يبدو أن حياد أوكرانيا بات الأمل الأخير لوقف الهجوم الروسي، لكن ما يعنيه هذا الحياد ليس واضحاً أو على الأقل ليس متفقاً عليه بين الأطراف، فبوتين له تفسيره وزيلينسكي يحلم بحياد آخر.
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا قد بدأ 24 فبراير/شباط الماضي، وسط توقعات بأن تسقط العاصمة كييف بين أيدي الروس خلال أسابيع أو حتى أيام، لكن الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا والعقوبات غير المسبوقة على روسيا جعلا المهمة لا تسير على هوى الكرملين.
ومع دخول الحرب شهرها الثاني وفرض القوات الروسية حصاراً على المدن الأوكرانية الكبرى، تستمر المفاوضات بين الجانبين بوساطة تركية، ويقول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن المؤشرات الواردة من تلك المحادثات يمكن وصفها بأنها إيجابية.
وقبل أن تبدأ تلك الجولة من المفاوضات، كان زيلينسكي قد قال إن مفاوضين من كييف يدرسون مطلباً روسياً بالحياد الأوكراني: "هذه النقطة من المفاوضات مفهومة بالنسبة لي وهي محل مناقشة ودراسة بعناية".
تاريخ "الحياد" الأوكراني
قبل التطرق إلى إجابة السؤال، من المهم التأكيد على أن الأوكرانيين كانوا قد رفضوا تماماً فكرة "الحياد" التي طرحتها روسيا، وبالتالي فإن قبولهم مناقشة تلك الفكرة من حيث المبدأ مؤشر على أن هناك تقدماً ما قد يؤدي إلى وقف الحرب قريباً.
الوفد الأوكراني قدم مقترحات للوفد الروسي تتعلق بالتزام كييف بالحياد و"عدم الانضمام إلى الناتو والتعهد بأن تكون القواعد العسكرية في أوكرانيا خالية من أي وجود أجنبي". بينما قال الوفد الروسي إنه سينقل مقترحات الطرف الأوكراني إلى الرئيس، فلاديمير بوتين، للاطلاع عليها واتخاذ القرار بشأنها.
لكن الواضح أن "الحياد" الذي تريده روسيا مختلف عن "الحياد" من وجهة النظر الأوكرانية. والحياد في القانون الدولي، بحسب تعريفه في اتفاقية هولندا عام 1907، يعني بشكل عام ألا تنحاز الدولة لأي من الأطراف المتصارعة في وقت الحرب، وتعتبر مواد القانون الدولي في ذلك الإطار ذات طبيعة عامة من الصعب حتى اللجوء إليها في الحالة الأوكرانية.
فالأزمة الأوكرانية بالأساس أزمة جيوسياسية تتمثل في رفض موسكو انضمام كييف لحلف الناتو تحديداً وطلبها ضمانات قانونية مكتوبة من الأمريكيين بأن أوكرانيا لن تنضم أبداً للحلف العسكري الغربي، إذ إن ذلك يعني وضع أسلحة وقوات غربية على حدود روسيا مباشرة. الغرب، بقيادة أمريكا، رفض تقديم تلك الضمانات معتبراً إياها تدخلاً في شؤونه وشؤون أوكرانيا، رغم أن انضمام أوكرانيا للناتو لا يبدو وارداً من الأساس.
الدستور الأوكراني نفسه، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي واستقلال أوكرانيا عام 1991، كان ينص على أن "أوكرانيا دولة محايدة"، لكن تم تغيير تلك الصفة في الدستور عام 2019 لفتح الباب أمام كييف للاندماج أكثر مع المعسكر الغربي والانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
ما هو "الحياد" الذي تريده روسيا؟
السبب الرئيسي الذي ساقه فلاديمير بوتين لإطلاق العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، أو الغزو كما يسميه الغرب، هو سعي السلطات الأوكرانية للانضمام إلى الناتو، حتى وإن لم يكن ذلك هو السبب المباشر. السبب المباشر هو وقف "الإبادة الجماعية" التي تتعرض لها الأقلية الروسية في أوكرانيا، خصوصاً في الأقاليم الشرقية.
ومع بدء المفاوضات بين الجانبين- روسيا وأوكرانيا- بدأت تتضح ملامح وضع "الحياد" الذي يريد الروس فرضه على الأوكرانيين، وإن كانت الصورة الحقيقية أو الدقيقة لذلك الوضع لا تزال غير معلومة وربما لا يعرفها أحد سوى الرئيس الروسي ودائرته المقربة.
في منتصف مارس/آذار الجاري، وخلال الجولة الرابعة من مفاوضات وقف إطلاق النار بين الجانبين، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن موسكو تناقش النموذجين "النمساوي أو السويدي" للحياد لتطبيق أيهما على كييف، في إطار محادثات السلام الجارية بين الطرفين.
الحياد النمساوي يرجع تاريخه إلى الحرب الباردة، وهو الوضع الذي تبنته النمسا مقابل إنهاء قوات الحلفاء (المحور الغربي) احتلالها لفيينا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتم اعتماد "الحياد" في أكتوبر/تشرين الأول 1955 كجزء من الدستور النمساوي ينص على ألا تنحاز النمسا لأي طرف خلال الحروب وألا تنضم لأي حلف عسكري شرقي أو غربي وألا تستضيف على أراضيها قوات أجنبية.
أما الحياد السويدي فيرجع تاريخه إلى ما قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ التزمت السويد بالحياد بين الأطراف المتحاربة، وخلال فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والغرب، انضمت السويد إلى حركة عدم الانحياز.
لكن انضمت السويد إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995، وهو ما يعني عملياً أنها تخلت عن وضعها كدولة محايدة، ولا يزال قرار انضمام السويد لحلف الناتو يمثل ملفا رئيسيا في السياسة الداخلية للبلاد. وعلى الرغم من أن الرأي العام السويدي يبدو وكأنه أصبح أكثر ميلاً للانضمام للناتو، إلا أن رئيسة الوزراء الحالية ماغدالينا أندرسون استبعدت ذلك الاحتمال قائلة إنه "سيؤدي حتماً إلى مزيد من عدم الاستقرار"، بحسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
الحياد من وجهة النظر الأوكرانية
الرئيس الأوكراني زيلينسكي كان يرفض فكرة "الحياد" ويرى أن الضمان الوحيد لأمن أوكرانيا وسلامة أراضيها في مواجهة ما يراها "الأطماع الروسية" يكمن في الانضمام لحلف الناتو، حتى تتمتع بلاده بمظلة الحماية الغربية. لكن اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا خلط الأوراق بالنسبة للرئيس الذي كان لا علاقة له بالسياسة قبل أعوام قليلة.
فالرئيس الأوكراني كان يعمل ممثلاً كوميدياً وبدأت علاقته بالسياسة من باب الفن منذ عام 2015 عندما بدأ في تقديم أعمال تنتقد الأوضاع السياسية في أوكرانيا، وبصفة خاصة الفساد المستشري في البلاد، إذ تصنف أوكرانيا كواحدة من أكثر بلاد العالم فساداً. وقدم زيلينسكي مسلسلاً كوميدياً بعنوان "خادم الشعب"، لعب فيه دور مدرس تاريخ في مدرسة ثانوية يتمتع بشخصية جريئة وينتقد الفساد في أوكرانيا ويسخر من السياسيين وطبقة رجال الأعمال. حقق المسلسل شعبية هائلة، فحوله زيلينسكي، برعاية أحد كبار رجال الأعمال الأوكرانيين، إلى حزب سياسي يحمل نفس الاسم "خادم الشعب"، وترشح في الانتخابات الرئاسية عام 2019 ليفوز بها بأغلبية كبيرة.
لكن زيلينسكي الرئيس واجه واقعاً مختلفاً تماماً عما اعتاده كممثل، إذ وجدت أوكرانيا نفسها "وحيدة" عندما حانت لحظة المواجهة واجتاحتها روسيا بالفعل، بنص كلام الرئيس الأوكراني نفسه في اليوم الثاني لبدء الهجوم الروسي. وتغيرت تصريحات زيلينسكي بصورة درامية من يوم لآخر، فمرة يؤكد أن أوكرانيا ستنتصر ويقدم طلباً للانضمام "فوراً" للاتحاد الأوروبي، ومرة يقول إن فكرة الانضمام للناتو قد لا تكون "متاحة".
ففي أحد خطاباته أمام القوة الاستكشافية المشتركة (المسؤولة عن البت في قرارات الانضمام للناتو)، وكان ذلك منتصف مارس/آذار الجاري، اعترف زيلينسكي بأن انضمام بلاده للحلف العسكري الغربي لم يعد أحد الخيارات المتاحة أمام كييف: "من الواضح أن أوكرانيا ليست عضواً في الناتو، نحن نفهم هذا.. فعلى مدى سنوات سمعنا أن الباب مفتوح لكننا سمعنا أيضاً أننا لن نتمكن من الدخول، وهذه الحقيقة لا بدَّ من الاعتراف بها".
وبالتالي بدأ الرئيس الأوكراني يتخلى عن حلم الانضمام للناتو ويجهز بالفعل الرأي العام الأوكراني لتلك الحقيقة، لكن يبدو أن حلم الانضمام للاتحاد الأوروبي لا زال يداعب الرجل، وهذا هو ما يجعله متمسكاً بأي حل وسط يتيح لبلاده هذا الخيار في المستقبل.
والواضح هنا أن هذا هو ما أشار إليه المتحدث باسم الكرملين عندما ذكر "النموذج السويدي أو النمساوي"، لكن يظل السؤال إذا ما كان الرئيس الروسي بوتين قد يفتح الباب أمام أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل، على غرار السويد، خصوصاً أن هناك أصواتاً في السويد تطالب بالانضمام لحلف الناتو.
تقسيم أوكرانيا
يمكن القول هنا إن أحداث العمليات العسكرية على الأرض، مع دخول الحرب أسبوعها الخامس، تشير إلى تغيير واضح في الاستراتيجية الروسية المتعلقة بالأهداف الكبرى في نهاية المطاف. فالإعلان عن تخفيف حدة العمليات العسكرية في كييف وتشيرنيهوف (الغرب والشمال)، والإصرار الروسي على السيطرة على ماريوبول بأي ثمن، يشير إلى أن التركيز الروسي الآن تحول إلى إحكام السيطرة على الأقاليم الشرقية بشكل كامل.
وللتوضيح نجد أن نهر الدنيبر يقسم أوكرانيا إلى قسمين شرقي وغربي، ومع ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، ودعم الانفصاليين في إقليم دونباس والسعي للسيطرة على ماريوبول، يتضح أن الهدف العسكري هو السيطرة الكاملة على ذلك الشريط الشرقي من أوكرانيا، تمهيداً إما لضمه لروسيا، بعد إجراء استفتاءات على غرار ما حدث في القرم، أو لإعلانها جمهوريات مستقلة عن أوكرانيا.
وفي هذا السيناريو سيكون التفاوض خاص بوضع الشق الغربي من أوكرانيا، والحياد هنا سيكون معناه بالنسبة لبوتين هو النموذج السويسري، أي دولة بلا جيش من الأساس وينص دستورها على "الحياد" وعدم الانضمام مستقبلاً لأي من المعسكر الشرقي أو الغربي.
هذا السيناريو بالطبع يتطلب أن يحقق الجيش الروسي انتصاراً حاسماً في الأقاليم الشرقية مع مواصلة الحصار التام للعاصمة كييف والمدن الغربية لإجبار حكومة زيلينسكي على التسليم في نهاية الأمر وقبول "الحياد" على الطريقة الروسية، فهل يمكن أن يحدث هذا؟ أم أن الغرب سيواصل ضغوطه الاقتصادية لعزل روسيا وتوفير الدعم العسكري الغزير للأوكرانيين حتى يجبر بوتين على التخفيف من شروطه والقبول بحياد أوكرانيا على النموذج السويدي مثلاً؟