تتبع معظم الدول المتقدمة نظام سعر صرف معوم، فلا تقوم البنوك المركزية بتثبيت سعر عملة البلد المحلية إلى عملة أخرى، ولا تقوم بإدارته، بحيث تمنع من تغيّر قيمته بحسب عوامل العرض والطلب في السوق بشكل كبير، بل تتركه لتحدّد قيمته بشكل حر في السوق.
ولكن دولاً كثيرة في العالم أيضاً تثبت أسعار عملتها لدول أخرى، على الأقل إذا استطاعت فعل ذلك، وقبل أن تصبح الضغوط الاقتصادية عليها كبيرة جداً؛ بحيث تضطر إلى فك الارتباط بالدولار، وتعويم عملتها.
حصل ذلك في مصر عام 2016، وقبلها في تركيا بعد الأزمة الاقتصادية عام 2001. لكن دول الخليج تظل صامدة في بقائها على تثبيت سعر عملتها أمام الدولار، رغم أن توقعات صدرت بإمكانية فك هذا الارتباط بالدولار.
البترودولار.. أصول التثبيت الخليجي
تُسعر دول الخليج صادراتها النفطية بالدولار، وهي العملة التي تتم بها غالبية التعاملات المالية في العالم، لكن العلاقة بين النفط والدولار هي ما تُعرف عادة باسم "البترودولار"، والتي يمكن تعريفها بأنها القيم الكلية للصادرات النفطية المقومة بالدولار، والتي تشكل جزءاً مهماً من تداول الدولار عالمياً.
يساعد "البترودولار" على حماية موقع الدولار كعملة أساسية في العالم، وهي أيضاً مفيدة لدول الخليج؛ لأنها تحمي اقتصاداتها من مخاطر تقلبات قد تكون مؤذية للاقتصاد.
في سبعينات القرن الماضي ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير، لذلك حققت دول الخليج فوائض ضخمة من النفط، حتى إنها كانت أكبر بكثير من إمكانية هذه الدول على الإنفاق، لذلك كانت هذه المبيعات النفطية تباع بالدولار، ثم تُحول الدولارات إلى حسابات بنكية في الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، لتغني النظام المصرفي الأمريكي، فهي فائدة مضاعفة للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن هذا النظام بات مهدداً اليوم أكثر من أي وقت مضى، فالعقوبات الأمريكية التي كثرت في الفترة الأخيرة، خصوصاً بعد سياسة العقوبات القصوى ضد إيران، والعقوبات غير المسبوقة على روسيا، بالإضافة إلى الحرب التجارية مع الصين، تجعل وضع الدولار في خطر كعملة عالمية، لا في المدى المنظور ولكن في المدى البعيد.
حتى إن الصين طالبت سابقاً باستبدال الدولار كعملة عالمية، لأن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم عملتها كسلاح سياسي، تهدد به الدول، وتستطيع من خلاله تطبيق عقوبات عليها والإضرار باقتصاداتها.
لماذا ثبتت دول الخليج عملتها أمام الدولار؟
تثبت جميع دول مجلس التعاون الخليجي عملتها أمام الدولار باستثناء الكويت، التي تثبت سعر عملتها إلى سلة من السلع بدلاً من الدولار وحده، وإن كان الدولار هو أهم عملة في هذه السلة، وبدأت دول الخليج بفعل ذلك منذ نهاية السبعينات، وما زالت حتى اليوم.
لأن دول الخليج تعتمد بشكل كبير على صادراتها النفطية، وفي المقابل تعطي هذه الصادرات قدرة كبيرة لمواطنيها على الاستهلاك، فهذا يعني أن مستورداتها كبيرة جداً أيضاً، بل إنها تصبح أعلى من الصادرات في بعض السنوات، حتى إن حسابها الجاري المكون بشكل أساسي من الميزان التجاري (الصادرات-المستوردات) يكون سالباً في بعض الأعوام.
وحتى لو ظلت الصادرات أعلى من المستوردات فإن قيمة المستوردات ضخمة جداً، مقارنة بكون هذه الدول من أكبر مصدّري الطاقة في العالم، ومن أكبر أصحاب احتياطياته أيضاً، فضلاً عن قلة عدد المواطنين في غالبية هذه الدول، وهو ما يعني أن استهلاك مواطني هذه الدول الفردي ضخم جداً.
لذلك تتأثر اقتصادات هذه الدول كثيراً بالأسعار العالمية، أو بانخفاض قيمة العملة، لأن انخفاض قيمة العملة يعني ارتفاع سعر المستوردات، حتى لو لم ترتفع أسعارها في بلد المنشأ.
لذلك فمن الأضمن لهذه الدول أن تثبت سعر عملتها إلى الدولار القوي، لتحمي نفسها من مخاطر التضخم، فإذا انخفضت قيمة الدولار فذلك يعني انخفاض أسعار المنتجات بشكل عام داخل الدول الخليجية.
لذلك أبقت هذه الدول على تثبيت سعر صرف عملاتها المحلية أمام الدولار لعقود، بحسب Bloomberg، كما أنها تحمي الدول الخليجية من تقلبات أسعار سوق الطاقة، وتسمح لها بمراكمة احتياطيات الدولار في أوقات ارتفاع سعره، ثم تستخدم هذه الاحتياطيات لحماية العملة، والإبقاء على نظام سعر الصرف الثابت.
مخاطر التثبيت
لكن تثبيت العملة يجلب مخاطر على الاقتصاد أيضاً، فهو يحرم البلد المثبِّت من إمكانية تطبيق سياسة نقدية مستقلة، ويجبرها على اتباع سياسة نقدية مشابهة للسياسة النقدية في أمريكا.
فإذا قرّر الفيدرالي الأمريكي رفع سعر فائدته فعلى السعودية -مثلاً- رفع سعر فائدتها بنفس النسبة أيضاً، للمحافظة على نظام سعر الصرف الثابت، حتى لو لم تكن هناك حاجة لرفع سعر الفائدة في السعودية، بل قد تكون الحاجة لخفضها على مستوى الاقتصاد المحلي.
لذلك تسعى الدول التي تحاول توفير سياسة نقدية فعالة، خصوصاً في مجالات السيطرة على التضخم، ودعم النمو وخلق الوظائف، أن تحرر سعر صرف عملاتها، لكن عليها أولاً التأكد من استقرار الاقتصاد، وتوفير الاستقرار لقيمة العملة.
في حالة التعويم دون ضمان مثل هذا الاستقرار فذلك سيعني أن العملة قد تتعرض لصدمات فجائية، قد تؤثر بشكل عميق على الاقتصاد المحلي، وقد تؤدي إلى معدلات تضخم مرتفعة جداً في البلاد.
هل ينقلب الخليج على البترودولار؟
لم يصدر عن أي دولة خليجية أي إشارة للتخلي عن تثبيت عملاتها المحلية إلى الدولار، ولكنّ السعودية -مثلاً- أعلنت أنها تدرس تسعير عقود النفط باليوان الصيني بدلاً من الدولار، خصوصاً أن الصين تمثل 20% من مستوردات الخليج النفطية.
في حالة حصول ذلك فإن نظام البترودولار سيقع في اختبار مهم، لكن الخطوة السعودية أقرب للضغط السياسي على إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، وقد تتغير إذا ما تحسنت العلاقات بين السعودية والإدارة الأمريكية الجديدة، أو تغيرت الإدارة الأمريكية الحالية في انتخابات مستقبلية.
لكن الدول الخليجية حافظت على نظام سعر الصرف المثبت إلى الدولار طوال العقود الماضية، رغم كل فترات الانخفاض الحاد في أسعار النفط خلال تلك الفترة، مثل أعوام التسعينات، وضعف قيمة الدولار في بداية الألفينات، وانهيار أسعار النفط عام 2014، وبعدها في عام 2020 بسبب جائحة كورونا.
توقعات لم تصدق بالتعويم
خلال أزمة انهيار أسعار النفط عام 2014 بدأت مضاربات كبيرة على الريال السعودي، متوقعة انتهاء نظام سعر الصرف الثابت في السعودية.
حاول المضاربون إما الربح من هذه الإمكانية، أو على الأقل المحافظة على أموالهم المملوكة بالريال في حال حصول التعويم بالفعل.
لكن الدول الخليجية لم تفعل ذلك، وأصرت على الإبقاء على تثبيت سعر صرف عملاتها، متخلية عن الكثير من الإنفاق الحكومي مقابل ذلك، خصوصاً على الدعم الاجتماعي، بل توجهت الدول الخليجية إلى الأسواق العالمية للاقتراض لتغطية عجز ميزانياتها الناتج عن انهيار أسعار النفط.
مع ذلك تبقى بعض دول الخليج في حالة أكثر هشاشة من الأخرى، فعُمان والبحرين ليستا بغنى السعودية والإمارات وقطر والكويت، وهما الأكثر عرضة لاحتمال الاضطرار للتخلي عن نظام سعر الصرف الثابت، لعدم قدرتهما على توفير عائدات نفط كافية لدعم العملة.
فالبنوك المركزية قد تخلق طلباً في السوق على العملة المحلية، لرفع قيمتها في حال انخفاض الطلب عليها في السوق، وانخفاض القيمة الحقيقية للعملة عن سعر التثبيت، ولكي تفعل ذلك فقد تحتاج إلى عائدات نفط كبيرة.
في حال ترك التثبيت نحو الدولار، والاتجاه نحو تسعير عقود النفط بعملات أخرى، فذلك قد يعني تهديداً لموقع الدولار المركزي من الاقتصاد العالمي ونظامه المالي، خصوصاً إذا ما عنى ذلك بدء تسعير العقود باليوان الصيني، ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
لأن ذلك يعني أن دول الخليج ستبدأ بمراكمة احتياطيات باليوان الصيني بدلاً من الدولار، ما يعني ارتفاع نسبة تداول اليوان عالمياً، وارتفاع نسبة ما يمثله من إجمالي التجارة العالمية، كما أن ذلك قد يعني أن العملة الصينية قد تصبح أكثر قبولاً في معاملات تجارية أكثر حول العالم، حتى لو لم تكن مع الدول الخليجية، أو لم تتضمن مبيعات نفطية.