زيارة فريق تنس الطاولة الأمريكي إلى الصين أطلقت مصطلح دبلوماسية "البينغ بونغ"، لكن تزامنت معها أيضاً قصة التبادل الثقافي التي ألهمتها موسيقى بيتهوفين، فما تفاصيل دبلوماسية الموسيقى التي غطت عليها الحرب الباردة بين بكين وواشنطن حالياً؟
"دبلوماسية البينغ بونغ" مصطلح يرجع إلى عام 1971، ويشير إلى سلسلة من الأحداث تمحورت حول الزيارات المتبادلة بين فريق كرة الطاولة (البينغ بونغ) لجمهورية الصين الشعبية وفريق كرة الطاولة للولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت الخطوات الأولى على درب تخفيف التوتر في العلاقات الصينية-الأمريكية.
وكانت البداية من الدورة الـ31 من بطولة العالم لكرة الطاولة، والتي أقيمت في ناغويا باليابان في الفترة ما بين مارس/آذار وأبريل/نيسان 1971، وأتاحت البطولة ظروفاً مواتية لإجراء اتصالات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، ولم تكن هناك علاقات دبلوماسية مباشرة بينهما بعد.
وأجرى فريقا البلدين تفاعلات ودية على هامش المباريات. وأدرك الرئيس الصيني ماو تسي تونغ أن ذلك يعد فرصة سانحة لتعزيز الاتصالات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فقرر دعوة فريق كرة الطاولة الأمريكي لزيارة الصين. وما إن تلقت حكومة نيكسون هذه الدعوة، حتى أعربت عن قبولها فوراً. وفي الفترة ما بين 10 و17 أبريل/نيسان عام 1971، توجه وفد من جمعية كرة الطاولة الأمريكية مكون من 9 لاعبين ومسؤولين إلى بكين، حيث حظي باستقبال حارّ من رئيس مجلس الدولة الصيني شو أن لاي. وفي 11 أبريل/نيسان 1972، قام فريق كرة الطاولة الصيني بزيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية تلبية لدعوة من الجانب الأمريكي.
تمكنت "دبلوماسية البينغ بونغ" من وضع حدّ لانقطاع تبادل الأفراد بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية الذي دام أكثر من عشرين عاماً، وحققت اختراقاً تاريخياً على نهج المصالحة بين البلدين، كما دفعت بعملية تطبيع العلاقات الصينية- الأمريكية قدما، وأسرعت خطى توجه الصين الجديدة إلى العالم.
أوركسترا فيلادلفيا في الصين
لكن في تلك الفترة لم تكن كرة الطاولة أو البينغ بونغ فقط تمثل جسراً هاماً على طريق الانفتاح بين بكين وواشنطن، إذ نشرت صحيفة The Observer البريطانية تقريراً عنوانه: "كيف ألهمت موسيقى بيتهوفن 50 عاماً من التبادل الثقافي بين الولايات المتحدة والصين"، رصد القصة التي لم تحظَ بنفس الزخم الإعلامي على أهميتها في كسر الجمود بين الشعبين.
وبحسب تقرير الصحيفة البريطانية، كان 1973 عاماً زاخراً بالنسبة لتان دن، الموسيقي الصيني الحائز على جائزة الأوسكار ومؤلف الموسيقى التصويرية لفيلم "Crouching Tiger، Hidden Dragon"، إذ كان تان دن مراهقاً عندما أرسل في خريف عام 1973، حيث ذروة الثورة الثقافية، إلى منطقة ريفية في مقاطعة هونان لزراعة الأرز. ذات يوم في الحقل سمع تان دن صوتاً صادراً من مكبر صوت.
قال أحد الأصدقاء لتان دن: "هل تريد سماع بعض الموسيقى الرائعة؟ هذه تسمى "سيمفونية"، مضيفاً أنَّ "أوركسترا فيلادلفيا الأمريكية موجودة في الصين". كانت هذه المرة الأولى التي يسمع فيها تان دون عن "أوركسترا سيمفونية"، قائلاً: "كان الصوت مذهلاً. أعتقد أنَّها موسيقى السيمفونية السادسة أو الخامسة لبيتهوفن".
حتى ذلك الحين لم يكن تان دن يعرف مطلقاً عن بيتهوفن أو موتسارت، لكنَّه تأثر بشدة بالأداء الموسيقي الصادر من مكبر الصوت. عندما عاد تان دن إلى المنزل أخبر جدته برغبته في معرفة المزيد عن هذا النوع من الموسيقى، لتبدأ حينها رحلة مستقبله، على حد تعبيره.
إنَّ قصة التجربة المثيرة لأوركسترا فيلادلفيا في الصين ليست معروفة بقدر قصة "دبلوماسية كرة الطاولة" بين الولايات المتحدة والصين، التي حدثت قبل ذلك بعامين، لكن الجولة الفنية لأوركسترا فيلادلفيا في جمهورية الصين الشعبية، والتي استغرقت أسبوعين في عام 1973، كانت بمثابة بداية خمسة عقود من التبادلات الشعبية بين البلدين، وهو وضع يتعرّض الآن للتهديد مع تصاعد التوترات الجيوسياسية.
كواليس اختيار السيمفونيات
كانت جولات هذه الفرقة الموسيقية الأمريكية في الصين موضوعاً لفيلم وثائقي مدته 90 دقيقة، بعنوان "بيتهوفن في بكين"، ومن إخراج الصحفية السابقة المخضرمة جينيفر لين. وثمة كتاب عن هذه الرحلة نُشر بنفس العنوان في وقتٍ لاحق من هذا الشهر.
قالت جينيفر لصحيفة "the Observer" البريطانية: "هذا فصل مهم في تاريخ العلاقات الصينية-الأمريكية. إنَّه تذكير للصينيين والأمريكيين بقدرة الموسيقى على بناء جسور تواصل على الرغم من اختلاف اللغة".
بعد عام من زيارة ريتشارد نيكسون التاريخية لبكين، في فبراير/شباط 1972، عَلِم الدبلوماسي الأمريكي، هنري كيسنجر، من القادة الصينيين أنَّهم يرغبون في دعوة أوركسترا فيلادلفيا إلى الصين. اتصل نيكسون بقائد الفرقة الموسيقية الأمريكي المجري، يوجين أورماندي، الذي شعر على الفور بأنَّ ثمة تاريخ يتشكَّل في هذه المرحلة. وافق أورماندي على قبول الدعوة، قائلاً: "هذا أمر رائع، هذا شرف لي وللأوركسترا".
كانت أوركسترا لندن الفيلهارمونية هي أول أوركسترا سيمفونية غربية تقدم عرضاً في الصين. في ذلك العام كان رئيس وزراء جمهورية الصين الشعبية، تشو إنلاي، يفكر في وسائل من شأنها تغيير النظرة الصينية للولايات المتحدة، التي أدينت على مدى أكثر من عقدين بوصفها "رأسمالية مصاصة للدماء". في الوقت نفسه، تعرضت أيضاً الثقافة الغربية الراقية للسبّ والازدراء باعتبارها "ثقافة برجوازية". كانت موسيقى موتسارت وبيتهوفن محظورة في الصين منذ بداية ثورتها الثقافية عام 1966.
كلَّف الرئيس نيكسون الدبلوماسي الأمريكي، نيكولاس بلات، البالغ من العمر الآن 86 عاماً، بالتفاوض مع الصينيين بشأن العروض الموسيقية التي ينبغي تقديمها والأشخاص أو الجهات المفترض أن تجتمع بها الأوركسترا أثناء وجودها في الصين. سافر بلات مع الرئيس وكيسنجر إلى الصين عام 1972. وفي عام 1973، طُلب منه افتتاح أول مكتب اتصال أمريكي في بكين، والذي أصبح فيما بعد السفارة الأمريكية.
قال بلات، متذكراً شهور المفاوضات مع بكين قبل الرحلة، "تناقشنا طويلاً مع وزارة الخارجية الصينية في كافة تفاصيل الزيارة وتفاوضنا على العروض الموسيقية المفترض تقديمها كما لو كانت معاهدات سياسية. لقد كان عملاً شاقاً وشائكاً للغاية لأنَّ جيانغ كينغ، زوجة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، كانت صارمة للغاية بشأن ما ينبغي تقديمه وما يجب تجنّبه، وكذلك كان يوجين أورماندي".
هل غيرت الموسيقى مسار التوجه الصيني؟
رُفض على الفور تقديم القصيدة السيمفونية "دون جوان" للملحن الألماني، ريتشارد شتراوس، ووصفت سيمفونية "Afternoon of a Faun" للمؤلف الموسيقي الفرنسي، كلود ديبوسي، بأنَّها "منحطة وشهوانية"، لكن القادة الصينيين أحبوا موتسارت وشوبرت لأنَّهم اعتبروهما "محايدين سياسياً". استمرت المناقشات حتى بعد وصول أوركسترا فيلادلفيا الأراضي الصينية في خريف عام 1973.
ووفقاً للدبلوماسي الأمريكي، نيكولاس بلات، كان أكبر تغيير في القائمة الموسيقية النهائية هو أداء السيمفونية السادسة لبيتهوفن، إذ لطالما أراد الصينيون إدراجها، في حين لم يكن قائد الأوركسترا، يوجين أورماندي، متحمساً لذلك.
تتذكر تسوي تشوبينغ، التي كانت عازفة كمان شابة في أوركسترا الصين الفيلهارمونية، اللحظة التي سمعت فيها أوركسترا فيلادلفيا في الصين. قالت تسوي: "كان صوتهم رخيماً ومُطرِباً على نحوٍ مميز لم أسمعه من قبل".
انتهت الثورة الثقافية في عام 1976 بوفاة الزعيم ماو تسي تونغ. في العام التالي أحيت أوركسترا الصين الفيلهارمونية الذكرى السنوية الـ150 لوفاة بيتهوفن، من خلال أداء سيمفونيته الخامسة، وبثَّ هذا الحفل الموسيقي في جميع أنحاء البلاد، وهو ما جعل البعض يعتقد أنَّ هذه نهاية حقيقية لعشر سنوات من القلاقل والاضطرابات السياسية التي شهدتها الصين، بعد ذلك شرعت البلاد في مسار مختلف.
قال بلات: "فتحت تلك الرحلة آفاقاً جديدة في علاقتنا بدأت بالتبادل الثقافي وأطلقت العنان أيضاً لمجموعة كاملة من الروابط الأخرى بين الولايات المتحدة والصين، بدايةً من التجارة إلى الدبلوماسية. دشَّنت هذه الرحلة بداية كل شيء".
كانت آخر رحلة لأوركسترا فيلادلفيا إلى الصين في عام 2019، قبل تفشي فيروس كوفيد-19، لكن الفرقة الموسيقية حافظت على تواصلها مع الصينيين طوال فترة الجائحة.
قالت جينيفر لين: "تربط الموسيقى بين الشعوب حالياً، وهذا ما كان يحدث أيضاً في عام 1973. على الرغم من تآكل العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة والصين، فإنَّ روابطنا الموسيقية أقوى من أي وقت مضى".
وُجّهت دعوة إلى تان دن -الذي أصبح الآن مؤلفاً موسيقياً شهيراً- لتقديم حفلات موسيقية في فيلادلفيا عام 2004. تحدث المؤلف الموسيقي الصيني إلى الجمهور عن اللحظة التي سمع فيها موسيقى أوركسترا فيلادلفيا صادرة من مكبر صوت في ريف الصين عام 1973، قائلاً: "هذه أول أوركسترا أسمعها في حياتي، كانت صادرة من مكبر للصوت، لكن هذه الموسيقى غيّرت حياتي، بل أنتم جميعاً في الواقع".