عللت روسيا هجومها العسكري على أوكرانيا بأهداف أمنية، وأخرى متعلقة بحماية الأقلية الروسية هناك، ولكن تبدو المناطق التي سيطرت عليها موسكو تحديداً منذ بدء الهجوم في 24 فبراير/شباط 2022 وحتى اللحظة، تحظى بأهمية اقتصادية وصناعية كبرى، وقد تكون هذه المناطق ذات البنية التحتية الغنية، من أهم المكاسب التي ستحققها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. فكيف سيستفيد بوتين من ذلك؟
ما المناطق الأوكرانية الغنية بالموارد التي سيطرت عليها روسيا حتى الآن؟
رغم أن القوات الروسية انسحبت من شمال وشمال شرق أوكرانيا، إلا أنها لا تزال تسيطر على جزء كبير من من المناطق الشرقية الجنوبية، وتستمر في توسيع هجومها على تلك المناطق، وتوسيع رقعة سيطرتها، من حدود ميكولايف في الجنوب الغربي بالقرب من أوديسا، وحتى خاركيف في الشرق.
من أبرز المناطق التي تسعى روسيا للسيطرة عليها بالكامل، هي إقليم دونباس، الذي يعد قلب أوكرانيا الصناعي؛ حيث تخوض حالياً معارك ضارية للتقدم في الجبهة الشرقية، رغم تحصن جزء كبير من القوات الأوكرانية داخل الإقليم؛ لكونه الجبهة الأساسية للاشتباكات منذ 8 سنوات.
بالإضافة إلى ذلك؛ سيطرت روسيا على العديد من المناطق الاستراتيجية في الجنوب والشرق، بينها بعض المدن الساحلية المهمة جداً، مثل ماريوبول وخيرسون، وتستمر المعارك أيضاً حول أوديسا، وهذه المناطق هي الأهم بالنسبة لأوكرانيا تجارياً عن طريق البحر.
واستطاعت روسيا بذلك ربط شبه جزيرة القرم بإقليم دونباس، وبالتالي بالأراضي الروسية مباشرة، عدا عن الأهمية الكبرى لهذه المناطق على البحر الأسود وبحر آزوف.
كما أن المعارك مستمرة حول ثاني أهم مدن أوكرانيا، وعاصمتها الاقتصادية خاركيف في الشرق الأوكراني، وهي إحدى أهم المدن صناعياً في أوكرانيا أيضاً، عدا عن أهميتها الاستراتيجية للعملية العسكرية الروسية.
موارد الطاقة في أوكرانيا
تعد روسيا من أهم منتجي ومصدري الطاقة بجميع أشكالها في العالم؛ من الفحم الحجري والنفط والغاز الطبيعي، وهي أيضاً من أهم مصدري الطاقة لأوروبا تحديداً، رغم محاولتها الاستغناء عن الطاقة الروسية في المستقبل القريب؛ ومحاولة روسيا أيضاً الاستغناء عن بيعه لأوروبا، والتحول لأسواق أخرى.
بحسب مجلة Foreign Policy الأمريكية؛ فإن أوكرانيا تحتوي على ثاني أكبر احتياطي للغاز في أوروبا؛ بعد احتياطي روسيا من الغاز الطبيعي، ولكنّ هذه الاحتياطيات غير مستغلة في أوكرانيا، بل إن البلد يستورد ثلث احتياجاته من الغاز الطبيعي.
طُوِّرت خطط لاستغلال احتياطيات الغاز في أوكرانيا سابقاً؛ لكن هذه الخطط أُخِّرت بفعل الهجوم الروسي، كما أن روسيا تسيطر اليوم على 72% من إجمالي الغاز الطبيعي الأوكراني، سواء سيطرة مباشرة؛ أم عن طريق وجودها البحري والعسكري بالمجمل، والذي يمنع استغلال هذه الموارد.
أما بالنسبة للنفط؛ فقد سيطرت روسيا على نصف الموجود منه في أوكرانيا، رغم أن البلاد تستورد ثلثي احتياجاتها من النفط من الخارج، ولكن الأهم من النفط هو الغاز المذكور سابقاً؛ والفحم الحجري، والتي تعد أوكرانيا إحدى أغنى دول العالم به.
ينحصر وجود الفحم في أوكرانيا تقريباً بشكل كامل في دونباس، وقد استطاعت روسيا تقريباً السيطرة على كل مناجمه في أوكرانيا، والتي تمتلك رابع أكبر احتياطي من الفحم في أوروبا، وأحد أكبر الاحتياطات في العالم، رغم ذلك تضطر أوكرانيا لاستيراد نصف احتياجاتها من الفحم.
كان من الممكن أن يتغير الوضع في أوكرانيا لولا الهجوم الروسي، فالكثير من هذه الاحتياطات غير مستغلة، ولا تمتلك أوكرانيا مشاريع فاعلة لاستخراجها واستخدامها لسد احتياجات البلاد، أو ربما لاحقاً لتصديرها إلى الخارج.
والأهم من ذلك؛ أن أوكرانيا تعد أحد أهم طرق تصدير الغاز الروسي لأوروبا؛ ففي حال قدرتها على استغلال هذه الموارد بشكل كامل فقد لا تضطر إلى استثمارات ضخمة لبناء مشاريع نقل هذه الموارد إلى أوروبا، ولكنها الآن خسرت كثيراً من هذه الموارد لصالح روسيا.
تعد روسيا أحد أهم مصدّري الطاقة لأوكرانيا أيضاً، وقد يسبب الهجوم العسكري على أوكرانيا، واستمرار السيطرة الروسية على هذه الأراضي يعني أن الوضع في أوكرانيا سيزداد سوءاً، وستزيد اعتماديتها اقتصادياً على موسكو، بينما ستمتلك روسيا موارد أكثر، كما أن الوضع سيصبح أسوأ بكثير لو استطاعت روسيا السيطرة على أوديسا، مستكملة بذلك السيطرة على جميع شواطئ أوكرانيا، وبعض الحقول المحتملة للغاز الطبيعي على البحر الأسود، والمتبقية تحت السيطرة الأوكرانية.
قوة عظمى محتملة في المعادن النادرة
تحتوي أوكرانيا على احتياطيات كبيرة من معادن مهمة جداً في العمليات الصناعية؛ بعضها نادر، ورغم أن أوكرانيا قبل الحرب كانت خامس أكبر مصدر للمعادن الداخلة في مختلف الصناعات؛ إلا أن قدرتها الحقيقية على الاستغلال الكامل لهذه الاحتياطيات قد تفوق ذلك بكثير.
تقول بعض التقديرات: إن احتياطيات أوكرانيا من المعادن قد تصل بين 3-11 تريليون دولار، وإن كان إنتاجها السنوي 15 مليار دولار فقط في عام 2021، وأوكرانيا تمتلك احتياطيات لـ117 مادة تستخدم الصناعات المختلفة، من أصل 120 مادة هي الأكثر استخداماً في العالم.
تحتوي قائمة أوكرانيا من المعادن على كل من التيتانيوم، الحديد، النيون، النيكل، الليثيوم… وغيرها من المعادن الأخرى، ولكن مناجم استخراجها توقفت أو تباطأت بشكل كبير منذ بدء الحرب، كما أن كثيراً منها يقع اليوم تحت سيطرة روسيا العسكرية.
كما أن بعض الموارد الطبيعية الأكثر ندرة في العالم؛ مثل البريليوم، النيوبيوم والتنتالوم، موجودة بكثرة في مناطق تحت السيطرة الروسية، أو بالقرب من مناطق السيطرة العسكرية، وقد تستطيع روسيا السيطرة عليها في المستقبل القريب.
كانت أوروبا قد دعمت مشاريع استخراج هذه المواد، واستثمرت في مناجمها وصناعاتها الاستخراجية، لكن هذه الجهود متعثرة الآن، وهي جهود مهمة جداً للاتحاد الأوروبي للتخلص من الاعتماد الكبير على الاستيراد من الصين، والذي يقدر بـ98% من احتياجات الاتحاد الأوروبي.
الصناعات الغذائية
تعد أوكرانيا أيضاً أحد أهم منتجي ومصدري النفط في العالم؛ وخصوصاً لمنطقتنا العربية، وهناك الكثير من الدول في الشرق الأوسط تعتمد بشكل كبير على الاستيراد من أوكرانيا، وخصوصاً استيراد القمح، والذي يعد غذاءً أساسياً في الشرق الأوسط.
بحسب Foreign Policy؛ فقد صدرت أوكرانيا 12% من احتياجات العالم من القمح في عام 2021، و16% من الذرة، و18% من الشعير، وتقريباً نصف احتياجات العالم من بذور دوار الشمس وزيته.
تبلغ القيمة الكلية للصادرات الغذائية، دون احتساب احتياجات أوكرانيا من الغذاء، 28 مليار دولار سنوياً، أغلبها لدول نامية مثل الهند، وإندونيسيا، ومصر، وإثيوبيا، وتركيا، واليمن.
والكثير من حقول إنتاج هذه المواد الغذائية موجودة في المناطق التي تسيطر عليها روسيا؛ فثلث إنتاج الذرة في هذه المناطق، و30% من إنتاج القمح موجود في مناطق سيطرة روسية، أو قريبة منها، بعضها تضرر نتيجة للاستهداف الروسي العسكري لأوديسا مثلاً.
الضرر المحتمل على العالم
على المدى القصير؛ تضرر العالم كثيراً نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة؛ لا بفعل الهجوم العسكري وحده، ولكن بفعل العقوبات على روسيا أيضاً، كما أن العالم متضرر على صعيد الصناعات الغذائية، والتي ارتفعت أسعارها أيضاً بشكل كبير.
كما أن إمدادات المعادن والمواد الثمينة الموجودة في أوكرانيا تقلصت؛ لا نتيجة للسيطرة العسكرية الروسية على جزء منها، بل لأن روسيا تسيطر اليوم على 80% من شواطئ أوكرانيا وموانئها، والتي كانت تستخدم سابقاً للتصدير، كما أن باقي هذه الشواطئ والموانئ محاصر بالبحرية الروسية.
أما على المدى الطويل؛ فسيعتمد الأمر على نتائج الحرب، واستمرار العقوبات الغربية على ما هي عليه، وطول مدة الحرب والعقوبات.
فعلى سبيل المثال؛ قد لا تتمكن روسيا من تصدير هذه المواد لاحقاً؛ رغم قدرتها على السيطرة عليها، نتيجة لعقوبات تحظر استيراد هذه المواد، وقد تستطيع روسيا التغلب على العقوبات وإيجاد أسواق لتصدير هذه المواد إليها.
وقد تنتهي الحرب بعد مدة طويلة جداً بسيطرة أوكرانية، ولكن العالم سيتضرر حتى حصول ذلك؛ وسيحتمل الضرر لما بعد انتهاء الحرب أيضاً، حتى تستطيع الحكومة الأوكرانية إصلاح ما أفسدته الحرب، وإعادة الاستثمارات، وفتح العمل بهذه المشاريع.
أما إن بقيت السيطرة الروسية على ما هي عليه، أو تمددت حتى، فهذا لن يشمل جميع هذه الموارد، ولكن مع ذلك سيظل شحنها إلى الخارج أكثر كلفة بالبر؛ في حال قدرة روسيا على السيطرة على جميع موانئ أوكرانيا، كما أن حجم نقل هذه الشحنات سيصبح أصغر بكثير من حالتها لو شُحنت عن طريق البحر الأسود أو بحر آزوف.
فالأثر الأكبر سيقع على أوكرانيا، ولكن نقص الإمدادات من هذه المواد في العالم يعني أثراً على العالم كله، سواء بتقليص الحجم، وربما انقطاع بعض المواد بشكل تام في بعض الدول، أو عن طريق ارتفاع أسعارها بشكل كبير، ومساهمة ذلك في التضخم العالمي المرتفع أصلاً.