مع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، سعى كثير من الأمريكيين لتبنّي أطفال من البلد الذي يتعرض للقصف، فكيف تحوَّل هدف نبيل إلى تحقيق دولي في وجود شبهات اتجار بالبشر، استغلالاً للحرب؟
شبكة CNN الأمريكية نشرت تقريراً عن القصة عنوانه "هرع الأمريكيون لإنقاذ الأيتام الأوكرانيين، لكن إحدى المهمات قادت إلى فتح تحقيق في شبهة الاتجار بالأطفال"، رصد قيام المغني سكوتر براون المقيم في مدينة ناشفيل الأمريكية، التي تقع على بُعد آلاف الأميال من الحرب، بالسعي لإنقاذ وتبني طفل أوكراني.
كان الصبي البالغ من العمر 9 سنوات، والذي بدأ براون وزوجته إجراءات عملية التبني الخاصة به، من بين أولئك الأطفال المختبئين في قبو إحدى دور للأيتام بوسط أوكرانيا، حيث حلّقت 3 صواريخ روسية في سماء المنطقة واصطدمت بقاعدة عسكرية أوكرانية على بعد نحو 60 ميلاً.
استطاع براون، وهو جندي سابق في قوات مشاة البحرية قاتل على الخطوط الأمامية بالعراق في عام 2003، إقناع رفيقه في قوة مشاة البحرية للانضمام إليه لإنجاز مهمة عمل من بولندا، حيث تعاون مع منظمة صغيرة بمدينة ناشفيل يديرها عسكري مخضرم آخر؛ من أجل إنقاذ الطفل المقرر أن يتبناه براون في المستقبل، ومجموعة من الأطفال الآخرين.
شبهات الاتجار بالبشر
محاولة براون تولّي زمام الأمر بنفسه انتهت بكثير من اللغط والالتباس، إذ لم يقتصر الأمر على عودة عائلة براون إلى الولايات المتحدة بدون أطفال فحسب، بل أسفرت مهتمهم لإنقاذ الأيتام العالقين وسط جحيم الحرب عن فتح تحقيق دولي بشأن جريمة اتجار بالأطفال، وهو ادِّعاء أكَّد الزوجان أنَّه لا أساس له من الصحة.
منذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، ظهرت سلسلة من التقارير الصحفية التي تتحدث عن الأمريكيين ذوي النوايا الحسنة الذين يسعون لإنقاذ الأيتام الأوكرانيين بأنفسهم ونقلهم إلى مكان آمن. لكن الخبراء في مجال التبني والعاملين بالمنظمات غير الربحية والمدافعين عن سلامة الأطفال قالوا لشبكة "CNN" الأمريكية إنَّهم قلقون بشأن مآلات هذا الأمر.
وردت تفاصيل عن عدد من تلك المهام المستقلة، بل حدث احتفاء بها في الوسائل الإعلامية. حسبما ورد في تقارير إخبارية، سافر قس ومجموعة من رواد الكنيسة إلى بولندا؛ على أمل نقل أطفال أوكرانيين مؤقتاً إلى ولاية ميسوري الأمريكية. وفي مهمة إنقاذ أخرى، سافرت أم تبلغ من العمر 55 عاماً، إلى أوكرانيا لتأخذ المراهقة التي كانت تنوي تبنّيها قبل الحرب وتعود بها إلى ولاية كنتاكي.
شارك المُشرّع الجمهوري السابق مات شيا، في عملية إنقاذ دراماتيكية لأكثر من 60 طفلاً من دار أيتام بمدينة ماريوبول الأوكرانية المدمرة، لكنه أصبح لاحقاً محل مساءلة وتدقيق بعد أن وصل الأطفال إلى بولندا وتشاجر مع متطوع بولندي شكَّك في دوافعه حيال هؤلاء الأطفال. قد يقرر المدعى العام البولندي الآن فتح تحقيق في هذه المسألة.
قال نايجل كانتويل، الخبير الاستشاري الدولي في مجال سياسات حماية الطفل والذي يعمل في كثير من الأحيان مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف): "ما يحدث هو الدخول إلى منطقة حرب وإخراج أطفال منها. هذا ما أسميه رد الفعل المتهور ويُمثّل مصدر قلق كبير بالنسبة لي فيما يتعلق بسلامة الأطفال".
في المقابل، يقول الآباء الأمريكيون، الذين يُنفّذون تدابير متطرفة في سبيل إخراج أيتام أوكرانيين من ساحة الحرب ونقلهم إلى الولايات المتحدة، إنَّ العديد من هؤلاء الأطفال يفتقرون إلى الرعاية الأبوية ويتوقون إلى الانضمام إلى أسرة والعيش في بيئة مستقرة، حتى ولو بشكل مؤقت.
أين تقع مشكلة اختفاء أطفال أوكرانيا؟
على أي حال، يحذّر خبراء من أنَّ المهمات المستقلة الرامية إلى نقل الأيتام لخارج أوكرانيا قد تُشكّل سابقة تجعل من السهل أن يصبح أطفال آخرون في عداد المفقودين ويتعرضوا في نهاية المطاف للاستغلال أو حتى الاتجار بهم. قال متحدث باسم منظمة "Save the Children"، وهي منظمة إنسانية تساعد الأطفال في أثناء اندلاع النزاعات وحالات الطوارئ الأخرى: "لا توجد بيانات كافية أو أرقام دقيقة، لكن ترد تقارير بالفعل عن حالات اختفاء أطفال بعد عبورهم الحدود".
ويقول خبراء إنَّ بعض المجموعات التي تتجه إلى منطقة الخطر ليست لديها سجلات موثوقة تثبت قدرتها على العمل في مناطق القتال أو رعاية الأطفال. ما هو أكثر من ذلك، وفقاً لوزارة الخارجية الأمريكية، ينتمي بالفعل معظم الأطفال المقيمين في دور الأيتام الأوكرانية إلى آباء أو أقارب لا يزالون الأوصياءَ القانونيين عليهم، لذا فإن التسرّع بإرسال أي شخص إلى الخارج خلال أوقات الاضطرابات ينطوي على خطر فصل هؤلاء الأطفال عن عائلاتهم المباشرة أو الممتدة. وأضافت وزارة الخارجية الأمريكية أنَّ الحكومة الأوكرانية تعلّق سفر الأطفال الأوكرانيين إلى الولايات المتحدة في هذا الوقت.
مارك ديفيس، الذي يدير منظمة غير ربحية تُدعى "Abundance International" تعمل مع العديد من دور الأيتام في أوكرانيا، قال للشبكة الأمريكية: "يجب أن يستقر الوضع. لا يمكنك أخذ طفل واصطحابه ببساطة إلى منزلك". وأضاف ديفيس أنَّ شخصاً ما حاول إقناعه بوضع الأيتام في حافلة ونقلهم عبر الحدود بدون أي خطة بشأن المكان الذي سيمكثون فيه، بينما طلب منه رجلان آخران دفع مبلغ 100 ألف دولار مقابل أخذ مجموعة أيتام إلى جزء آخر من البلاد.
في السياق ذاته، قال آدم بيرتمان، رئيس مجموعة "the National Center on Adoption and Permanency" العاملة في مجال رعاية الطفل، إنَّ "أفضل ممارسة هي إبقاء الطفل بالقرب من محيطه قدر الإمكان والبحث عن أشخاص يعرفونه، لأنَّك لا تستطيع معرفة ما إذا كان أحد الوالدين أو الأقارب لا يزال على قيد الحياة في خضم حرب مثل هذه".
من جانبها، قالت تيريزا فيلمون، المديرة التنفيذية لمؤسسة خيرية أوكرانية تعمل مع الأيتام تُدعى "His Kids Too"، إنَّها تعرف أماً أوكرانية تركت مؤقتاً ثلاثة من أطفالها الأربعة في منشأة، لأنَّها شعرت بالخوف والارتباك. قضت تيريزا -التي تقسم وقتها بين أوكرانيا وفلوريدا- عدة أيام تحاول الوصول إلى الأم؛ لإخبارها بأنَّ منظمة مُضيفة كانت تبحث عن الأطفال الثلاثة؛ لإرسالهم إلى عائلات في الولايات المتحدة.
وأضافت تيريزا، التي تعمل مؤسستها الخيرية في أوكرانيا منذ عام 1998، أنها لم تستطع تعقُّب الأطفال أو الوصول إلى الأم، مشيرة إلى أنَّها تخطط للسفر إلى أوكرانيا بنفسها؛ "لمعرفة ما يحدث". قالت فيلمون عن الأم: "إنها أميّة لا تستطيع القراءة والكتابة. لكن هذا لا يعني إبعاد أطفالها عنها".
تعليق عمليات تبني الأطفال من أوكرانيا
كانت الحكومة الأوكرانية المحاصرة -التي تكافح من أجل البقاء، فضلاً عن تتبُّع آلاف الأيتام النازحين- قد علَّقت عمليات التبني الدولية في منتصف شهر مارس/آذار، مشيرة إلى القلق من أنَّ ظروف الحرب تجلب معها خطر الاستغلال أو الاتجار بالأطفال.
وعلى مدى عقود من الزمان، كانت روسيا وجهة للتبني بالنسبة للعائلات الأمريكية. لكن في أواخر عام 2012، صدَّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على قانون يمنع المواطنين الأمريكيين من تبني أطفال روس. تراجعت حالات التبني الأمريكي لأطفال روس بشكل مطرد منذ ذلك الحين. تحوّل التبني الأمريكي الآن إلى أطفال أوكرانيا، بسبب الهجوم الروسي على البلاد.
يبدو للوهلة الأولى أنَّ أوكرانيا لديها مجموعة كبيرة من الأطفال القابلين للتبني. قال متحدث باسم "اليونيسف" لشبكة "CNN" الأمريكية، إنَّ عدد الأطفال الأوكرانيين المقيمين في دور الأيتام وغيرها من مرافق الرعاية يصل إلى 100 ألف طفل، وهو أعلى رقم في أوروبا قبل اندلاع الحرب".
لكن معظمهم ليسوا أيتاماً بالمعنى الحرفي للكلمة، كما أشار الخبراء، لأنَّ لديهم صلات عائلية أو أوصياء قانونيين. يعيش كثير من الأطفال في دور الأيتام؛ لتلقي رعاية متخصصة للإعاقات الطبية أو غيرها من الاحتياجات التي لا يستطيع أسرهم تلبيتها.
في هذا الصدد، قالت تيريزا فيلمون، المديرة التنفيذية لمؤسسة "His Kids Too" الخيرية الأوكرانية: "الواقع ليس كما لو أنَّ العائلات تخلّت عن أطفالها وألقت بهم في دور الأيتام. إنَّهم يحبون أطفالهم، لكنهم لا يستطيعون الاعتناء بهم في تلك الفترة المعيّنة فقط، وهذا ليس سبباً يجعل بعض الأمريكيين ينقضُّون عليهم ويأخذونهم".
يقول بعض الآباء بالتبني إنَّ هناك أيتاماً أوكرانيين تخلَّت عنهم أُسرهم لسنوات، وهم بحاجة ماسة إلى رعاية أسرة بديلة. كانت كولين طومسون وزوجها ديفيد، من ولاية كنتاكي، يناضلان على مدار 3 سنوات مع الإجراءات البيروقراطية؛ من أجل تبني فتاة مراهقة تدعى مور. وكانت إجراءات عملية التبني على وشك الانتهاء في أوائل مارس/آذار، لكن جرى تعليقها بسبب الحرب. قررت كولين، البالغة من العمر 55 عاماً، الذهاب إلى أوكرانيا؛ في محاولة مستقلة لإنجاز عملية التبني بنفسها حتى يتسنى لها إحضار مور إلى الولايات المتحدة لتعيش وسط أسرة لديها طفلان بيولوجيان و6 متبنِّين، جميعهم من أوكرانيا.
سافرت كولين إلى أوكرانيا، وروت لشبكة "CNN" من منزل إحدى صديقاتها، أنَّه في جلسة التبني المنعقدة في مدينة لفيف غربي أوكرانيا أواخر مارس/آذار، سأل القاضي المراهقة عما إذا كان لديها أي أقارب، فأجابت مور: "ليس لديّ أحد".
قالت كولين طومسون، وهي مديرة تسويق سابقة وتتطوع الآن مع منظمات أمريكية غير ربحية لخدمة الأيتام الأوكرانيين، إنَّ القاضي أرجأ اتخاذ قرار في تلك الجلسة، وفعل ذلك مرة أخرى يوم الإثنين 18 أبريل/نيسان؛ حتى يخاطب الحكومة الأوكرانية.
رفضت وزارة الخارجية الأمريكية التعليق على المحاولات المستقلة من مواطنين أمريكيين لنقل أيتام أوكرانيين إلى الولايات المتحدة، متذرِّعة بأسباب تتعلق بالخصوصية. لكن متحدثاً رسمياً باسم وزارة الخارجية أشار في تصريح لشبكة "CNN"، إلى أنَّ "الخارجية الأمريكية ترفض مهام الإنقاذ التطوعية".
خطط "مشبوهة" وتحقيق في ليتوانيا
استضاف سكوتر براون وزوجته، فيكي، الصبي الأوكراني البالغ من العمر 9 سنوات، خلال عطلة عيد الميلاد في العام الماضي، مؤكدَين أنَّهما أدركا في غضون أيام قليلة رغبتهما في انضمامه إلى العائلة.
قال الزوجان إنَّهما بدآ إجراءات عملية التبني في يناير/كانون الثاني. لكن عندما سمعوا نبأ الهجوم الروسي الوشيك، قرَّرا على الفور الاستعانة بالخلفية العسكرية لبراون؛ حتى يضعا خطة لإحضار الصبي إلى الولايات المتحدة مع أربعة أطفال آخرين استضافهم أصدقاؤهم سابقاً.
قالت فيكي: "كانت خطتي الأصلية هي الانضمام إلى هؤلاء الأبطال الجامحين؛ لكي نحضر الأطفال الخمسة إلى الولايات المتحدة لينعموا بالأمان حتى تهدأ الحرب".
علم سكوتر عندما وصل إلى بولندا نهاية شهر فبراير/شباط، أنَّ جوازات سفر الأطفال موجودة في شقة فارغة بالعاصمة الأوكرانية، كييف، حيث كان القصف الروسي مستمراً. كانت المرأة التي سهَّلت برنامج الاستضافة من دار الأيتام، قد تركت جوازات السفر في الشقة عندما أخلتها للاحتماء في قبو من القصف. لذا، خطَّط سكوتر وأصدقاؤه لأن يذهب أحدهم إلى الشقة ليُحضر جوازات السفر ويسلّمها إلى المرأة في القبو. بمجرد نجاح سكوتر في تأمين جوازات السفر، حانت خطوة الذهاب لأخذ الأطفال الخمسة من دار الأيتام في وسط أوكرانيا. هنا، انهارت الخطة.
روى مدير دار الأيتام، أولكسندر لوبانوف، ما حدث بعد ذلك، في مقابلة مع شبكة "CNN" الأمريكية، قائلاً إنَّ صاحب منتجع ليتواني عرض استضافة الأطفال في منتجعه وأرسل حافلة لنقلهم، في الوقت نفسه الذي تحرَّك فيه سكوتر إلى دار الأيتام لأخذ الأطفال الخمسة.
عندما وصلت الحافلة إلى المنتجع، قال لوبانوف إنَّه علم بوجود خطة مشبوهة من صاحب المنتجع الليتواني لنقل العديد من الأطفال إلى الولايات المتحدة. وأضاف لوبانوف أنَّ السلطات الليتوانية أخطرته بعد فترة وجيزة، بأنَّه موضع تحقيق؛ لمحاولته بيع أطفال إلى فيكي، وهو ادعاء نفاه بشدة.
ورداً على سؤال بشأن هذا التحقيق، قال الزوجان، براون وفيكي: "لم يظهر أي دليل، على الإطلاق، يشير إلى وجود جريمة اتجار بالأطفال"، مؤكدَين أنَّ جهودهما بدأت قبل أن تصدر الحكومتان الأوكرانية والأمريكية قراراً بتعليق عمليات الاستضافة والتبني.
في الوقت نفسه، أشار لوبانوف إلى عدم وجود سبب لفتح تحقيق، وأعرب عن غضبه بسبب تولّي الحكومة الليتوانية حضانة الأطفال ومنعهم من المغادرة، قائلاً إنَّه يشعر بالقلق، لأنَّ الأطفال أبلغوه برغبتهم في مغادرة ليتوانيا وأنهم لا يأكلون جيداً ويتعرضون للاستجواب باستمرار.
من جانبها، صرَّحت الوكالة الحكومية المعنية بحماية حقوق الطفل في ليتوانيا، لشبكة "CNN"، إنَّ الأطفال آمنون وسيبقون في ليتوانيا حتى يصبح الوضع آمناً بأوكرانيا؛ لإعادتهم بسلام إلى الوطن.
قالت متحدثة باسم الوكالة الحكومية الليتوانية: "ثمة شكاوى ومزاعم بشأن أعمال عنف محتملة واتجار بالبشر ضد مجموعة مكوّنة من 43 طفلاً أوكرانيّاً، وهناك اشتباه في وجود خطة لنقل الأطفال إلى دولة ثالثة بغرض تبنيهم. أبلغنا سلطات إنفاذ القانون بهذه الاحتمالية، ومن ثمَّ هناك تحقيق في هذه القضية".
أعلن مكتب المدعي العام الليتواني، في بيان، أنَّه "وفقاً للمعلومات المتاحة حالياً، كان من المقرر نقل بعض هؤلاء الأطفال إلى دولة أخرى بزعم إقامة عائلية مؤقتة، لكن ثمة دلائل تشير إلى وجود نية لتبنِّيهم هناك".
يقول براون: "ربما كان من المفترض التحلّي بالصبر والانتظار وقتاً أطول قبل اتخاذ قرار إنجاز الأمر بأنفسنا. لكن أصبنا بحالة من الذعر، وبدا الأمر كأنَّه وضع (حياة أو موت)". وقالت زوجته فيكي: "شعرت حقاً بأنَّه إذا لم أفعل أنا ذلك، فمَن سيفعل؟ أردت أن أكون هناك من أجله ولكي يعرف أنَّه آمن وأنَّنا نحبه. أردت أن يرى أنَّنا جئنا من أجله".