قبل حتى أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا ويُربك النظام العالمي، كانت منطقة الشرق الأوسط تواجه واقعاً جديداً وتحولات كبرى تتعلق بالتحالفات، لكن لماذا تبدو المنطقة على الحافة من جديد؟
نشرت مجلة Foreign Affairs الأمريكية تحليلاً أعدته مها يحيى، مديرة مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط، بعنوان "الشرق الأوسط على الحافة من جديد"، رصد الأوضاع في المنطقة بعد ما يزيد عن عقد من الربيع العربي، الذي أطاح بالعديد من النظم السلطوية في الشرق الأوسط، وأدخل أخرى في فوضى، وكيف بدأ نظامٌ سلطوي جديد يتشكل في المنطقة.
فمصر وتونس، أول بلدين يُخلِّصان نفسيهما من الديكتاتوريين طويلي الأمد عام 2011، واجهتا انقلابَيْن أعاداهما إلى السلطوية. وشهد السودان، الذي كان قد انتظر حتى 2018 كي تنجح ثورته هو الآخر عملية انتقاله الديمقراطي، التي كانت واعدة سابقاً، تخرج عن مسارها نتيجة انقلاب.
وفي الوقت نفسه، وسَّعت إيران مجال نفوذها في أرجاء الشرق الأوسط، لاسيما في العراق ولبنان واليمن، في حين زادت الصين وروسيا نفوذهما في المنطقة، وبفضل هذه الاتجاهات جزئياً تجري بهدوء إعادة نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا إلى الحظيرة العربية.
يمثل هذا في جزءٍ منه ردة فعل سلطوية، إذ قمعت النظم السلطوية التي نجت من الموجة الأولى من الربيع العربي، والتي شعرت بالقلق من المشاهد غير المسبوقة لخروج المواطنين إلى الشوارع للمطالبة بحقوقهم، أولئك الذين انضموا إلى الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية، وقدَّمت عطايا لكسب أولئك الذين كانوا ينوون فعل ذلك.
أنظمة سلطوية دون إغراءات اقتصادية
كانت الوعود البحرينية بتوفير فرص العمل ورفع الأجور في مطلع 2011، وما تلا ذلك من اعتداء على المتظاهرين في المنامة -بمساعدة من قوات من السعودية- هي أول مثال لهذا النهج. وأعقب ذلك أعمال قمع أكثر وحشية بكثير، انتهت بصراعات أهلية في ليبيا وسوريا واليمن، ومزيج من القمع والاستيعاب في بلدان أخرى شهدت حركات احتجاجية صغيرة مثل الأردن والمغرب. وانتزع القادة السلطويون لاحقاً السلطة في مصر والسودان وتونس.
وبعيداً عن الانتقام من النظام القديم، تُمثل العودة السلطوية البادية في أرجاء الشرق الأوسط قصة الانسحاب الأمريكي من المنطقة، والتحولات الجيوسياسية التي سبَّبها ذلك. فقد سعت آخر ثلاث إدارات أمريكية، وخصوصاً آخر إدارتين، لتقليص الالتزامات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه الحفاظ على تركيز واشنطن طويل الأمد على مكافحة الإرهاب.
وأدَّى ذلك إلى تقليص النفوذ الأمريكي في المنطقة، وجعل الولايات المتحدة أكثر تساهلاً مع الشركاء السلطويين، ما داموا كانوا يدعمون أولوياتها الرئيسية. وفتحت أيضاً الباب أمام نشاط إقليمي أكبر من جانب الصين وروسيا والقوى الإقليمية مثل إيران والسعودية وتركيا ودول الخليج، وكلها تتصور أنَّ مصالحها الوطنية تمتد بعيداً خارج حدودها.
كانت النتيجة إعادة إحياء جزئية للنظام السلطوي القديم، فضلاً عن أنَّه بدون الصفقة السلطوية -أن يتقبَّل السكان على مضض الرخاء الاقتصادي بديلاً عن الحرية السياسية- التي كانت توطده سابقاً، إذ تقمع الحكومات المستبدة في أرجاء المنطقة حقوق الإنسان، وتعيد الديمقراطية إلى الوراء، لكن لا يمكنها تقديم شيء يُذكَر فيما يتعلَّق بفرص العمل أو الفرص الاقتصادية الأخرى في المقابل.
وحتى مع ارتفاع أسعار النفط نتيجة للحرب في أوكرانيا، ما أدى إلى تحسين الأفق الاقتصادي على المدى القصير لبعض الحكومات في الشرق الأوسط، فإنَّ حكومات كثيرة أخرى لا تزال تترنَّح من جرَّاء جائحة كوفيد 19، وتواجه اتجاهات اقتصادية غير مواتية على المدى الطويل، بما في ذلك أزمة مناخية تلوح في الأفق، ستصيبهم بصورة أقوى من معظم البلدان الأخرى. إنَّ المستبدين الشرق أوسطيين اليوم ليسوا واجهة نظام سلطوي مستقر جديد، إنَّهم يمثلون ترتيباً هشاً يمكن أن يتصدَّع في المستقبل القريب.
شتاء عربي
كانت السنوات التي تلت الانتفاضات العربية عام 2011 مُخيِّبة بالنسبة لأنصار الديمقراطية، فلم تروِّع الحرب الأهلية ليبيا وسوريا واليمن وحسب، بل فضَّلت تلك الحكومات التي ظلَّت مستقرة في الغالب القمع والرقابة عن الإصلاح. ففي الجزائر والبحرين ومصر والأردن والمغرب وعُمان والسعودية والسودان وتونس وغيرها، قيَّدت الحكومات الحريات الأساسية، وضيَّقت على المجتمع المدني.
وزجَّت الكثير من البلدان بالمدافعين عن حقوق الإنسان في السجن، وسحبت بعضها، مثل البحرين، الجنسية من منتقدي الحكومة. مع ذلك استغلت معظمها جائحة كوفيد 19 ذريعةً لفرض حظر تجول وقيود على الحركة وتشديد الرقابة، واستخدمت الإمارات تطبيق التراسل Totok للتجسس على الملايين.
وأثارت الانقلابات في بلدين، العام الماضي، التساؤلات بشأن قصتي النجاح الوحيدتين المتبقيتين في المنطقة. ففي يوليو/تموز، علَّق الرئيس التونسي، قيس سعيد، عمل البرلمان، وأقال رئيس الوزراء، وأعلن أنَّه سيحكم بموجب مراسيم. وأَمَرَ كذلك باعتقال أعضاء بالبرلمان وصحفيين انتقدوا أفعاله. وفي أكتوبر/تشرين الأول، قام الفريق أول عبد الفتاح البرهان بانتزاع مماثل للسلطة، فعلَّق الحكومة الانتقالية في البلاد، وعيَّن حكومة جديدة، ومنح قوات الأمن سلطات طوارئ جديدة لملاحقة المواطنين السودانيين الذين يقاومون الحكم العسكري.
وتَعزَّز هذا التوجه نحو السلطوية بانسحاب الولايات المتحدة التدريجي من الشرق الأوسط، فقد تخلّت واشنطن على مدار العقد المنصرم عن هدفيها التوسعيين المتمثلين في الدمقرطة والتحول الإقليمي، وأحلَّت بدلاً منهما مجموعة أكثر تواضعاً من الأولويات، وهي ضمان الاستقرار الإقليمي، ومنع إيران من حيازة السلاح النووي، ومكافحة الإرهاب الذي يهدد البر الأمريكي.
ومنح تقليص الولايات المتحدة لحضورها في المنطقة القوى الإقليمية مساحة أكبر للسعي لتحقيق مصالحها السلطوية، ولم يكن من المفاجئ أن منحت الأولوية لبقائها على حساب رفاه شعوبها.
ومع انسحاب واشنطن، انتقلت روسيا والصين أيضاً لملء بعض الفراغ، ما هدد بتحويل الشرق الأوسط إلى ساحة لتنافس القوى الكبرى. فأصبحت موسكو متورطة بشدة في الصراع السوري على وجه التحديد، وحققت نتائج دبلوماسية وعسكرية كبيرة بتكلفة منخفضة نسبياً.
وزادت أيضاً نفوذها في مناطق من العالم العربي، لاسيما شمال إفريقيا، حيث استخدمت صفقات الأسلحة والمرتزقة لتعزيز مصالحها. وأعادت الحرب في أوكرانيا موسكو إلى توجيه تركيزها قريباً من الوطن، لكن سيكون من المبكر حتى توقُّع أن تدير روسيا المتمددة عسكرياً والمعزولة دولياً ظهرها للشرق الأوسط.
وعمَّقت الصين أيضاً علاقاتها مع البلدان في أرجاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فوسَّعت شراكاتها التجارية والاقتصادية، وأسست مبادرات البنية التحتية والطاقة والتمويل والتكنولوجيا. وأبرمت اتفاقيات دبلوماسية متعددة الأطراف واتفاقيات ثنائية عسكرية مع مصر وإيران والسعودية، ورحَّبت الحكومات العربية بالحضور الصيني المتنامي في المنطقة، جزئياً، لأنَّه يسمح لها بتنويع علاقاتها مع القوى الكبرى في ظل انسحاب الولايات المتحدة، وجزئياً لأنَّ بكين تشاطرها بغضها للقيم الديمقراطية.
وفي هذا السياق، أصبحت مجموعة من القوى المتوسطة أيضاً أكثر نشاطاً في تأمين مصالحها في المنطقة. فباتت الإمارات، التي كانت في السابق فاعلاً إقليمياً صغيراً نسبياً، الآن لاعباً نافذاً في مصر وليبيا والسودان وتونس واليمن ومنطقة القرن الإفريقي، وكثيراً ما تقدم الدعم المالي والسياسي للحكومات السلطوية، وسلَّحت قوات وكيلة على حساب القادة المنتخبين أو ذوي التوجهات الإصلاحية.
وليس مفاجئاً أنَّ القوى السلطوية في أثناء سعيها لتحقيق مصالحها بعيداً خارج حدودها قد فعلت ذلك في كثير من الأحيان على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لا حرية تعبير ولا استقرار اقتصادياً
من جديد، يُطلَب من مواطني الشرق الأوسط الاختيار بين الحرية والاستقرار، لكن بعكس الجيل الماضي من المستبدين العرب، الذين كان بإمكانهم على الأقل ادعاء أنَّهم يقدمون مزايا اقتصادية اجتماعية مقابل طاعة سياسية، لا يمكن لمجموعة القادة السلطويين الجديدة التعهُّد بالرخاء ولا بالاستقرار.
فالبلدان العربية، التي تواجه رياحاً عكسية اقتصادية متزايدة، بعضها بفعل الجائحة وأخرى بفعل اتجاهات الطاقة والمناخ غير المواتية طويلة الأجل، عاجزة على نحوٍ متزايد عن الوفاء بجانبها من الصفقة السلطوية. فلبنان والعراق في ضوائق اقتصادية شديدة، وتغرق ليبيا وسوريا واليمن في حرب أهلية، وتواجه أزمات إنسانية خطيرة.
وحتى البلدان المستقرة نسبياً مثل مصر وتونس تعاني اقتصادياً، في حين يتعين على دول الخليج، التي كانت سابقاً بالغة الثراء، أن تتعامل مع النهاية الوشيكة لعصر النفط. وربما منحها الغزو الروسي لأوكرانيا فسحة مؤقتة، لكنَّ أنظمتها الريعية ستصبح في النهاية غير مستدامة. وترتفع معدلات الدين العام بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي في أرجاء المنطقة، في حين يتراجع الإنفاق على الخدمات العامة.
اضطلعت بعض الحكومات العربية التي تفتقر إلى الأدوات لاستيعاب المجتمع، بمشروعات عملاقة تهدف لإبراز قوة الدولة وعظمتها، دون تقديم أي خدمات حقيقية، ومصر مثال بارز.
إذ يمكن أن تبلغ تكلفة العاصمة الإدارية الجديدة المزمعة، والتي يملكها بالأساس الجيش ووزارة الإسكان، ما يصل إلى 60 مليار دولار. ودفع الإنفاق العام على هذا المشروع والمشروعات القومية الأخرى معدل الدين العام بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي في مصر إلى نسبة فلكية تبلغ 88%. واتبعت الحكومة التونسية، بدرجة أقل، أيضاً سياسات الرمزية مع تجاهل الحقائق الاقتصادية، وهو ما أذكى السخط الشعبي ببعض الطرق التي تعكس المزاج العام في الفترة السابقة على الثورة التي بدأت في 2010.
ولن تؤدي التحديات البيئية، بما في ذلك درجات الحرارة الآخذة بالزيادة وندرة المياه، إلا لتصعيب نمو اقتصادات البلدان العربية. فالشرق الأوسط يحترُّ بمعدل ضعف المعدل المتوسط العالمي، وهو ما يزيد انعدام الأمن الغذائي والهجرة الحضرية والتنافس على الموارد.
ويقع 17 بلداً من بلدان العالم الأشد معاناة من الإجهاد المائي في المنطقة، ووفقاً للبنك الدولي ستكلف ندرة المياه الحكومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ما بين 7 و14% من ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2050. ويدفع التصحر المتزايد الناس باتجاه المدن، ما يفرض ضغوطاً أكبر على البنية التحتية ويزيد التوترات بين الجماعات.
وازداد اعتماد البلدان العربية على الترهيب بسبب عجزها عن إعالة مواطنيها، وهذا بدوره عزّز ثقافة الإفلات من العقاب على صعيد المنطقة. وفيما بدأت البلدان العربية تطبيع العلاقات مع نظام الأسد في سوريا، لا يبدو أنَّها مهتمة بمحاسبة المسؤولين السوريين على جرائمهم المروعة. ولا يبدو أنَّ هناك اهتماماً كبيراً بحل مشكلة اللاجئين، التي سيستخدمها النظام السوري على الأرجح كورقة ضغط لتسريع عملية التطبيع.
نظام غير مستقر
ويخلص تحليل فورين أفيرز إلى أنَّ النظام الاستبدادي الجديد الذي تُرسى دعائمه في الشرق الأوسط مُقدَّرٌ له أن يكون غير مستقر. فبعيداً عن "السلطوية الثابتة" التي رآها الكثير من الباحثين في المنطقة قبل انتفاضات 2011، من المرجح أن يؤدي مزيج القمع الداخلي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، والتدخل الدولي الذي ترسَّخ في العواصم العربية إلى إنتاج عدم استقرار أكبر، ومزيد من العنف، وعودة التطرف.
وتعاني الحكومات السلطوية في الشرق الأوسط لتوفير المزايا الاقتصادية الاجتماعية التي كانت تهدِّئ جماهيرها سابقاً. ويضطلع الفاعلون المسلحون، سواء أجهزة الأمن الوطني أو الميليشيات الخاصة، بدور أهم في العديد من البلدان، اقتصادياً وسياسياً. وفي غضون ذلك، يتعرَّض المواطنون العاديون لضغوط بفعل العنف المتنامي من ناحية، وتضاؤل الموارد من ناحية أخرى، تماماً مثلما كانوا قبل الانتفاضات العربية في 2011، وفي العراق وسوريا، قبل صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
وأضافت روسيا والصين إلى هذا الوضع السياسي الملتهب توترات متصاعدة بين القوى العظمى، في حين أذكت إيران وبلدان الخليج الهُويات السياسية وحوَّلتها إلى سلاح في مسعى للحصول على نفوذ إقليمي أكبر.
وبات السُّنَّة في أرجاء الشرق الأوسط يشعرون بالانزعاج من سياسات إيران التوسعية، بعدما رأوا القوات السورية المدعومة من إيران وروسيا، والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش، يدمرون أربع مدن سُنّيّة رئيسية، هي الموصل والرقة وحمص وحلب. ولا يجب أن يؤدي المنعطف السلطوي في الشرق الأوسط لطمأنة أحد، بل يجب أن يمثل تحذيراً من عدم استقرار أكبر آتٍ.