تسبب إعلان الصين وجزر سليمان توقيع اتفاقية أمنية في زلزال جيوسياسي تردد صداه في أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وباقي العواصم الغربية، فما قصة الاتفاق؟ ولماذا تحولت الجزر إلى نقطة صدام لم تكن متوقعة؟
جزر سليمان Solomon Islands هي أرخبيل يتكون من نحو 990 جزيرة تشكل معاً دولة عاصمتها هونيارا، وتقع في جنوب المحيط الهادئ على بعد أقل من 2000 كلم من الساحل الشرقي لأستراليا، ويبلغ عدد سكان الأرخبيل نحو نصف مليون نسمة ومساحة الجزر مجتمعة نحو 82450 كلم2.
وكانت جزر سليمان، التي تتبع التاج البريطاني كإحدى دول الكومنولث، قد تصدرت الأحداث عالمياً خلال نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، حين اندلعت فيها أحداث شغب وأحرقت مبانٍ حكومية، على خلفية إدارة الحكومة لأزمة الوباء وملفات أخرى.
جزر سليمان ملعب غربي خالص
دولة تابعة للتاج البريطاني حاكمها يستمد سلطته من الملكة إليزابيث الثانية، وتتمتع بعلاقات وثيقة مع أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، يعني أن جزر سليمان ملعب غربي خالص، وموقعها الاستراتيجي في جنوب المحيط الهادئ يجعلها كنزاً من الصعب التفريط فيه.
وخلال أحداث الشغب التي شهدتها الجزر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تعرضت المصالح الصينية لهجمات، بينما استعانت حكومة الجزر بقوات مكافحة الشغب من أستراليا لاستعادة الأمن والهدوء، وهو ما يعكس مدى قرب جزر سليمان من المعسكر الغربي.
فجزر سليمان تخضع لسلطة الملكة إليزابيث الثانية وباسمها يحكم ديفيد فوناغي، الحاكم العام، بينما يرأس الحكومة هناك ماناسيه سوغافاري، الذي اندلعت ضده الاحتجاجات في نوفمبر/تشرين الثاني، مطالبة إياه بالاستقالة.
وقبل 3 أشهر فقط من تلك الاحتجاجات، أي في أغسطس/آب 2021، انتشرت شائعات حول وجود مفاوضات "سرية" بين حكومة سوغافاري والحكومة الصينية لتوقيع اتفاقية أمنية بين بكين وهونيارا، وسط تأرجح دبلوماسية جزر سليمان الخارجية بين تايوان والصين، وصراع أوسع بين بكين وواشنطن هناك.
جزيرة مالايتا، إحدى أقاليم جزر سليمان الرئيسية، كانت تجري مناقشات حول خطط مع واشنطن لتطوير ميناء في أعماق البحار، بينما تتابع المصالح الصينية خطط التنمية في جزيرة غوادالكانال الرئيسية حيث تقع العاصمة، في مشهد يعكس انقسام البلاد بين الصين والدول الغربية.
وظهر هذا الانقسام بشكل واضح خلال أحداث الشغب التي شهدتها الجزر، حيث عبرت سفارة بكين هناك عن قلقها البالغ من تطورات الأحداث في البلاد، وتعرض الحي الصيني في هونيارا لأعمال شغب، وذكرت في بيان أنها "طلبت من جزر سليمان اتخاذ كافة التدابير الضرورية لتعزيز حماية المؤسسات الصينية والأفراد".
وبحسب تحليل لوكالة الأنباء الفرنسية، فإن استياء جزء من السكان في جزر سليمان من النفوذ المتزايد للصين كان أحد أسباب "تغذية" الاحتجاجات الدموية، وتعرضت شركات مملوكة لصينيين للتخريب والحرق في هونيارا، ومنذ ذلك الحين، سعت بكين التي أرسلت مدربين للشرطة ومعدات لمكافحة الشغب، إلى تعزيز وسائل حفظ الأمن في الجزيرة.
رئيس الوزراء سوجافاري واجه أيضاً انتقادات لرغبته في إقامة علاقات أقوى مع الصين بعد أن قطع فجأة العلاقات التي أقيمت منذ فترة طويلة مع تايوان في 2019. وتعارض الصين أي اعتراف دبلوماسي بتايوان التي تعتبرها جزءاً من أراضيها، وتعتبر ذلك شرطاً أساسياً مسبقاً لإقامة علاقات دبلوماسية مع أي دولة.
شائعات الاتفاق تتحول إلى "كابوس" للغرب
الشائعات حول وجود مفاوضات سرية بين هونيارا وبكين، والتي انطلقت الصيف الماضي، تحولت إلى وثيقة مسربة على الإنترنت أواخر مارس/آذار الماضي، وأثارت جدلاً واسعاً داخل جزر سليمان وأستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة وباقي العواصم الغربية.
مسودة الاتفاق التي تم تسريبها تضمنت مقترحات تجيز نشر قوات من الشرطة والبحرية الصينية في جزر سليمان، وهو ما زاد من قلق كانبيرا من إمكانية بناء الصين قاعدة بحرية في جنوب المحيط الهادئ من شأنها أن تسمح لبكين بنشر قواتها البحرية خارج حدودها في منطقة المحيط الهادئ.
صحيفة الغارديان البريطانية تناولت قصة الاتفاق الأمني في تحليل عنوانه "الاتفاق الذي صدم العالم: داخل الاتفاقية الأمنية بين الصين وجزر سليمان"، رصد وجهة النظر الغربية في مدى خطورة توسيع الصين نفوذها في إحدى الدول ذات الموقع الاستراتيجي في المحيط الهادئ.
ولا تزال بنود الاتفاقية الأمنية غير معلنة بشكل رسمي، وبالتالي فإن الحديث يتركز على تلك المسودة التي تم تسريبها، والتي لا تحمل بنوداً صريحة تنص على قيام الصين بإنشاء "قاعدة بحرية" على أراضي جزر سليمان، لكن زعيم المعارضة في الأرخبيل، ماثيو ويل، قال للصحيفة البريطانية إن اللغة "المطاطة" للاتفاقية تثير المخاوف من أن كل شيء أصبح متاحاً لبكين.
ومساء الثلاثاء 19 أبريل/نيسان، قطعت الصين الشك باليقين وأعلنت أنها وقعت اتفاقاً أمنياً واسعاً مع جزر سليمان؛ إذ صرح وزير الخارجية الصيني وانغ وينبين الثلاثاء بأن "وزيري خارجية الصين وجزر سليمان وقعا مؤخراً اتفاق إطار للتعاون في مجال الأمن". وأضاف مدافعاً عن النص أنه "تعاون طبيعي بين دولتين مستقلتين وتتمتعان بالسيادة". وتابع أن الاتفاق سيدعم "الاستقرار على الأمد الطويل" في جزر سليمان.
هذا الإعلان، الذي وصفته وسائل إعلام غربية بالصدمة، جاء على الرغم من المساعي المكثفة التي بذلتها أستراليا والولايات المتحدة ونيوزيلندا ودول غربية أخرى خلال الأسابيع القليلة الماضية لإقناع سوغافاري، رئيس وزراء الأرخبيل، بعدم المضي قدماً في تلك الاتفاقية.
إذ التقى وزير أسترالي الأسبوع الماضي مع سوجافاري في هونيارا وطلب منه عدم التوقيع على الاتفاقية المقترحة، بحسب رويترز. وانتقدت أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة وبعض الدول المجاورة الاتفاقية باعتبارها تقويضاً للاستقرار الإقليمي. وأثارت الاتفاقية مخاوف بين أستراليا ونيوزيلندا حليفتي الولايات المتحدة بشأن النفوذ الصيني في المنطقة.
وقالت بكين، الأسبوع الماضي، إن العلاقات الأمنية بين الصين والدولة الواقعة في المحيط الهادئ لا تستهدف أي طرف ثالث ولا تتعارض مع التعاون الذي تقيمه جزر سولومون مع الدول الأخرى.
وأكد سوغافاري الشهر الماضي أن الاتفاق الأمني مع بكين يجري إعداده لكنه نفى وجود خطط لبناء قاعدة بحرية. في الأسابيع الأخيرة كثفت أستراليا والولايات المتحدة الجهود الدبلوماسية لثني جزر سليمان عن التقرب من بكين.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس الإثنين: "نعتقد أن توقيع اتفاق كهذا يمكن أن يؤدي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار داخل جزر سليمان وأن يشكل سابقة مقلقة لمنطقة جزر المحيط الهادئ برمتها".
وفي الوقت نفسه، أعلنت الولايات المتحدة إرسال وفد دبلوماسي رفيع المستوى في جولة في المحيط الهادئ، على أن تُعطى لجزر سليمان أولوية لمواجهة طموحات بكين. والأسبوع الماضي، أرسلت كانبيرا وعلى نحو غير معهود وزير منطقة المحيط الهادئ زيد سيسيليا إلى هونيارا لعقد اجتماع مع رئيس وزراء الجزيرة.
هل تقيم الصين "قاعدة بحرية" فعلاً؟
الوثيقة التي تم تسريبها لا تحوي نصوصاً مباشرة تعطي بكين امتياز تأسيس قاعدة بحرية في جزر سليمان، لكن كثيراً من الدبلوماسيين والسياسيين المحللين والغربيين عموماً عبروا عن قلقهم البالغ من "السرية" التي واكبت الاتفاقية في جميع مراحل التفاوض بشأنها وحتى بعد الإعلان عن توقيعها بالأحرف الأولى، حيث لم يتم نشرها بشكل رسمي.
وقال وزير دفاع نيوزيلندا بيني هيناري ونظيره الأسترالي بيتر داتون إن مسودة الاتفاق "فاجأتهما تماماً": "لقد تفاجأنا لأن المعلومات الاستخباراتية التي وصلتنا لم تكن حتى تتوقع ما تم الكشف عنه في مسودة الاتفاق المسربة. كنا ندرك أن هناك تحديات فيما يتعلق بالصين، لكن مسودة الاتفاق فاجأتني، على أقل تقدير، والأمر نفسه ينطبق على الوزير داتون"، بحسب ما نقلته الغارديان عن الوزير النيوزيلندي.
وقال المفوض السامي السابق الأسترالي لدى الأرخبيل جيمس باتلي إن "السرية" بشأن الاتفاقية الأمنية أمر متوقع: "حكومة جزر سليمان تدرك نوعية رد الفعل التي ستحدث في أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها من الدول الغربية، لذلك أعتقد أنهم قرروا إنهاء الاتفاقية قبل أن تصبح علنية".
لكن بحسب ما قاله ويل، زعيم المعارضة في جزر سليمان، لا يفترض أن تشعر الحكومة الأسترالية بالصدمة، لأن ويل حاول تحذير المفوض السامي لأستراليا لاتشي ستراهان، خلال لقاء جمعهما في أغسطس أو سبتمبر العام الماضي. لكن وزارة الخارجية الأسترالية رفضت رواية ويل وأصدرت بياناً قالت فيه إن قصة الاتفاقية الأمنية لم يُثرها زعيم المعارضة في جزر سولومون من الأساس قبل تسريب مسودة الاتفاقية.
وتعليقاً على النص المسرب للاتفاقية، قال جيمس باتلي للغارديان: "يبدو من النص المسرب كما لو أنه لم تحدث مفاوضات من الأساس، بل تمت الصياغة بشكل كامل في بكين وتم إرسالها لجزر سليمان بغرض التوقيع". بينما كان سوغافاري قد قال أمام البرلمان أثناء الإعلان عن توقيع الاتفاقية: "دعوني أطمئن الناس أننا دخلنا الاتفاقية مع الصين بأعين مفتوحة تماماً ولا يرشدنا سوى مصالحنا القومية".
وبشكل عام يبدو أن نقطة القلق الرئيسية بالنسبة لأمريكا وأستراليا ونيوزيلندا هي أن الاتفاقية الأمنية تفتح الباب أم الصين لإقامة "قاعدة بحرية" في جزر سليمان على مسافة نحو 2000 كلم من الساحل الشرقي لأستراليا؛ إذ يسمح مشروع الاتفاقية المقترح "للسفن الصينية بالقيام بزيارات إلى وتنفيذ تحركات لأغراض لوجستية والتوقف أو الانتقال عبر جزر سليمان".
"هذه النقطة بالتحديد تمثل أبرز نقاط القلق لأستراليا"، بحسب ما قاله باتلي، مضيفاً: "مصطلح (قاعدة بحرية) يمثل تلخيصاً لقلق استراتيجي وجيوسياسي لدى أستراليا، أصبح الآن مبرراً تماماً. وبالنسبة لأستراليا تُعتبر هذه الاتفاقية كابوس استراتيجي، والأمر نفسه ينسحب على باقي دول المنطقة والولايات المتحدة".
ويبدو أن هذا ليس غائباً عن تفكير رئيس الوزراء سوغافاري نفسه؛ إذ يسعى طول الوقت للتخفيف من قلق الغرب بشأن هذه النقطة تحديداً، وقال إن توقيع الاتفاقية الأمنية لا يعني إنشاء قاعدة بحرية صينية في الأرخبيل، لكن يظل السؤال الآن: هل تتحول جزر سليمان إلى نقطة صدام غير متوقعة بين بكين وواشنطن؟