزو الروسي لأوكرانيا أول واقعة في الذاكرة القريبة تستدعي فيها السياسة الخارجية الروسية انتقادات شديدة من واشنطن، لكنها أول مرة يعجز فيها الكرملين عن التخفيف من حدة هذه الانتقادات بوسائله المعتادة في السياسة الأمريكية، أي جماعات الضغط الروسية التي لطالما احتلت مكانة بالغة القوة بين نخب الحشد والضغط السياسي في الولايات المتحدة، حسبما ورد في تقرير لموقع The Intercept الأمريكي.
كيف عرقل اللوبي الروسي في واشنطن أي عقوبات فعالة على الكرملين؟
عمل الكرملين قبل غزوه لأوكرانيا على تمويل جماعات الضغط التابعة له في العاصمة الأمريكية بمبالغ طائلة.
وعلى مدار القرن الحادي والعشرين، استخدم الكرملين مراراً شركات تديرها الدولة الروسية وشركات أخرى مرتبطة به، لتخفيف التداعيات التي قد تنجم عن مغامرات روسيا الخارجية، وتجنيب الكيانات الروسية أي عقوبات أمريكية شديدة الوطأة، غير أن العقوبات الأمريكية المفروضة الآن على الحكومة الروسية والشركات المرتبطة بالكرملين جعلت الإنفاق الروسي المعتاد غير ممكن.
وفي هذا السياق، غيَّرت جماعات الضغط الروسية أهدافها من حشد الضغوط في أروقة السياسة الأمريكية إلى التحايل من أجل التخفيف من حدة انهيار العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا. ومع ذلك، فإن الحال لم تكن كذلك دائماً، فقد كان للحكومة الروسية والشركات المرتبطة بالكرملين نفوذ كبير في الولايات المتحدة قبل غزو روسيا لأوكرانيا، حسب الموقع الأمريكي.
هكذا عمل بفاعلية خلال الهجوم الروسي على جورجيا
كان الغزو الروسي لجورجيا عام 2008 مرحلة انطلاق بارزة في مسار الضغط السياسي المعتمد على إنفاق الأموال ببذخ، فقد كانت واشنطن لامت روسيا وقتها على الحرب التي استمرت خمسة أيام، وطالب سياسيون أمريكيون بارزون، مثل السيناتور الراحل جون ماكين، الإدارة الأمريكية بمعاقبة روسيا على عدوانها.
لما طُرحت العقوبات وانعقد العزم الأمريكي على إقرارها، ضاعفت روسيا تقريباً إنفاقها على جماعات الضغط السياسي، وكشفت السجلات القانونية لتسجيل الوكلاء الأجانب في الولايات المتحدة عن إبلاغ شركات العلاقات العامة التي تتلقى الأموال من روسيا عن زيادة في الإنفاق الروسي من 5 ملايين دولار في عام 2007، قبل غزو جورجيا، إلى أكثر من 9 ملايين دولار في عام 2009.
بذلت شركة العلاقات العامة "كيتشوم" Ketchum جهوداً كبيرة للانقلاب على رواية الغزو الروسي لجورجيا، بل إلقاء اللوم على الأخيرة في اندلاع الصراع. ويسَّرت الشركة عقد مقابلات بين صحيفة The New York Times الأمريكية ومسؤولين عسكريين روس، ووزَّعت ملاحظات موجزة عن الحرب من وجهة النظر الروسية على صحيفة The Washington Post، ونظَّمت مقابلة لشبكة CNN مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه.
ثم استأجرت الحكومة الروسية في أوائل عام 2009 شركة علاقات عامة أخرى، هي شركة Alston & Bird، ودلَّ ذلك على حجم الإنفاق الكبير الذي باتت تخصصه روسيا لهذه الشركات في خدمة مصالحها وتحسين صورتها.
حققت حملة إعادة الاعتبار الروسية نجاحاً كبيراً، واستطاع الكرملين الصمود في وجه العاصفة التي تسبب فيها الغزو الروسي لجورجيا. ولم تفعل إدارة جورج دبليو بوش سوى القليل لمعاقبة بوتين على عدوانه، ثم جاء الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ولم يكن الشأن الروسي على صدارة اهتمامه.
ولكن ضم القرم أضعف النفوذ الروسي في واشنطن
عادت روسيا إلى قائمة العقوبات الأمريكية بعد ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014، وانضم أوباما إلى منتقدي روسيا، وقلَّ تسامح واشنطن مع روسيا عما كانت عليه الأمور في أعقاب الحرب على جورجيا، الأمر الذي أضعف تأثير اللوبي الروسي في واشنطن.
ومع أن أوباما كان واضحاً في معارضته لأي نزاع عسكري مع روسيا، فإن الولايات المتحدة أعلنت حظر التأشيرات على مسؤولين روس، وألغت مشاورات عسكرية مع روسيا، وزادت طلعاتها الجوية العسكرية فوق دول الاتحاد السوفييتي السابق، وفرضت عقوبات على شركات روسية عديدة، وأكثرت من المساعدات الأمنية لأوكرانيا.
لما شعرت روسيا بوقوعها في حالة المنبوذة سياسياً في العاصمة الأمريكية، ردَّت الحكومة الروسية بوقف حملات العلاقات العامة، وقطع الكرملين علاقاته مع شركة كيتشوم، وعلَّل ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، الأمرَ في ذلك الوقت بالقول: "قررنا عدم تجديد العقد مع شركة كيتشوم بسبب هوس العداء لروسيا، وحرب المعلومات الجارية علينا".
الكرملين يعتمد على الشركات التابعة له
ولكن هذا لم يعنِ على الإطلاق نهاية دور اللوبي الروسي في واشنطن، فعلى الرغم من أن الحكومة الروسية قررت عدم الإنفاق مباشرة على جماعات الضغط في واشنطن، فإن شركات مرتبطة بالكرملين والحكومة الروسية عملت على مقاومة العقوبات الأمريكية بإنفاق الملايين من أجل تعزيز نفوذها في السياسة الأمريكية.
ولكن أقرت الولايات المتحدة "قانون التصدي للعدوان الروسي لعام 2014″، وهو مشروع قانون فرضَ مجموعة من العقوبات على روسيا لغزوها شبه جزيرة القرم، وتضمن مصادرة أصول لشركات روسية كبرى، على رأسها بنك "غازبرومبانك" الذي أسسته شركة الطاقة الروسية غازبروم، وقد استعان البنك بشركة Squire Patton Boggs ودفع لها 1.5 مليون دولار بين عام 2014 وعام 2017، في سبيل الضغط السياسي من أجل تخفيف العقوبات.
لم يكن النجاح حليفاً دائماً لجماعات الضغط الروسية، فقد خضع صندوق الاستثمار المباشر الروسي للتدقيق من الولايات المتحدة بعد غزو القرم، وذلك على الرغم من أن صندوق الثروة السيادية الروسي استعان بشركة العلاقات العامة Capitol Counsel بعقد بلغت قيمته 45 ألف دولار شهرياً، وشركة Goldin Solutions بمبلغ 30 ألف دولار شهرياً، للضغط على وزارة الخزانة الأمريكية ولتحسين صورة الصندوق الروسي.
بعد سنوات من الاحتجاب وراء شركات روسية، عادت الحكومة الروسية نفسها في عام 2015 إلى الضغط بحثاً عن النفوذ، وتضمن ذلك حملة التدخل الروسي سيئة السمعة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عامي 2016 و2020. وقد اتهمت السلطات الأمريكية ثلاثة عشر روسياً، وثلاث شركات روسية، بالتدخل في الانتخابات الأمريكية عام 2016.
ثم قرر العمل بشكل غير قانوني عبر التدخل في الانتخابات الأمريكية
تسلطت الأضواء على التدخلات الروسية غير المشروعة في السياسة الأمريكية بين عامي 2016 إلى عام 2021، إلا أن ذلك لم يمنع النفوذ الروسي القانوني من أن يشق طريقه ويتمدد بهدوء خلال تلك السنوات.
وفي سياق المحاولات الروسية للتخفيف من حدة تداعيات غزو أوكرانيا عام 2014، سجَّل أكثر من 10 نواب سابقين في الكونغرس، وموظفون بالكونغرس ومسؤولون رفيعي المستوى، أسماءهم ضمن قوائم الضغط السياسي نيابةً عن بنوك مرتبطة بالكرملين، ونخب روسية، وشركات الغاز الروسية المسؤولة عن خط "نورد ستريم 2″، وفقاً لما كشفت عنه دراسة حديثة أجراها معهد كوينسي الأمريكي.
ونجحت روسيا في تخفيف العقوبات الأمريكية إلى أن وقعت أزمة أوكرانيا الأخيرة
وعلى الرغم من أن معظم الأمريكيين يعارضون روسيا بوتين، فإن استعانة روسيا بهذه المجموعة من المسؤولين الأمريكيين السابقين نجحت في إنقاذ الكرملين من وطأة العقوبات الأمريكية. ويمكن القول إن العقوبات التي فرضت على نخبة الأثرياء الروسية كانت غير فعالة، بل سرعان ما رُفعت في بعض الحالات.
انهارت تلك الأدوات الروسية كلها حين اتخذ بوتين قراره الكارثي بغزو أوكرانيا في وقت سابق من هذا العام، فقد قطعت معظم شركات الضغط والعلاقات العامة في العاصمة الأمريكية علاقاتها مع عملائها الروس. وآل الحال بكثير من العقوبات الأمريكية، التي لطالما وقفت جماعات الضغط الموالية لروسيا حصناً ضدها، إلى الدخول فجأة حيز التنفيذ، ومنها عقوبات لها تداعيات مباشرة على القطاع المالي الروسي، وأفراد النخبة الروسية، وخط أنابيب نورد ستريم 2.
ما يدلنا عليه التاريخ أن روسيا ستحاول قريباً استعادة نفوذها، ولما كانت العقوبات الأمريكية الحالية تحد من مساعي الضغط السياسي القانوني، فإن الأقرب أن تلجأ روسيا إلى توسيع نطاق تأثيرها غير المشروع في دهاليز السياسة الأمريكية.