تشكَّلَت في أعقاب الثورة البلشفية، وبعد أن اكتسبت سمعةً قوية تحت اسم "الكي جي بي" خلال الحرب الباردة، كان يُنظَر إلى وكالة الاستخبارات الروسية باعتبارها الذراع اليمنى القاسية للكرملين عبر تعاقب القادة، من ستالين إلى الرئيس الحالي بوتين.
ومع ذلك، كشفت الحرب في أوكرانيا عن انقسامات في النخبة الأمنية في موسكو، وأصبح جهاز الأمن الفيدرالي وبوتين غير راضين بشكل متزايد عن تعامل كل منهما مع الصراع، حسبما يزعم خبير في الاستخبارات الروسية في حديثه لصحيفة The Times البريطانية.
التايمز: انقسامات داخل المؤسسة الاستخباراتية الروسية
يقول أندريه سولداتوف، الصحفي الاستقصائي ومؤلف كتب عن وكالات استخبارات الكرملين، إنه في حين أن مكتب الأمن الفيدرالي دعم الحرب بشكل عام "إلا أنهم يرون أن الأمور لا تسير على ما يرام".
وأضاف: "إنهم يلقون باللوم على المعلومات الاستخباراتية السيئة، وبالطبع بوتين نفسه، لشن الحرب بالطريقة التي قام بها. الآن لديّ شعورٌ بأن الأجهزة الأمنية تحاول إبعاد نفسها عن القائد الأعلى للقوات المسلَّحة".
تقول الصحيفة البريطانية، إن الجنرال سيرغي بيسيدا، 68 عاماً، رئيس الخدمة الخامسة في مكتب الأمن الفيدرالي الروسي، والمسؤول عن جمع المعلومات الاستخباراتية في الاتحاد السوفييتي السابق، أُرسِلَ إلى سجن ليفورتوفو في موسكو هذا الشهر، بعد أسابيع من وضعه قيد الإقامة الجبرية.
كُشِفَ عن اعتقال بيسيدا في الأصل من قبل سولداتوف، الذي كان يقدم تقارير عن مكتب الأمن الفيدرالي منذ التسعينيات، عندما ظَهَرَ كخلفٍ لوكالة الكي جي بي، وأُعيدَ تنظيمه لاحقاً للاستجابة مباشرةً لبوتين.
يعتقد سولداتوف أنه على الرغم من اتهام بيسيدا، الذي كان أحد كبار المسؤولين العشرة في مكتب الأمن الفيدرالي، بالفساد، فقد ألقى الرئيس باللوم عليه بسبب الإحاطات الإعلامية غير الدقيقة، التي أشارت إلى أن أوكرانيا سوف تتفكك بسرعة وتستسلم في مواجهة القوات الهجومية الروسية.
"حملة تطهير" للضباط في الاستخبارات الروسية
أما كريستو جروزيف، المدير التنفيذي لموقع Bellingcat للصحافة الاستقصائية، الذي كشف عن أولئك الذين حاولوا قتل المعارض المعتقل أليكسي نافالني، فقد أبلغ أيضاً عن حملة تطهيرٍ للضباط في مكتب الأمن الفيدرالي، مع تسريح أكثر من 100 منهم من وظائفهم منذ بداية الهجوم على أوكرانيا.
قال سولداتوف إن "التقرير كان ذا مصداقية، ويتماشى مع تاريخ الصراع الداخلي في جهاز الأمن الفيدرالي. ويُقال إن المكتب يوظِّف 66,200 فرد نظامي، بما في ذلك حوالي 4 آلاف من القوات الخاصة، بالإضافة إلى كونه مسؤولاً عن الأمن حول حدود روسيا".
وقبل الهجوم، كان يُعتقَد أن الخدمة الخامسة للوكالة قد كُلِّفَت بتعزيز شبكة من المنشقين ليترأسوا إدارةٍ تكون "دمية" في يد الكرملين، وتحل محل حكومة الرئيس زيلينسكي في كييف، وهو جهد انهار عندما كشفت الحكومات الغربية عن الخطة.
ومع ذلك، أضاف أن الكثيرين في الخدمة محبطون أيضاً من بوتين -وهو نفسه عميلٌ سابق في "الكي جي بي" ومدير مكتب الأمن الفيدرالي- حيث تصاعدت خسائر روسيا في أوكرانيا.
ورغم أن قوات موسكو قد حققت مكاسب في جنوب وشرق أوكرانيا، وتهدِّد بشنِّ هجوم جديد في دونباس، يبدو أن الهجوم الأوَّلي على كييف والمدن الشمالية الأخرى قد فشل.
قال سولداتوف: "إنهم يعتقدون في مكتب الأمن الفيدرالي أنه كان يجب التعامل مع الأمور بشكلٍ مختلف"، مضيفاً أنه لا يعتقد أن الجزء الأكبر من مكتب الأمن الفيدرالي قد شورِكَ في القرار الأوَّلي بشأن الهجوم على أوكرانيا.
ومع ذلك، فقد حذر من أن الاستياء من تصرفات بوتين في مكتب الأمن الفيدرالي، الذي يعرف مديره ألكسندر بورتنيكوف بوتين منذ السبعينيات، لم يرق بعد إلى التهديد الحقيقي بإقالة الرئيس البالغ من العمر 69 عاماً.
وقال: "قد يعتقدون أنه يتصرف بغرابة، لكن بالنسبة للعديد من مسؤولي الأجهزة الأمنية، فإن بوتين هو الرئيس الوحيد الذي عرفوه على الإطلاق. بالنسبة لهم هو جزء من الطبيعة تقريباً، إن القول بأنك تريد رئيساً جديداً يشبه القول بأنك ترغب في إلغاء الشتاء، لا يمكنهم تصور أنفسهم بدونه"، حسب تعبيره.
"كي جي بي".. العمود الفقري للنظام السياسي الروسي
ونظراً لارتباط بوتين بالكي جي بي سابقاً، يتمتَّع مكتب الأمن الفيدرالي تقليدياً بأهمية سياسية تتجاوز بكثير أهمية وكالات الاستخبارات في الدول الغربية.
بالنسبة إلى سولداتوف، فإن الوكالة أقرب إلى الحرس الثوري الإيراني القوي من نظيراتها الغربية مثل الاستخبارات البريطانية أو الاستخبارات المركزية الأمريكية، وتتمتع بسلطات سياسية مترامية الأطراف، إلى جانب السيطرة على قطاعاتٍ واسعة من الاقتصاد.
تقول التايمز: تنحصر مهمة الاستخبارات في المجتمعات الغربية في جمع المعلومات. بينما تتمثَّل مهمتهم الرئيسية في دول مثل روسيا في الحفاظ على النظام السياسي، مثلما قال سولداتوف، الذي أضاف: "بالتأكيد يُنظَر إلى كلِّ شيء من خلال هذا المنظور".
أشار عنوان كتابه، The New Nobility، عام 2010، الذي شارك في تأليفه مع شريكته إيرينا بوروغان، إلى خطاب ألقاه نيكولاي باتروشيف، مدير مكتب الأمن الفيدرالي في ذلك الوقت، والذي وصف فيه الوكالة بأنها العمود الفقري للنظام السياسي الروسي.
ومع ذلك، وصف سولداتوف أنه كانت هناك خسارةٌ تدريجية لنفوذ جهاز الأمن الفيدرالي ووكالات الاستخبارات الأخرى، بعد أن اعتقد بوتين أن جواسيسه قد فشلوا في منع ثورة ميدان 2014 في كييف؛ ما أدَّى إلى ضم شبه جزيرة القرم والحرب في شرق أوكرانيا.
بعد ذلك بدأ بوتين يثق بالجيش على حساب مكتب الأمن الفيدرالي، وبدأ يعتقد أن الجيش كان أفضل في حل المشاكل، كما فعل في سوريا وأوكرانيا، على حدِّ قول سولداتوف.
وعلى مدار العقدين الماضيين أصبح موقع Agentura، الذي أنشأه سولداتوف على الإنترنت، معروفاً على نطاق واسع كمصدر للتقارير عن أجهزة الاستخبارات الروسية القوية والغامضة، لكن هذا جعله أيضاً هدفاً واضحاً وعدواً للدولة.
فرّ سولداتوف وبوروغان من روسيا في عام 2020، بعد أن تلقيا إخطاراً رسمياً من وكالة الرقابة الحكومية في البلاد، يفيد بوفاة محرر الموقع الإلكتروني الخاص بهما. وقد فسَّرا الخبر باعتباره تهديداً من قِبَلِ مكتب الأمن الفيدرالي وانتقلا إلى لندن.