تعتبر باكستان نموذجاً محيراً؛ إذ بنت البلاد جيشاً قوياً، ولديها أسلحة نووية، كما طوّرت صناعة أسلحة متقدمة بالنسبة لأغلب أقرانها في العالم الثالث، ولديها قاعدة علمية قوية، ولكن في مقابل ذلك يعاني اقتصادها وديمقراطيتها من التعثر خاصة مقارنة بالهند المجاورة، فما هي أسباب أزمات باكستان الاقتصادية والسياسية؟
وتاريخياً، كانت بنجلاديش جزءاً من باكستان قبل انفصالها عام 1971، وكانت بنجلاديش خلال العقود الماضية، قبل وبعد انفصالها عن إسلام أباد، أشد فقراً من باكستان، بحكم كثافتها السكانية العالية ومواردها القليلة.
ولكن في السنوات القليلة الماضية، تحقق بنغلاديش نمواً اقتصادياً جيداً وتبدو ديمقراطيتها أكثر استقراراً من باكستان.
أزمة اقتصادية تعقبها أزمة سياسية
وشهدت باكستان أزمة سياسية كبيرة مؤخراً بعد محاولة لحجب الثقة عن رئيس الوزراء عمران خان، رفضها نائب رئيس البرلمان بدعوى أنها نتيجة مؤامرة خارجية، وأعقب ذلك حل رئيس البلاد للبرلمان بناء على توصية عمران خان، وسط حديث عن خلافات بين الأخير وقيادة الجيش.
ولكن حتى قبل هذه الأزمة السياسية، شهدت البلاد أزمة اقتصادية حادة، جعلت معدل التضخم في البلاد هو الأعلى في آسيا.
وتعاني باكستان من عجز تجاري متزايد مدفوع بفواتير الواردات المتزايدة باستمرار وتراجع الصادرات، وشهدت الأشهر الخمسة الأولى من السنة المالية الحالية ارتفاعاً بأكثر من 117.25% في العجز التجاري.
في فبراير/شباط 2022، أفاد بنك التنمية الآسيوي أن باكستان لديها واحدة من أدنى نسب التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم.
وأدى تفشي وباء كوفيد -19 إلى زيادة تدهور الوضع. فسلع التصدير الرئيسية مثل الأسمنت والمنسوجات والجلود والسلع الرياضية لم يكن لها أي مشترٍ خلال الجائحة.
ولعبت طبيعة سلة التجارة الباكستانية التي تستورد المواد الأساسية وتصدر المواد غير الأساسية دوراً كبيراً في توسيع الفجوة بين الصادرات والواردات. إذ تستورد باكستان في الغالب بنود الاستهلاك المحلي الأساسية.
وأدى اتساع العجز التجاري وانخفاض الاستثمار إلى انخفاض حاد في احتياطيات النقد الأجنبي في باكستان.
كما أدى انخفاض قيمة الروبية الباكستانية مقابل الدولار الأمريكي إلى انخفاض قيمة الاحتياطيات الحالية.
ولامس التضخم في باكستان أعلى مستوى له في نوفمبر/تشرين الثاني 2021. ويرجع ذلك أساساً إلى الارتفاع العالمي في أسعار النفط الخام مما أدى إلى ارتفاع تكلفة الشحن.
الأهم من ذلك أن باكستان مستورد صاف للمواد الغذائية الأساسية مثل البقول والقمح وزيت الطعام والسكر. وتجدر الإشارة إلى أن واردات باكستان الغذائية تشكل حوالي 16% من إجمالي وارداتها. وتأثرت باكستان بالارتفاع العالمي في أسعار المواد الغذائية. كما يُعزى ضعف الحصاد في موسم البذر الأخير إلى ارتفاع تضخم أسعار الغذاء. وأدت الزيادة الحادة في أسعار الطاقة خلال السنوات القليلة الماضية إلى ضغوط تضخمية هائلة وأثقلت كاهل المواطن العادي بنفقات إضافية.
أسباب الضائقة الاقتصادية الأخيرة
يعزو بعض المراقبين الأزمة الاقتصادية الحالية في باكستان في المقام الأول إلى قرار سياسة باكستان قصير النظر الذي أدى إلى إنفاق مكثف على مشاريع غير تنموية وغير مجدية اقتصادياً. مثل تمويل مشروع خط سكة حديد جوادر- كاشغر من خلال أدوات الدين طويلة الأجل، والاعتماد بشكل كبير على الاقتراض الخارجي بدلاً من المؤسسات المحلية زاد من مشاكلها.
وأدى طرح الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان (CPEC) إلى زيادة عبء الديون وفتح أبواب القروض الخارجية المتزايدة باستمرار. والجدير بالذكر أن الممر الاقتصادي أوجد ديوناً صينية بقيمة 64 مليار دولار أمريكي على باكستان قُدِّرت في الأصل بمبلغ 47 مليار دولار أمريكي خلال عام 2014.
ولقد أدت الحلقة المفرغة المتمثلة في البحث عن قروض جديدة وسداد القروض القديمة بباكستان إلى "فخ الديون" سيئ السمعة. علاوة على ذلك، وبسبب إحجام المجتمع الدولي عن تقديم قروض لباكستان، اضطرت الدولة إلى اللجوء بشكل أساسي إلى الصين والمملكة العربية السعودية؛ مما جعلها عُرضة لشروطهما المعقدة.
جذور أزمات باكستان
ولكن بعيداً عن أعراض الأزمات الاقتصادية والسياسية وأسباب الأزمة الاقتصادية الأخيرة، فما هي أسباب تعثر مجمل النموذج الباكستاني، ولماذا حققت البلاد نجاحات في مجالات الصناعات العسكرية والعلمية بينما تتعثر في الاقتصاد والسياسة خاصة مقارنة بجارتيها الهند وبنغلاديش.
تبدو أسباب تعثر باكستان في الاقتصاد والسياسية شديدة التعقيد، ولها جذور قديمة.
فلم يكن هناك شيء اسمه الأمة الباكستانية، بل إن باكستان هي بمثابة وطن لمسلمي الهند، ولذلك أسست من خلال توحيد الأقاليم ذات الغالبية المسلمة في الهند ومنها بنغلاديش على الرغم الاختلافات بينها اللغوية والثقافية، كما هاجر للبلاد عشرات الملايين المسلمين القادمين من الهند وخرج منها ملايين الهندوس والسيخ للهند.
باكستان لديها أكثر من عشرين لغة وأكثر من 300 لهجة مميزة، والأوردو والإنجليزية هما اللغتان الرسميتان، لكن البنجابية والسندية والباشتو والبلوشية والسيريكية تعتبر لغات رئيسية. تسبب هذا التنوع في توترات إقليمية مزمنة وإخفاقات متتالية في تشكيل الدستور.
كانت باكستان مثقلة أيضاً بحروب واسعة النطاق مع الهند، والحدود الشمالية الغربية مع أفغانستان المكشوفة استراتيجياً، وسلسلة من الأزمات الاقتصادية. خلقت هذه الأزمات وضعاً جعل باكستان تواجه صعوبة في تخصيص مواردها الاقتصادية والطبيعية النادرة بطريقة عادلة.
كما أن البلاد تعاني دوماً من مشكلة التوفيق بين هدف الاندماج الوطني وضرورات الأمن القومي، ولقد نجحت باكستان بشكل نسبي في إدارة ملف الأمن القومي في مواجهة عدو أكبر بكثير هو الهند وفي بيئة أمنية صعبة تضم دولاً مثل أفغانستان وإيران والاتحاد السوفيتي ومن بعده روسيا.
كما نجحت البلاد في خلق هوية وطنية قوية من الإقاليم والعرقيات المتنوعة، وأصبحت وحدة باكستان فوق الشكوك.
ولكن في المقابل، عانت البلاد من تناقضات دوماً بين المستوى الإقليمي المحلي وبين المستوى الوطني المركزي، وزاد ذلك من دور البيروقراطية المركزية على حساب النخب المنتخبة، وكذلك أدى لتعاظم دور المؤسسة العسكرية ليس فقط باعتبارها حامية البلاد ضد العدو الأقوى ممثلاً، في الهند بل أيضاً باعتبار الجيش المؤسسة العابرة للقوميات التي تصهر التنوع الإثني في البلاد في بوتقة واحدة.
في المقابل، فإن التنوع الإثني الكبير للبلاد، لم يخلق أحزاباً باكستانية قومية قوية، بل على العكس الأحزاب والكيانات السياسية في البلاد يمكن تقسيمها ثلاثة أنواع.
الأحزاب الإسلامية، وهي ليست قوية كما قد يعتقد رغم الطابع الديني للدولة منذ تأسيسها، وهذه الأحزاب خبراتها السياسية المحدودة وبعضها يجنح للتطرف، ثم هناك الجماعات والأحزاب الإثنية والتي تركز على الخلافات بين أقاليم البلاد، وبعضها حمل السلاح مثل بعض المجموعات البلوشية.
وأخيراً الأحزاب السياسية التقليدية مثل حزب الرابطة الإسلامية، وحزب الشعب الباكستاني الذي يوصف باليساري، وتتسم هذه الأحزاب بضعف مرجعيتها الأيديولوجية، والطابع العائلي المسيطر عليها، فالأحزاب السياسية الباكستانية، تقوم على المصالح الاقتصادية والعائلية حتى لو ترفع شعارات قومية، ويظهر ذلك في عملية توريث قيادتها بشكل مستمر للابن أو الابنة أو الأخ.
كيف تشكلت الطبقة الحاكمة في باكستان
صاغ العسكريون شكل الطبقة الحاكمة في باكستان حتى في سنوات الحكم المدني.
وبين عامي 1958 و 1971، تمكن الرئيس أيوب خان الذي جاء عبر انقلاب عسكري من خلال الحكم الاستبدادي، من جعل الحكومة مركزية دون إزعاج التحالفات الوزارية غير المستقرة التي ميزت العقد الأول بعد الاستقلال.
جمع خان تحالفاً من جيش يغلب عليه منطقة البنجاب والبيروقراطية المدنية مع الطبقة الصناعية الصغيرة ولكن المؤثرة بالإضافة إلى قطاعات من النخبة المالكة للأراضي الزراعية، ليحل محل الحكومة البرلمانية المستندة لسياسيين منتخبين.
وفعل الرئيس العسكري التالي ضياء الحق الذي حكم في السبعينيات والثمانينات أمراً مماثلاً؛ إذ يعتقد أن صعود نواز شريف رئيس الوزراء السابق المنفي حالياً والذي القائد الفعلي لحزب الرابطة الإسلامية كقطب أساسي في معادلة في السلطة حتى الآن كان بفضله، وحتى رئيس الوزراء الحالي عمران خان، قيل إنه حليف المؤسسة العسكرية وأتاح لها نفوذاً غير مسبوق قبل أن تدب الخلافات بين الجانبين.
ويشير هذا إلى أن الأحزاب السياسية الباكستانية هي نتيجة تحالفات مع المؤسسات العسكرية، وهي تمثل طبقات اجتماعية واقتصادية أكثر منها تعبر عن أيديولوجيا متماسكة.
ونتيجة للتداخل بين الأحزاب وجماعات المصالح، يُعتقد أن إحدى مشكلات البلاد التاريخية ضعف الإرادة السياسية لكسر قبضة جماعات المصالح القوية، ويشير تقرير حديث للأمم المتحدة إلى أن مجموعة النخبة من المواطنين في باكستان يتلقون امتيازات اقتصادية تبلغ حوالي 17.4 مليار دولار في شكل إعفاءات ضريبية وإمكانية الوصول التفضيلي إلى رأس المال العام.
وبالتالي فالطبقة الحاكمة في باكستان، إما عسكريون يرون أنهم الأقدر على حكم البلاد حتى من وراء ستار، أو مدنيون أثرياء نشأ نفوذهم بفضل علاقتهم بالعسكريين.
ورغم كفاءة الجيش الباكستاني المشهود له عسكرياً، ودوره في إدارة برامج التسليح النووية والعسكرية بطريقة قد تفوق الهند غريمة إسلام أباد خاصة بالنظر لموارد البلاد المحدودة، فإنه كأي مؤسسة عسكرية يفشل في إدارة الاقتصاد والسياسة في الحياة المدنية.
ولكن حتى عندما تنتهي الانقلابات العسكرية وتجرى انتخابات، تأتي للسلطة أحزاب تخدم مصالح قادتها، أو الطبقات الممثلة لها، كما أن الانتخابات في باكستان مشهورة بالألاعيب والطرق التي تؤدي إلى تغيير النتيجة، وتجعل تأثيرات المال والإعلام كبيرة.
باكستان لديها إمكانيات لكي تصبح نمراً آسيوياً
تمتلك باكستان إمكانيات كامنة كبيرة لتصبح نمراً آسيوياً، فلدى البلاد عمالة رخيصة ماهرة، وكذلك طبقة من الفنيين المشهود لها بالكفاءة ومؤسسات علمية بعضها جيد للغاية بمقاييس العالم الثالث، كما أن البلاد منتج زراعي مهم، ولديها خبرات في العديد من الصناعات مثل النسيج والسفن.
ولكن إلى جانب المشكلات التي سبق ذكرها، فإن هناك العديد من العوامل التي تجعل البلاد ليست جاذبة للاستثمار الأجنبي.
فالوضع الأمني في باكستان ليس جيداً خاصة في المناطق الحدودية المضطربة، والبلاد رغم مؤسستها العسكرية والأمنية القوية، سكانها لديهم حس عال بالاستقلال مع فقر وتنوع يجعل من الصعب فرض الأمن بطريقة الأنظمة المستبدة.
كما أدى تراجع الثقة في الاقتصاد الباكستاني إلى جانب الترتيب المنخفض من قبل وكالات التصنيف الدولية والقائمة الرمادية لباكستان في مجموعة العمل المالي الخاصة بمكافحة تمويل الإرهاب (FATF) إلى إبعاد المستثمرين الأجانب عن البلاد.
وتشير بيانات بنك الدولة الباكستاني إلى أنه في السنوات العشر الماضية، لم تتجاوز تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى باكستان 1% من الناتج المحلي الإجمالي.
ويرى الاقتصاديون أن كبح مشروعات التنمية غير القابلة للتطبيق، وخفض فواتير الاستيراد، والاعتماد بشكل أكبر على شركاتها المحلية قد يساعد على تجنب تعميق أزمات باكستان بشكل أكبر.
ولكن باكستان تحتاج قبل إعادة إصلاح سياستها الاقتصادية، إلى إعادة تشكيل نخبتها السياسية وترسيخ حياد الجيش وخضوعه للسلطة المنتخبة، وألا يحاول السياسيون المنتخبون استخدام الجيش ضد بعضهم بعضاً.
كما تحتاج البلاد إلى تقوية دولة القانون ومحاربة ثقافة الإفلات من العقاب على كل المستويات، وتحتاج إلى تأكيد حقوق الأقليات والمرأة بإنهاء ربط بعض المحافظين والمتشددين بعض الممارسات المرفوضة بالإسلام.
وتحتاج إسلام أباد إلى وقف السياسات الشعوبية الاقتصادية التي تؤدي إلى إرضاء الناخبين مؤقتاً ولكنها تفسد الاقتصاد لعقود قادمة.