شهر رمضان موسم احتفالي بامتياز في الدول العربية وله مظاهره الخاصة التي تكاد تكون متطابقة من العراق إلى المغرب ومن سوريا إلى السودان وباقي الدول العربية، لكن ارتفاع الأسعار يُفسد الفرحة هذا العام.
وتسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا والعقوبات الغربية بارتفاعات غير مسبوقة في أسعار جميع السلع حول العالم، لكن وطأة تلك الارتفاعات في بلدان كمصر والسودان وتونس وسوريا واليمن والعراق وغيرها قتلت الفرحة بقدوم الشهر المعظم لدى المسلمين.
ورصد تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية، الأوضاع على الأرض في بعض الدول العربية، بعنوان "الشرق الأوسط يشعر بقرصة ارتفاع أسعار الغذاء مع اقتراب شهر رمضان"، تناول آراء بعض المواطنين في مصر والمغرب ولبنان وغيرها من الدول العربية.
ارتفاع أسعار كل شيء في مصر
ارتفعت أسعار منتجات البقالة في كل مكان ذهبت إليه سعاد عامر، لذا دخلت وهي يحدوها أملٌ مضطرب، إلى أحد الأسواق المُدعَّمة من الحكومة في حيِّها بالقاهرة، حيث انطلق صوت مكبر صوت يعِد ببيع السلع الأساسية لشهر رمضان بأسعار رخيصة.
وعندما تفقَّدت علب التمر- الذي عادةً ما يتناوله المصريون للإفطار خلال الشهر المبارك لدى المسلمين- سألت سعاد أحدهم عن سعر العلبة. كان السعر 20 جنيهاً، وهو ما يزيد على دولار واحد بقليل. وهو سعر مقارب لسعر كل شيء آخر تقريباً.
قالت سعاد (43 عاماً)، للصحيفة الأمريكية: "حسناً، اتركه حيث هو"، وأومأت بكتفيها. لدى سعاد ثلاثة أطفال بالمنزل يتعيَّن أن تطعمهم، وكانت تعرف بالفعل أنَّ مائدتها الرمضانية لن ترى كثيراً من اللحم أو أي بط، وهو تقليد سنوي خلال العطلة. وقالت: "إنَّنا فقط نشتري ونشتري ونشتري، وننفق وننفق وننفق".
ويحلُّ شهر رمضان في الثاني من أبريل/نيسان 2022، وهو موسم احتفالي عادةً ما يتطلَّع فيه الناس في مختلف أرجاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى التجمُّع مع الأصدقاء والعائلة، وشراء ملابس جديدة، وإقامة مآدب طعام بعد المغرب وتمتد حتى وقت متأخر من الليل.
لكن هذا العام، ارتفعت أسعار المواد الغذائية مثل الزيت والسكر والدقيق والأرز، في عموم المنطقة نتيجة ارتباك سلاسل التوريد العالمية والحرب بين روسيا وأوكرانيا، اللتين تُصدِّران كثيراً من السلع الأساسية والغذاء، وضمن ذلك القمح والأسمدة والغاز.
ويهدد هذا الواقع بسحق ميزانيات الأسر والحكومات على حدٍّ سواء، في بلدان لم يكن لديها ما تدخره، الأمر الذي يزيد احتمالية حدوث اضطرابات شعبية جماعية من النوع الذي لم نشهده منذ احتجاجات الربيع العربي قبل عقد من الزمن، وهي التي نبعت جزئياً من ارتفاع أسعار الغذاء.
وكانت هذه النقطة تحديداً حجر الأساس في تحليل نشرته مجلة Foreign Affairs الأمريكية بعنوان "الشرق الأوسط على الحافة من جديد"، رصد الأوضاع في المنطقة بعد ما يزيد على عقد من الربيع العربي، الذي أطاح بالعديد من النظم السلطوية في الشرق الأوسط، وأدخل أخرى في فوضى، وكيف بدأ نظامٌ سلطوي جديد يتشكل في المنطقة.
المغرب وتونس وسوريا ولبنان
ويفتك الجفاف بالاقتصاد المغربي بالفعل، بينما كانت حكومة تونس المُثقَلة بالديون تعاني للدفع مقابل واردات القمح حتى قبل أن تندلع الحرب. ويرتجف لبنان تحت وطأة انهيار اقتصادي. وتواجه سوريا، التي اجتاحتها الحرب والفقر المتنامي بالفعل، الآن أسعار الشاي والتمور التي تضاعفت مرتين أو حتى ثلاث مرات منذ رمضان الماضي، وذلك بحسب سكان دمشق.
وفي مصر، حيث انتشرت مقاطع فيديو لأشخاص عاديين يُنفِّسون عن أنفسهم بخصوص أسعار الغذاء على وسائل التواصل الاجتماعي في هاشتاغ "ثورة الجوع"، اضطرت الحكومة إلى التحرك سريعاً لتخفيف الضربة.
ففي إشارة واضحة على المحنة، أعلنت مصر، الأربعاء 23 مارس/آذار، أنَّها بدأت مباحثات مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة مساعدات جديدة، هي الثالثة في غضون ست سنوات، وأشارت في بيان إلى أنَّ صدمة الحرب الأوكرانية قد تسبَّبت بارتفاع الأسعار إلى مستويات "غير مسبوقة" ودفعت المستثمرين الأجانب إلى الفرار.
جاء هذا الإعلان بعد مجموعة من الإجراءات الأخرى التي تهدف إلى استقرار الاقتصاد وتخفيف الألم عن المواطنين، بما في ذلك تحديد سعر الخبز غير المُدعَّم، وإضافة مزيد من المصريين إلى قوائم المساعدات الاجتماعية، والسماح بانخفاض الجنيه المصري مقابل الدولار، ورفع أسعار الفائدة، وتسريع علاوات المعاشات التقاعدية ورواتب موظفي الحكومة.
ولا يمكن أن تأتي الإغاثة في وقتٍ قريب كفاية في بلدٍ يعيش نحو ثلث سكانه في فقر ويعتاشون على أقل من دولارين يومياً.
قال هشام علي (62 عاماً)، والذي يعمل في كشك لبيع الفاكهة بحي العباسية الذي تقطنه الطبقة الوسطى، لـ"نيويورك تايمز": "لا أحد يشتري، لأنَّ الناس خائفون من الأسعار. لا توجد أموال". ولم يستطع أن يلوم زبائنه، فقال إنَّه براتب أقل من 6 دولارات يومياً، بالكاد يمكنه تحمُّل إطعام أطفاله الفاكهة.
ولن يدخر المصريون الأيسر حالاً أي أموال هذا العام أو سيتجنَّبون شراء ملابس جديدة. وقال علي إنَّه عكس رمضان الماضي، "لا يوجد أي شيء حتى الآن يمنحك شعوراً بأنَّ أمراً جيداً سيحدث".
منعت مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، المزارعين من تصدير القمح وقدَّمت حوافز لهم كي يزرعوا المزيد، حتى في الوقت الذي كانت تفكر فيه في إصلاح برنامج دعم الخبز توفيراً للمال. وفي المغرب، حيث يعتمد الناس على الطماطم والحمص والفول والعدس خلال رمضان، علَّقت الحكومة صادرات الطماطم وسط أسوأ موجة جفاف منذ ثلاثة عقود.
تداعيات كورونا ثم جاءت حرب أوكرانيا
كانت نادية القباج، وهي متعهدة تقديم طعام في العاصمة المغربية الرباط، تستعد لبيع الحلوى الرمضانية التقليدية مثل الشباكية. لكن مع ارتفاع أسعار الدقيق واللوز والزبدة والزيت ومناشدة موظفيها رفع الأجور لتغطية نفقاتهم، قالت إنَّها اضطرت إلى رفع الأسعار بنسبة 10%، وشهدت في الوقت نفسه تخفيض العملاء طلبياتهم بشدة.
مع ذلك، كانت نادية محظوظة بأن يبقى عملها مفتوحاً أساساً. وقالت للصحيفة الأمريكية إنَّ بعض المغاربة سيتمكَّنون من التأقلم من خلال استهلاك كميات أقل من الزيت أو ترشيد استهلاكه من خلال شوي الطعام بدلاً من قليه. وأضافت: "لكنَّ الفقراء يعانون. ماذا سيأكلون للإفطار؟".
وقال عبد الله السباعي (72 عاماً)، وهو سائق تاكسي في بيروت، إنَّ حقيبتي الخبز المفرود اللتين تحتاجهما أسرته المكونة من خمسة أفراد يومياً، تبتلعان وحدهما معظم أرباحه، التي تقلَّصت مع ارتفاع أسعار الوقود وتقليص اللبنانيين مرات ركوبهم سيارات التاكسي.
ومع اقتراب رمضان، شعر السباعي بالحنين إلى موائد العطلات في الماضي. فهذا العام لن يكون هنالك إلا عدس وفول. وقال: "جرت العادة بأن تكون المائدة الرمضانية غنية باللحم وكل أنواع الحلوى، لكن مرت ستة أشهر منذ أن تناولتُ اللحم. وبالطبع أصبح السمك حلماً".
وفي تونس ومصر، هنالك تذمُّر من نوع المشاعر المناهضة للحكومة والتي أدَّت إلى الإطاحة بالديكتاتوريين في كلا البلدين عام 2011.
يقول التونسيون إنَّ صبرهم ينفد تجاه وعود الرئيس قيس سعيِّد غير المتحققة بشأن الإنقاذ الاقتصادي. وفي مصر، يتصدر هاشتاغا "ثورة الجوع" و"ارحل يا سيسي" وسائل التواصل الاجتماعي منذ بضعة أيام في ظل ارتفاع أسعار الخبز.
ومع انتشار السخط في مصر، دعَّمت الحكومة أصحاب المتاجر المحليين من أجل افتتاح أكشاك مُخيَّمة بجوانب الشوارع لبيع مواد غذائية وزينة رمضان إلى جانب اللحم والسلع الأساسية بأسعار أرخص.
قال أشرف زكي (50 عاماً)، وهو جزار فتح في أحد هذه الأكشاك، إنَّ الحكومة ضغطت عليه وعلى جزارين آخرين لتخفيض أسعارهم.
وقال عبد المنعم سعيد علي، وهو كاتب ومحلل سياسي موالٍ للحكومة، إنَّه يعتقد أنَّ جهود الحكومة لاستقرار الاقتصاد ستُهدِّئ الجمهور بما يكفي لتجنُّب الاضطرابات.
لكنَّ محللين مستقلين قالوا إنَّ الحكومة أهدرت الفرص السابقة لوضع الاقتصاد المصري على أرضية صلبة بعد حزمة إنقاذ بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي عام 2016. وبدلاً من بناء صناعات يمكنها خلق فرص عمل مستدامة وجيدة الرواتب مثل التصنيع أو البحوث والتنمية، أنفقت الحكومة بدون حساب على التنمية العقارية، وضمن ذلك مشروعات عملاقة مثل العاصمة الجديدة التي يبنيها السيسي في الصحراء.
وقال تيموثي كالداس، محلل الاقتصاد السياسي بمعهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط في واشنطن، إنَّه مع أنَّ اتفاق 2016 قد كلَّف مصر بالقيام بإصلاحات تهدف إلى تنمية القطاع الخاص وخفض الفقر، تقلَّص القطاع الخاص في كل شهر تقريباً منذ الاتفاق، جزئياً لأنَّ الشركات المملوكة للجيش التي تتمتع بإعفاءات ضريبية وامتيازات أخرى، تزاحم منافسة القطاع الخاص.
وكانت سياسات التقشف قد قلَّصت بالفعل القدرة الشرائية للمصريين بصورة كبيرة قبل جائحة فيروس كورونا والحرب الأوكرانية.
قال محمد أبو سمرة، الاقتصادي بالمجموعة المالية هيرميس، وهي بنك استثماري مصري: "فيما كان العالم يحاول نسيان الجائحة، أصبحت لديك حرب".
وأضاف أنَّ دعم صندوق النقد الدولي على الأرجح سيساعد مصر في مواجهة هذه الأزمة على وجه التحديد، "لكنَّ التحدي الرئيسي هو الوصول إلى مسار نموٍ أكثر استقراراً".