أصبحت ما تعرف بـ"قضية ماكنزي" تطارد الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون في حملاته الانتخابية، وذلك قبيل أيام فقط من موعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، حيث لم يتوقع ماكرون أن "تلوث" قضية شركة الاستشارات الأمريكية هذه الشوط الأخير من حملته الانتخابية، التي كانت تسير بصعوبة طوال الفترة الماضية بسبب الأزمات الداخلية والخارجية.
ما هي قضية ماكنزي وهل تقوّض حظوظ ماكرون بالفوز؟
على غير ما كان يتوقعه ماكرون أو يتمناه، أرغمت ما بات يعرف بـ"قضية ماكنزي" مستشاريه على تقديم تفسيرات حول الأسباب التي جعلته هو وحكومته يلجأون بشكل مفرط إلى هذه الشركة الأمريكية المتخصصة في تقديم الاستشارة للشركات الخاصة وللحكومات في مجالات شتى مقابل أموال باهظة.
جاء ذلك عقب تقرير نشره مجلس الشيوخ الفرنسي، كشف فيه مدى اعتماد الوزارات الفرنسية على شركات عالمية تقدم الاستشارة، عوضاً عن اللجوء إلى شركات محلية ومتخصصين فرنسيين.
ويأخذ مستشارو ماكرون على محمل الجد الاتهامات التي تظهر أنه اعتمد بشكل مفرط على شركات عالمية متخصصة في تقديم الاستشارة دون أن تدفع هذه الشركات بشكل كامل الضرائب التي تترتب عليها.
وانفجرت قضية "ماكنزي" في 16 مارس/آذار 2022 عندما نشر مجلس الشيوخ الفرنسي تقريراً يكشف فيه "اعتماد" ماكرون وحكومته على شركات استشارية خاصة، من بينها شركة "ماكنزي" الأمريكية، فيما تم اتهام هذه الشركة بـ"تحقيق أقصى استفادة ضريبية" في فرنسا و"عدم دفع الضرائب المترتبة عليها بشكل كامل".
وعلى سبيل المثال، أظهر التقرير أن النفقات التي خصصتها بعض الوزارات الفرنسية في مجال الاستشارة ارتفعت من 379.1 مليون يورو في 2018 إلى 893.9 مليون يورو في 2021. وهو ما أثار غضب أعضاء مجلس الشيوخ الذين قاموا بفتح تحقيق لفهم تداعيات هذه القضية.
وكتب بعض أعضاء المجلس: "مهزلة الدراسة التي قامت بها شركة ماكنزي بخصوص مستقبل وظيفة المدرس في فرنسا وتوزيع العقود خلال جائحة كوفيد-19 واللجوء إلى خدمات هذه الشركة الأمريكية (أي ماكنزي) على الرغم من الشكوك التي تحوم حول وضعها الضريبي، هي أمثلة تزيد من الوضع السياسي "غموضاً" وتعزز الشعور "بانعدام الثقة".
ويقول متخصصون في الشأن الفرنسي لقناة france24، إن هذه الفضيحة السياسية تأتي في وقت حساس بالنسبة لماكرون، وقد تكلفه كثيراً وتعيق وصوله إلى سُدة الحكم مرة ثانية.
ما جذور "قضية ماكنزي" وكيف بدأت؟
في 8 يناير/كانون الثاني 2022، كانت صحيفة "politico" الأمريكية هي أول من فتش عن هذه القضية لدى الفرنسيين، بعدما نشرت مقالاً تحت عنوان "كيف تولى مستشارو ماكنزي السيطرة على فرنسا"، تحدثت فيه حول أنشطة الشركة الاستشارية الأمريكية، التي تتواجد مكاتبها في حوالي 60 بلدا حول العالم، من بينها في فرنسا، حيث تتواجد مكاتبها هناك في مدينتي ليون والعاصمة باريس.
وكشفت الصحيفة الأمريكية كيف أصبح مستشارو الشركة الأمريكية يشاركون في صنع القرار داخل أروقة السلطة في فرنسا وتقديم الاستشارات في العديد من الملفات، مثل إطلاق لقاحات كورونا، وحتى مكافحة تغير المناخ بمبالغ طائلة، وكيف حصلت الشركة على نصيب الأسد من مجموعة من العقود التي وقعتها الحكومة الفرنسية مع العديد من الشركات الاستشارية الخاصة.
وبحسب تقرير مجلس الشيوخ الفرنسي الذي جاء بعد هذا التقرير، فقد كانت الحكومة الفرنسية بقيادة جان كاستكس قد أفرطت كثيراً في الاستعانة بخدمات شركة "ماكنزي"، مشيراً إلى أن النفقات في هذا المجال وصلت إلى 893.9 مليون يورو في عام 2021.
وشملت الاستشارات التي قدمتها شركة "ماكنزي" عدة قطاعات، كقطاع السكن (3.8 مليون يورو) والصحة (الإشراف على حملة التطعيم ضد وباء كوفيد19 بـ12.3 مليون يورو) إضافة إلى تنظيم منتدى دولي بطلب من وزارة التربية كلف 496.800 يورو لكنه ألغي في نهاية المطاف بسبب جائحة كوفيد-19.
لماذا أثارت قضية "ماكنزي" غضباً في فرنسا ضد ماكرون؟
انتقدت المعارضة الفرنسية بحدة الاستشارات التي قامت بها شركة "ماكنزي" وقالت "إنها لا تعود بالنفع على الاقتصاد الفرنسي وغير مهمة". فيما وجهت أيضاً انتقادات لهذه الشركة بسبب ممارساتها في المجال الضريبي؛ إذ لم تدفع جميع الضرائب التي كان يتوجب عليها أن تدفعها الخزينة العمومية الفرنسية.
وجاء في تقرير مجلس الشيوخ: بالرغم من أن شركة "ماكنزي" مطالبة بدفع الضرائب المفروضة عليها وعلى جميع الشركات في فرنسا، إلا أنها لم تسدد ولو يورو واحداً على مدى عشرين عاماً تقريباً (ما بين 2011 و2020) علما بأن المعاملات المالية الإجمالية لهذا المكتب بلغت 329 مليون يورو بما في ذلك 5 بالمئة في القطاع العام في 2020 فيما بلغ عدد الموظفين 600 موظف".
وتقول النائبة عن حزب المحافظين فيرونيك لواجي، لصحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، وهي كانت مقررة الميزانية في عدة ملفات صحية، إنها أرادت "دق ناقوس الخطر" بعد النتائج التي توصلت إليها حول عقود شركة "ماكينزي".
وأضافت: "بشكل عام، لا تصدمني الاستعانة بشركات استشارية كثيراً، هل من الطبيعي أن لا تتمكن الحكومة ووزاراتها مثل وزارة الصحة من إنجاز عدد من المهام الأساسية؟!".
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإن فرنسا ليست بأي حال من الأحوال الدولة الوحيدة التي لجأت إلى شركات استشارات من القطاع الخاص للمساعدة في إدارة شؤون الدولة، لكن هذه الممارسة مثيرة للجدل بشكل متزايد في فرنسا، البلد الذي اعتاد تقليدياً على "الاعتزاز بجودة خدمته المدنية وينظر بارتياب إلى تدخلات القطاع الخاص في الأمور العامة".
من جانبها، نشرت الصحيفة الأسبوعية الساخرة "لو كانار أنشينيه" مقالاً أكدت فيه أن "التحويلات المالية الكبيرة التي كان يقوم بها الفرع الفرنسي لشركة "ماكنزي" باتجاه الشركة الأم الموجودة في الولايات المتحدة كان من المفروض أن تلفت انتباه المديرية العامة للتمويل العمومي، خاصة أن هذه التحويلات المالية مراقبة من قبل هذه المديرية". مضيفة أن شركة "ماكنزي" لم تشرح في التقرير الذي قامت به كيف تقيم أرباحها.
وأضافت المنظمة غير الحكومية "أوكسفام" أن "شركة ماكنزي" للاستشارات اتبعت استراتيجية محكمة للحيلولة دون دفع ضرائب كثيرة على نشاطاتها في فرنسا. فعلى سبيل المثال، قامت بإدخال بعض النفقات المتعلقة بالإدارة العامة في خانة حسابات الشركة. والهدف وراء ذلك هو تقليص قيمة الضرائب التي كانت تدفعها هذه الشركة". فحسب جريدة "لوموند" المسائية، لم تكن شركة "ماكنزي" تدفع سوى 175 دولاراً كضريبة رمزية سنوياً.
كيف ردت شركة ماكنزي على هذه الاتهامات، وما علاقة ماكرون بها؟
من جانبها، أكدت شركة "ماكنزي" أنها احترمت جميع القواعد الضريبية والاجتماعية المعمول بها في فرنسا وقامت بدفع الضريبة عن الشركات خلال "السنوات التي حصلت فيها على أرباح في فرنسا". لكن بالرغم من هذه التفسيرات، إلا أن مجلس الشيوخ الفرنسي أعلن في 25 فبراير/شباط 2022 رفع دعوى قضائية ضد الشركة الاستشارية الأمريكية بتهمة " التشكيك في شهادة التزوير".
وبحسب صحيفة "لوموند"، عدد كبير من المستشارين الذين كانوا يعملون في الشركة الأمريكية "ماكنزي" شاركوا مجاناً في حملة ماكرون الانتخابية في 2017. وبعد فوز ماكرون بالانتخابات الرئاسية، تم تعيينهم في مناصب إدارية وحكومية عدة.
وحاول ماكرون الدفاع عن موقفه الأسبوع الماضي وحاول إطفاء الجدل الذي نشب بسبب فضيحة "ماكنزي". وأكد أن الاستعانة بشركات متخصصة في الاستشارة شيء متعامل به في زمن الرئيسين السابقين وهما نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، منوهاً إلى أن "كل ما قام به يدخل في إطار القانون والشرعية".
وقال ماكرون: "لم نوقع على أية صفقة دون أن نحترم قانون السوق العمومي ومبادئ الشفافية والمسؤولية ومبدأ المنافسة"، مضيفاً "البعض يشعر كأنه هناك حيلة، لكن هذا ليس صحيحاً. هناك قواعد تحكم السوق العمومي وفرنسا بلد القانون". وتابع: "إذا كانت بعض الوزارات التي تعمل ليلاً ونهاراً تستعين بشركات تقدم لها خدمات والاستشارة، فهذا لا يصدمني".
في نفس السياق، أكدت أميلي دو منشلان، وزيرة التحول الرقمي والخدمة العمومية أن "شركة "ماكنزي" لم تقرر إجراء أي إصلاح، لأن الكلمة الأخيرة في ما يتعلق بالإصلاحات التي نقوم بها في فرنسا تعود دائماً إلى الدولة". وواصلت: "لم يتم تجريدنا من مسؤولياتنا، هذه الممارسة منتشرة واعتيادية في غالبية الأحوال".
هل تقوّض هذه الأزمة حظوظ ماكرون في الفوز بولاية رئاسية ثانية؟
يقول تقرير لإذاعة voanews الأمريكية، إن معارضي الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته لا ينفكون عن إغضابه في المرحلة الأخيرة من حملته الانتخابية، وبعد كل فكرة يقترحها في حملته، تتساءل المعارضة بسخرية عما إذا كانت قد جاءت من شركة ماكنزي الأمريكية.
وأصبح استخدام الحكومة الفرنسية للاستشارات الخاصة خلال رئاسة ماكرون شوكة في حملته؛ لدرجة أن وزراءه باتوا يصعدون إلى المنصة لمحاولة حمايته من الجدل المتزايد قبل أيام فقط من الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي ستعقد في 10 أبريل/نيسان 2022؛ حيث وصف وزير الميزانية الفرنسية أوليفييه دوسوبت، الجدل حول قضية ماكنزي بـ"الاستغلال السياسي الفج".
ومع ازدياد جوقة النقد بصوت عالٍ، انتشر وسم #McKinseyGate على وسائل التواصل الاجتماعي في فرنسا، ليزيد من الضغط على ماكرون في حملته الانتخابية. وغردت مرشحة التجمع الوطني اليميني مارين لوبان: "مع إيمانويل ماكرون، ستستمر ماكنزي، التي كلفتك مليار يورو العام الماضي لمهام غامضة للغاية، في إغراق نفسها بالمال العام، وليس دفع الضرائب والكذب على مجلس الشيوخ!"
فيما قال كزافييه برتراند، الزعيم المحافظ البارز الذي يدعم المرشحة الرئاسية فاليري بيكريس، إن استخدام شركات الاستشارات الخاصة خلال فترة ماكرون كانت "فضيحة على مستوى الدولة"، داعياً إلى ضرورة فتح تحقيق قضائي.
ووسط مخاوف متزايدة بشأن تكلفة المعيشة، لا سيما بسبب الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على أسعار الطاقة، يتعرض ماكرون لهجوم شديد من قبل أحزاب اليمين واليسار، فاقمته أزمة ماكنزي.
ويخشى معسكر ماكرون من أن يؤدي الجدل حول هذه القضية إلى إحياء صورة ماكرون كرئيس للأثرياء، مستندة على ماضي الرئيس الشاب كمصرفي سابق في "روتشيلد"، حيث أصبحت هذه "الكلاشيه" عنواناً رئيسياً في احتجاجات حركة السترات الصفراء قبل نحو عامين.
ويتمثل التحدي الأبرز الذي يواجه ماكرون للفوز بفترة رئاسية ثانية في اهتزاز قاعدته الانتخابية، ويقول مستشار حكومي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لصحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، إن ماكرون واجه صعوبة التعامل مع تداعيات الأزمة في أوكرانيا وانعكاساتها على فرنسا، والجدل الآن حول ماكينزي يتفاقم، وبات يؤخذ على محمل الجد بالنسبة للرئيس ومن حوله في احتمال تأثيره على حظوظ الرئيس.
وعقد الرئيس المنتهية ولايته السبت 2 أبريل/نيسان الجاري أول مهرجان انتخابي له، قبل 8 أيام فقط من التصويت في الجولة الأولى، سعياً لتعبئة أنصاره، وصرخ فيهم: "لقد حان وقت التعبئة"، مطالباً الفرنسيين بالتوجه إلى صناديق الاقتراع في ظل احتمال هزيمته الذي كان مستبعداً تماماً قبل أسبوع فقط عندما كان متقدماً بفارق 12 نقطة مئوية عن منافسته الرئيسية ومرشحة اليمين المتطرف ماريان لوبان.