مدينة الموتى بالقاهرة التي يعود تاريخها إلى 1400 عام تتعرض للاقتلاع، ولكن المشكلة ليست فقط في القبور التاريخية التي تحوي رفات أسلاف سكان القاهرة الحاليين، ولكن هناك مصير نحو 180 ألف مصري يعيشون في هذه المقابر.
أيَّاً كان ذلك الشخص الذي دُفِنَ في أقدم مقبرة لا تزال مُستخدَمة في القاهرة حتى الآن، بعد ظهيرة أحد الأيام مؤخراً، فإنَّه كان ذا شأن إلى حدٍّ ما. إذ تكدست سيارات الدفع الرباعي في الممرات الترابية حول أحد الأضرحة العتيقة المكسوة باللونين الأسود والذهبي، وكانت النظارات الشمسية تخفي دموع المُشيِّعين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
تفقد كبير حانوتية المقبرة، أشرف زاهر (48 عاماً)، الجنازة. لكنَّه لم يتوقف طويلاً. إذ كانت ابنته على وشك الزواج على مقربة في نفس الممر. وكان المئات من جيرانه، الذين يعيشون في المقبرة مثله، يتجمَّعون خارج منزله الواقع على بُعد أضرحة قليلة.
دأب القاهريون منذ فتح العرب القاهرة في القرن السابع الميلادي على دفن موتاهم تحت منحدرات هضبة المقطم التي تعلو قلب المدينة التاريخي، حيث دُفِنَ هنالك ساسة وشعراء وأبطال وأمراء في مقابر مكسوة بالرخام مقامة وسط حدائق خضراء مسورة.
وبحلول منتصف القرن العشرين، باتت مدينة الموتى بالقاهرة تؤوي أيضاً الأحياء: حراس المقابر، والحانوتية، وحفَّاري القبور وعائلاتهم، إلى جانب عشرات الآلاف من القاهريين الفقراء الذين وجدوا ملجأً لهم بين الأضرحة الكبيرة.
لكنَّ معظم ذلك سيختفي قريباً.
إذ تعمل الحكومة المصرية على هدم مساحات واسعة من المقبرة التاريخية، مُخليةً الطريق لبناء جسر علوي سيربط وسط القاهرة بالعاصمة الإدارية الجديدة، المقر الفخم الجديد للحكومة في مصر، والذي يبنيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الصحراء على بُعد نحو 28 ميلاً (45 كم تقريباً) شرقي القاهرة. وتُعَد أعمال الهدم والبناء جزءاً من حملته لتحديث مصر. لكن نادراً ما يُؤتى على ذكر تكاليفها.
قال مصطفى الصادق، وهو مؤرخ هاوٍ يُوثِّق المقبرة: "إنَّكم ترون شجرة عائلة القاهرة. فشواهد القبور تروي مَن كان متزوجاً ممَّن، وماذا كانوا يفعلون، وكيف ماتوا. ستدمرون التاريخ، ستدمرون الفن".
وتساءل سيف ذو الفقار، الذي دُفِنَت عمته الكبرى، الملكة فريدة، أولى زوجات عاهل مصر الملك فاروق، هنا في أحد الأضرحة التي من المقرر هدمها: "ولأجل ماذا؟ ستبني جسراً؟".
مدينة الموتى بالقاهرة تؤوي عشرات الآلاف من الأحياء
والقاهرة ليست الحاضرة الوحيدة التي تزيل المقابر من أجل البنية التحتية العامة، إذ فعلت نيويورك الشيء نفسه كي تنشئ بعضاً من أشهر حدائقها. لكنَّ دعاة الحفاظ على التراث يقولون إنَّ مدينة الموتى في القاهرة مختلفة، فما سيختفي ليس فقط نصباً تاريخية لا يزال المصريون يزورون أجدادهم ويدفنون موتاهم الجدد فيها، بل أيضاً حي نابض بالحياة.
وتم بالفعل هدم أجزاء من المقبرة على مدار العامين الماضيين، وبعض الأضرحة بالفعل باتت لا تعدو كونها مجرد ركام، فنُقِلَت أبوابها الخشبية الأثرية واختفى رخامها.
قالت نبوية (50 عاماً)، وهي إحدى ساكنات المقابر: "إزالة عظام الموتى مخالف للدين. لا ينعم المرء بالراحة حيّاً، ولا ينعم بها ميتاً".
جاء فتحي (67 عاماً) وزوجته، منى (56 عاماً)، وأطفالهما الثلاثة للعيش بجانب مقبرة السيدة نشئة دل قادين، قرينة حاكم مصر في القرن التاسع عشر، الخديو إسماعيل، والذي يُعتَبَر أحد مؤسسي مصر الحديثة. كان والد فتحى وجده يرعيان الضريح الملكي، ونشأ أطفالهما هناك قبل أن يُورِّثاهم وظيفتهما وبيتهما.
وبعدما أطاحت ثورة 1952 المصرية بالملك ودفعت الأرستقراطية المصرية للفرار، سمحت الحكومة للعوام بشراء مدافن داخل الأضرحة القديمة للعائلة وتوقفت عن دفع تكاليف رعاية المقابر.
حصل فتحي على راتبه الحكومي الأخير عام 2013. لكنَّه أسس حياةً كريمة في المقابر: فاستخدمت الأسرة مدخراتها لتجديد مساكنها وإدخال الكهرباء والمياه الجارية. وتمتعت بما تُعتَبَر حديقةً خاصة، وكانت تجفف غسيلها على أحبال تمتد عبر نحو ست مقابر.
الحكومة تعتزم نقلهم إلى مساكن عامة مفروشة في الصحراء
وتعتزم الحكومة نقل السكان إلى مساكن عامة مفروشة في الصحراء. لكنَّ المنتقدين يقولون إنَّ قلة سيكون لديهم الموارد المالية اللازمة لتغطية الدفعة الأولى البالغة قرابة 3800 دولار أو الإيجار الشهري البالغ 22 دولاراً، لا سيما بعدما تنتهي سبل عيشهم مع اختفاء المقابر.
سيذهب الموتى أيضاً إلى الصحراء. فقد طرحت الحكومة مدافن جديدة للعائلات جنوب القاهرة، وهي مقابر طوبية متماثلة أصغر من نظيراتها الأصلية. وهي بالمجان، ولو أنَّه سيتعين على العائلات دفع تكاليف النقل.
يفكر المسؤولون المصريون في هدم المقبرة ونقل سكانها إلى الصحراء منذ سنوات، والهدف من ذلك جزئياً تحديث المدينة وتحسين مستويات المعيشة، وجزئياً– يقول المنتقدون- لأنَّ مطورين عقاريين خاصين يضعون أعينهم على الأرض المقامة عليها.
خلصت جليلة القاضي، وهي مهندسة معمارية تدرس المقبرة منذ عقود، في أوائل الثمانينات إلى أنَّ هنالك نحو 179 ألف ساكن، وهو آخر رقم معروف. وقالت إنَّ كثيرين آخرين انتقلوا إلى هناك بعد ثورة 2011 المصرية، حين أدى الفراغ الأمني إلى تخفيف الإجراءات الأمنية.
وقالت جليلة، متحدثةً عن المسؤولين: "لم يتعاملوا مطلقاً مع العلاقة بين مدينة الأحياء ومدينة الموتى. مثَّل الأمر حرجاً للحكومة. وفي مصر، حين تكون هنالك مشكلة تبدو عصية على الحل، أو يصعب حلها جداً، يكون الحل هو حذفها وحسب".
الأضرحة المسجلة كمعالم سيتم الإبقاء عليها إضافة لقبر أحد أقرباء السيسي
ووفقاً لخالد الحسيني، المتحدث باسم شركة العاصمة الإدارية للتنمية الإدارية، وهي الشركة الحكومية التي تتولى تطوير العاصمة الإدارية، سيتم الإبقاء على الأضرحة المُسجَّلة باعتبارها معالم.
ووفقاً لأنصار الحفاظ على التراث، فإنَّه سيتم استثناء مقابر أخرى، بما في ذلك مقبرة لأحد أقرباء السيسي، وقالوا إنَّه تم تغيير الخطط الحكومية الخاصة بالمقبرة من أجل تجنُّب هدم مقبرة قريبه ذاك، حسبما ورد في الصحيفة الأمريكية.
وأضاف أنصار الحفاظ على التراث أنَّ جزءاً صغيراً فقط من إجمالي المقابر يحمل تصنيف المعلم، وهو ما سيترك هذا الجزء الصغير ليكون بمثابة جزر معزولة بين الإنشاءات الجديدة.
وسينتقل زاهر، كبير الحانوتية، إلى المقبرة الجديدة بجانب الموتى المُهجَّرين. لكنَّه لا يضيع وقته في الحنين. فقال إنَّ هنالك الكثير من سكان المقبرة السعداء لمغادرة المنازل المتواضعة المتهالكة للحصول على شقق جديدة.
وأضاف زاهر مستهجناً: "سيعيشون في شقة بدلاً من العيش في مقبرة".
وقال إنَّ الجسر العلوي الجديد سيُيسِّر المرور أيضاً.
رفات الملكة فريدة نقل بالفعل
شعر أحمد الهلالي، وهو مسؤول بشركة للتطوير العقاري، بالانزعاج خلال قيادته لإحدى الجولات في العاصمة الجديدة بعدما علم أنَّه قد تم فتح قبر الملكة فريدة ونُقِلَ رفاتها إلى مسجد قريب بموجب تصريح حكومي خاص. وكان الهلالي قد سمَّى ابنته تيمناً باسم الملكة.
قال إنَّ الأمر كان محزناً. لكنَّه تجاوزه بعد لحظات.
فأضاف: "ماذا يمكن أن أقول؟ القاهرة شديدة الاكتظاظ. علينا أن نفعل شيئاً لاستعادة مجد القاهرة القديمة، لاستعادة جمال القاهرة القديمة".