دفعت الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الطاقة التي تسببت بها العديد من الدول حول العالم لتسريع خطط التحول إلى الطاقة النظيفة، مع اعتمادها بشكل كبير على النفط والغاز والفحم، في سعيها للحصول على إمدادات طاقة أكثر أماناً. وتميل العديد من البلدان أكثر إلى الوقود الأحفوري، حتى باتت في سباق لحجز إمدادات كافية من مصادر غير روسية -خاصة الدول الأوروبية- بما في ذلك المزيد من الفحم، لضمان قدرتها على تدفئة المنازل ومصانع الطاقة ونقل البضائع خلال السنوات القليلة المقبلة.
في الوقت نفسه، تعمل الكثير من الدول، خاصة في أوروبا، على تسريع خطط التحول إلى الطاقة الخضراء، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، بهدف تلبية الأهداف المناخية، وكذلك التقليل الدائم من التعرض لإمدادات النفط والغاز المتقلبة من الناحية الجيوسياسية، كما أن البعض يعيد النظر في الطاقة النووية، بحسب تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
هل تسرع الأزمة الحالية من تحول العالم نحو الطاقة النظيفة؟
اختبرت صدمة الطاقة المرتبطة بالحرب الروسية على أوكرانيا عزم الدول على خفض انبعاثات الكربون بسرعة، لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، كما تعهدت أكثر من 190 دولة بالقيام بذلك بموجب اتفاقية باريس للمناخ، إذ يهدف الاتفاق الدولي إلى الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى ما دون درجتين مئويتين بحلول نهاية القرن، مقارنة بمستويات ما قبل الصناعة.
وتأتي الصدمة على مع ارتفاع التضخم، وسلاسل التوريد المتعثرة، وغيرها من المشاكل المتعلقة بالوباء، الذي هدد بالفعل الاقتصاد العالمي، حيث ارتفعت أسعار النفط والغاز والسلع الحيوية الأخرى بشكل أكبر منذ اندلاع الحرب. وبينما كان القادة الأوروبيون مترددين في فرض عقوبات على إمدادات الطاقة الروسية التي تعتمد عليها القارة، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الإثنين 4 أبريل/نيسان 2022 إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة، مستشهداً بأدلة على "جرائم حرب في أوكرانيا".
ويقول بعض المديرين التنفيذيين والمستشارين في مجال الطاقة إن الأزمة الحالية توفر فحصاً واقعياً متأخراً بشأن التحدي المتمثل في استبدال الوقود الأحفوري الذي لا يزال العالم يعتمد عليه بشدة، وسيحتاج على الأرجح إلى تلبية الطلب عليه لسنوات قادمة.
وتقول روبرتا داوني، الخبيرة في البنية التحتية للطاقة لصحيفة "وول ستريت جورنال": "لا يمكنك الحصول على مصادر الطاقة المتجددة بسرعة كافية لمواجهة وتيرة العقوبات الحالية على روسيا، أكبر مصدر للطاقة إلى أوروبا".
لكن يرى البعض أن الاضطرابات الحالية التي تصيب قطاع الطاقة في العالم يمكن أن تسرع في النهاية من انتقال العالم إلى الطاقة النظيفة، ويقول لاري فينك من "بلاك روك"، أكبر شركة في العالم لإدارة الأصول: "أعتقد أن الأحداث الأخيرة ستسرع في الواقع التحول نحو مصادر الطاقة النظيفة في أجزاء كثيرة من العالم".
ولسنوات طويلة، اختارت ألمانيا ودول أوروبية أخرى الإمدادات الروسية الرخيصة للطاقة على الواردات من الولايات المتحدة وأماكن أخرى. حيث تقدم روسيا حوالي 40% من الغاز الذي تستخدمه أوروبا لتدفئة المنازل وتوليد الكهرباء. وتخطط الولايات المتحدة الآن لزيادة شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، بهدف شحن 50 مليار متر مكعب أو أكثر سنوياً حتى عام 2030 على الأقل، للمساعدة في تلبية طلب القارة.
لكن يظل فطام أوروبا عن الإمدادات الروسية مهمة ضخمة ومكلفة. إذ سيتطلب فصل الاتحاد الأوروبي عن واردات الغاز الروسي إنفاقاً سنوياً إضافياً لا يقل عن 170 مليار يورو (حوالي 187 مليار دولار) على إنتاج الطاقة المتجددة على مدى 6 سنوات، وفقاً لباحثين من شركة Allianz الألمانية.
مصادر الطاقة المتجددة "أرخص طريق" لاعتماد أوروبا على ذاتها
ومع هذه التكلفة تصنف مصادر الطاقة المتجددة على أنها أرخص طريق لاعتماد أوروبا على نفسها في مجال الطاقة. فبعد أيام من الغزو الروسي لأوكرانيا قال المستشار الألماني أولاف شولتز إن بلاده ستبني محطتين جديدتين لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، وتعزز مخزونات الوقود وتحول مشتريات الطاقة تدريجياً بعيداً عن روسيا. وقال مسؤولون ألمان إنهم قد يطيلون استخدام محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، والتي خططت البلاد لإغلاقها بحلول عام 2030.
من جانبها، اقترحت وزارة الشؤون الاقتصادية والعمل المناخي في ألمانيا، تسريع مجموعة من خطط الطاقة النظيفة، بما في ذلك توسيع موارد الطاقة من الرياح البرية والبحرية ومشاريع الطاقة الشمسية. رفعت الدولة هدفها للوصول إلى ما يقرب من 100% من الكهرباء المتجددة حتى عام 2035.
وأثارت الحرب مناشدات "عاطفية" من السياسيين ودعاة حماية البيئة الأوروبيين، الذين يرون أن العدوان الروسي على أوكرانيا هو أوضح سبب حتى الآن لوقف استخدام النفط والغاز الذي يدعم حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مالياً.
وقد خلق ذلك فرصاً جديدة للشركات والمستثمرين الذين يقدمون حلولاً للطاقة النظيفة، مثل الملياردير الأسترالي أندرو فورست، رئيس مجلس إدارة شركة Fortescue Future Industries للطاقة المتجددة.
وقالت الشركة، الأسبوع الماضي، إنها تتعاون مع مجموعة الطاقة الألمانية E.ON SE لتزويد الهيدروجين الأخضر، ليحل محل الغاز الروسي، وهو جهد بمليارات الدولارات لتلبية احتياجات الطاقة الأوروبية بالوقود المصنوع باستخدام المياه وطاقة الرياح والطاقة الشمسية الأسترالية.
وقال فورست لصحيفة "وول ستريت جورنال": "القادة الذين تحدثت إليهم يقولون إن كل شيء قد تغير". وأضاف: "ما تبحث عنه العديد من الاقتصادات في جميع أنحاء العالم الآن هو الإسراع في استبدال الوقود الأحفوري الروسي بالكامل".
في أوائل مارس/آذار الماضي، اقترحت المفوضية الأوروبية تدابير لمضاعفة كمية الميثان الحيوي المنتج من النفايات الزراعية وغيرها من المصادر، بالإضافة إلى مضاعفة كمية الهيدروجين إلى 3 أضعاف بحلول عام 2030، لتقليل الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي.
عقبات أمام تسريع التحول نحو الطاقة الخضراء
على المدى الطويل، يدفع المسؤولون في جميع أنحاء أوروبا نحو الاستثمار في الطاقة المتجددة. وصف وزير المالية الألماني مؤخراً مصادر الطاقة المتجددة بأنها "طاقات الحرية".
لكن يقول المستثمرون في الطاقة المتجددة، إن ارتفاع أسعار السلع الأساسية وأزمات سلاسل التوريد يزيدان من تعقيد تكلفة مزارع الرياح والطاقة الشمسية، كما أن نقص العمالة الماهرة والمواد وكذلك معارضة المجتمع لمزارع الرياح، تزيد الأمر تعقيداً.
من جانبها، تخطط المملكة المتحدة لزيادة الاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح البحرية. ناقش المسؤولون تشجيع المزيد من مزارع الرياح البرية، والتي واجهت في بعض أجزاء المملكة المتحدة معارضة عامة وسياسية.
أما في بلجيكا، يخطط المسؤولون الحكوميون لتأجيل الخطط طويلة الأمد لإيقاف تشغيل مفاعلين نوويين من حقبة الثمانينيات بحلول عام 2025. كانت البلاد تخطط لاستبدال طاقتها الكهربائية بالطاقة التي تعمل بالغاز الطبيعي، لكن المسؤولين قالوا إن عدم اليقين بشأن الإمداد يجعل هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر، ويثير مشاكل كبيرة تتعلق بالسلامة والتنظيم والتنفيذ.
وفي هولندا، ناقش المسؤولون الحكوميون ما إذا كانت ستتم زيادة الإنتاج المخطط له من حقل الغاز الطبيعي "جرونينجن"، المقرر إغلاقه بالكامل تقريباً هذا العام. وكانت هولندا قد أعلنت في عام 2019 أن الإنتاج في "جرونينجن" سينتهي بحلول منتصف عام 2022، للحد من مخاطر الزلازل في المنطقة.