مع دخول الهجوم على أوكرانيا شهره الثاني دون أن تلوح في الأفق نهاية عسكرية حاسمة كانت تخطط لها موسكو، يبدو أن روسيا بدأت تنفذ بأوكرانيا ما طبقته في حربها بسوريا دعماً لنظام بشار الأسد، بحسب صحيفة بريطانية.
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا قد بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي، وسط توقعات بأن تسقط العاصمة كييف بين أيدي الروس خلال أسابيع أو حتى أيام، لكن الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا والعقوبات غير المسبوقة على روسيا جعلا المهمة لا تسير على هوى الكرملين على ما يبدو.
ونشرت صحيفة The Guardian البريطانية تحليلاً عنوانه "كيف تطبّق روسيا تكتيكات من الحرب السورية في أوكرانيا"، قارن بين مسار الحرب في أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بالعملية العسكرية الخاصة ويصفه الغرب بالغزو، وما حدث على الأراضي السورية عندما تدخل الجيش الروسي لإنقاذ نظام بشار الأسد، الذي كان قاب قوسين أو أدنى، من السقوط لصالح المعارضة.
وتقول "الغارديان" إن الخراب الذي حولت الضربات الروسية المدن الأوكرانية إليه- وقتل وجرح وترويع آلاف المدنيين- دفع البعض إلى تشبيه هذه الحرب بالحرب العالمية الثانية، ولكن ثمة سابقة أقرب. فالتكتيكات المستخدمة في هذه الحرب، وحتى بعض الجنود الروس، جاءت مباشرة من الحرب الأهلية في سوريا، التي انضمت إليها موسكو عام 2015 لدعم بشار الأسد.
وتوقع بعض المراقبين أن بوتين لن ينقل تكتيكات سوريا إلى أوكرانيا لأجل العلاقات الأسرية والصداقات الوثيقة الممتدة بين البلدين. فالسوريون من بلد بعيد ولا يعرفهم معظم الروس، ولكن سكان ماريوبول بينهم أقارب وزملاء دراسة وزملاء عمل سابقون، بحسب الصحيفة البريطانية.
على أنه خلال الشهر الماضي، كانت الأهداف واحدة: مستشفيات ومدارس وأسواق وطوابير خبز ومسرح. وهذا ما يكشفه تحليل لخمسة عناصر رئيسية من "دليل استراتيجيات سوريا"، يشرح كيف انتقلت تكتيكات من حرب لإحداث دمار في حرب أخرى.
حصار مناطق قوات المعارضة
حاصرت القوات السورية والروسية عدة مدن في سوريا؛ لتجويعها وإجبارها على الخضوع، واتخذت رهائن من المدنيين مع تقدُّم القوات في هجومها على مقاتلي المعارضة.
ولعل حصار حلب عام 2016 هو الأشهر. فقد قطع عن قوات المعارضة خطوط إمدادها ثم حوصرت، شارعاً بعد آخر، لأكثر من ستة أشهر، في الوقت الذي بدأ فيه قصف عشوائي.
والآن يحدث الشيء نفسه في ماريوبول، حيث تقترب القوات الروسية من القوات الأوكرانية المحاصرة بين خطوط المواجهة والبحر.
ويبدو أن القوات الروسية تحاول فرض حصار مشابه على العاصمة كييف ومدينة خاركيف الكبرى في شرق أوكرانيا، على أن القوات الأوكرانية تمكنت من إبقاء خطوط الإمداد مفتوحة.
خدمات المدنيين
استهداف المدنيين عمداً غير قانوني بموجب القانون الدولي، ولكنه قد يكون فعالاً أيضاً. فهو ينشر الرعب، ويُضعف إرادة المقاتلين، ويدمر المجتمع الذي يعتمدون عليه في الدعم المادي والمعنوي.
وخلال معركة حلب التي استمرت ثمانية أشهر، أفادت تقارير بأن المدنيين تضرروا مما لا يقل عن 16 هجوماً على المستشفيات، حيث وصلت أعداد الوفيات إلى نحو 143 حالة، وفقاً لمنظمة Airwars غير الربحية. ووُثقت عشرات الضربات على مرافق الرعاية الصحية على مستوى سوريا، وكان من ضمنها هجمات متعددة رُبطت مباشرة بالقوات الروسية.
ووثقت منظمة الصحة العالمية ما لا يقل عن 43 هجوماً على مؤسسات الرعاية الصحية في أوكرانيا منذ بدء الحرب، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 12 شخصاً. وتعطلت الرعاية الصحية لعدد لا يحصى من المرضى الآخرين، ومنهم أطفال في جناح السرطان محاصرون بمدينة تشيرنيهيف وينفد مخزونهم من المسكنات.
والمدارس أيضاً تعرضت للهجوم. ففي سوريا كان الأطفال يُقتلون أثناء الدراسة. على أن أوكرانيا أوقفت الدراسة، ولذلك لم يسقط طلاب صرعى أثناء القصف، ولكن وقعت إصابات. وأصاب صاروخ في ماريوبول مدرسة فنون تؤوي ما لا يقل عن 400 شخص.
وتضررت إمدادات المياه والغاز والكهرباء بسوريا. وفي أوكرانيا، تعرضت محطة للطاقة بالشرق للهجوم حتى قبل أن تبدأ روسيا غزوها الكامل، وتعطلت إمدادات المرافق على مستوى البلاد. وشتاء أوكرانيا القارس يزيد من قسوة هذا الدمار.
كثرة استخدام الأسلحة العشوائية
في أوكرانيا، نشرت القوات الروسية أسلحة عشوائية عند استهدافها مناطق سكنية في البلدات والقرى، وحولت قرى بأكملها إلى أنقاض.
وأعداد الضحايا المدنيين في هذا النوع من الهجمات مرتفعة. إذ يُقتل الناس بأعداد كثيرة، ولا يمكن دفن الجثث، ويلجأ الناجون إلى المكوث في أقبية شديدة البرودة بدون ماء لأيام، وإمداداتهم الغذائية تتضاءل، وآمالهم في الخروج تبددت غير مرة.
ومن جديد، تظهر سوريا في الصورة، حيث تُذكّرنا مقاطع الفيديو التي تصور آثار الخراب في أوكرانيا بلقطات من حلب. وفي سوريا، يُزعم أن القوات الروسية استخدمت "القنابل الفراغية"- وهي قنابل مميتة تسحب الأوكسجين من الجو- مئات المرات على أحياء مكتظة بالسكان.
واستخدمت روسيا أيضاً أسلحة أخرى غير تمييزية، بحكم بطبيعتها، في كلا البلدين، مثل القنابل العنقودية، التي تنتشر من عبوة رئيسية، وصواريخ غراد العشوائية غير الموجهة والمصممة لساحات القتال المفتوحة.
وأفادت تقارير بأن القنابل العنقودية اُستخدمت 567 مرة في سوريا، ونتج عنها مقتل ما لا يقل عن 2000 مدني. واُستخدمت أيضاً على نطاق واسع في أوكرانيا، من خاركيف في الشمال الشرقي إلى ميكولايف في الجنوب.
واستغلت روسيا حروبها أيضاً لتطوير تكتيكات واختبار أسلحة جديدة. إذ تباهى وزير الدفاع الروسي باختبار أكثر من 300 نوع جديد من الأسلحة في سوريا. وفي أوكرانيا، تزعم روسيا أنها استخدمت صواريخ جديدة فرط صوتية لأول مرة.
الممرات الإنسانية
الجزء الرابع من "دليل الحرب السورية" هو الإعلان عن ممرات إنسانية. فقد أصبح مشهد الحافلات التي تصطف لتنفيذ مهام إنقاذ، ثم تُضطر إلى الانتظار ريثما ينتهي القصف، مألوفاً في سوريا وتكرر في أوكرانيا.
ولعل ماريوبول هي المثال الأشهر في أوكرانيا. فبعد أسابيع من الهجوم وخيبات الأمل، فر عشرات الآلاف في قوافل سيارات خاصة فور انتشار نبأ سماح نقاط التفتيش الروسية للمدنيين بالمرور. ومن لا يملكون سيارات وقعوا بين خيارين أحلاهما مُر: فإما أن يمشوا عدة كيلومترات، وإما أن يبقوا في المدينة المدمرة.
وفي سوريا، كانت روسيا تعلن أحياناً عن ممرات إنسانية من جانب واحد دون التنسيق مع المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وهذا يعني عدم تمكنها من مراقبتها، وفقاً لإيما بيلز، الباحثة غير المقيمة في معهد الشرق الأوسط بواشنطن. والممرات كانت تفتح أحياناً لفترة قصيرة جداً تفقد معها فائدتها، أو كانت غير عملية أو حتى تنقل المدنيين إلى مناطق خاضعة لسيطرة القوات العسكرية التي كانوا يفرون منها.
واتُّهمت روسيا وحلفاؤها سبع مرات على الأقل بقتل أو إصابة مدنيين أثناء استهداف قوافل إنسانية في سوريا، وبعضها كان ينقل طعاماً، ما أدى إلى مقتل 44 شخصاً على الأقل، وفقاً لبيانات Airwars.
التضليل
ومن العلامات المميزة الأخرى لـ"دليل حرب سوريا" الإنكار المستمر والمعلومات المضللة بخصوص الضحايا المدنيين وجرائم الحرب. وحتى الآن، لم تعترف روسيا بقتلها مدنياً واحداً في سوريا وليست لديها آلية معروفة لحصر الضحايا المدنيين لهجماتها.
ومنذ غزو أوكرانيا، بدأت آلة الدعاية المحلية في روسيا عملها بجد، وحظرت حتى الحقيقة البسيطة المتمثلة في تسمية هذا الغزو بالحرب، واكتفت بتسميته عملية خاصة.
وعلى الصعيد الدولي، حاولت روسيا إنكار بعض أشد الفظائع التي ارتكبتها في أوكرانيا. وحتى المرأة الحامل التي قُتلت في ماريوبول لم تُترك لتموت بكرامة، إذ زعمت السفارة الروسية في لندن أن صور لحظاتها الأخيرة المؤلمة "مزيفة".
وهذا مشابه لما حدث مع مجموعة الخوذ البيضاء، الضحية السورية لحملات التضليل الروسية الأنجح والأشرس. فقد اكتسبت هذه المجموعة شهرة عالمية لتصويرها عمليات الإنقاذ التي تنفذها بعد التفجيرات، لكنها اتهمت بفبركة هذه المذابح.
بل زعم المتحدث الرئيسي باسم وزارة الدفاع الروسية، الجنرال إيغور كوناشينكوف، دون دليل، أن القوات الأوكرانية تخطط لنشر "مقاطع فيديو مفبركة" لقتلى مدنيين زائفين، في عمليات "مشابهة لعمليات الخوذ البيضاء".
مخاوف من الخطوة التالية؟
من الخطوات الأخرى المحتملة التي قد تُقدم عليها روسيا وتشبه ما فعلته في سوريا استخدام الأسلحة الكيماوية. فصحيحٌ أن روسيا لم تستخدم أسلحة كيماوية في سوريا، لكن الأسد حليف بوتين استخدمها بشكل غير قانوني مع المدنيين عدة مرات. وقد نفت سوريا هذه الهجمات أو زعمت أنها عمليات "مفبركة" نفذتها قوات المعارضة، لكن الهيئة المتحالفة مع الأمم المتحدة التي تشرف على الأسلحة الكيماوية، أكدت أن النظام السوري استخدم أسلحة كيماوية، ومنها غاز الأعصاب "السارين".
وحذّر زعماء غربيون من أن روسيا ربما تخطط لهجوم مماثل في أوكرانيا. وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن، إن اتهام موسكو الكاذب بأن أوكرانيا تملك أسلحة بيولوجية وكيماوية "علامة واضحة" على أن فلاديمير بوتين اليائس يفكر في استخدامها بنفسه. ووجّه بوتين أيضاً تهديداً مبطناً باستخدام الأسلحة النووية حين أصدر أوامر لقوات الردع النووي بأن ترفع استعدادها لحالة تأهب قصوى.
وبوتين إذا نفذ هذا التهديد، فسيأخذ حربه إلى ما هو أبعد حتى من تكتيكاته الوحشية في سوريا. ولم يقرر العالم الغربي، الذي تراجع عن التدخل في أي من الحربين حتى في ظل حصار المدنيين وتجويعهم وقصفهم، كيف سيردُّ.