بعد مرور شهر على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، يبدو أن هذه المهمة كانت أصعب مما تخيلت موسكو، إذ ظنَّ الرئيس فلاديمير بوتين في البداية أنه يستطيع دفع قواته في أوكرانيا من عدة محاور ثم الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي في غضون أيام. لكن مسؤولين غربيين يزعمون أن بوتين ارتكب بهذا الظن "خطأ كارثياً"، وأن الحملة العسكرية اختلَّ سيرها حتى إنهم ترقَّبوا أن تغير موسكو استراتيجيتها وتبدأ في التركيز على تأمين خطوط النقل والإمداد لقواتها في المنطقة الشرقية بدونباس وما حولها.
وبحسب صحيفة The Times البريطانية، يرى مسؤولون غربيون أن روسيا ستتخلى عن خطط غزوها لأوكرانيا من ثلاثة اتجاهات مختلفة في وقت واحد، وأنها بدلاً من ذلك ستركز المساعي على فرض سيطرتها في شرق البلاد.
"تدابير أوكرانيا البارعة عطَّلت خطط روسيا"
يقول مسؤول غربي إن "تدابير أوكرانيا البارعة عطَّلت خطط روسيا" وقدرتها على إحكام القواعد الأساسية لتأمين قواتها والسيطرة في حرب كهذه، وزاد على ذلك "خطأ فادح كان في صميم الخطة الروسية، وهو الظن بأن الأوكرانيين لن يقاوموا، والحاصل أن أوكرانيا كانت أشد مقاومة بكثير مما توقع الروس".
وأضاف المسؤول للصحيفة: "أظن أنه من الواضح أن الخطة الروسية الأصلية، التي قامت على التقدم من ثلاثة محاور منفصلة للمناورة والمبادرة إلى الهجوم منها جميعها في وقت واحد ثم بلوغ أهداف الحملة بسرعة، قد انتكست. لذا سنرى اللجوء إلى قصفٍ مستمر للمدن الرئيسية، وأظن أننا قد نرى حشد روسيا لمناوراتها في الشرق، وأن ينصرف تركيز الإمدادات والخدمات اللوجستية إلى تلك المناطق، بدلاً من محاولة الدفع من ثلاث جبهات مختلفة في وقت واحد".
مع ذلك، لم يتضح إن كانت "الجبهة الشرقية" هذه ستشمل مدينة خاركيف، ثاني أكبر مدن أوكرانيا، التي تتعرض لقصف مكثف منذ أسابيع.
من جهة أخرى، فإن أوكرانيا تحتفظ ببعض أفضل قواتها تدريباً وتجهيزاً في منطقة دونباس، لأنها تقاتل الانفصاليين المدعومين من روسيا هناك منذ عام 2014. وتذهب تقديرات الاستخبارات البريطانية إلى أن الهجمات تشتد على هذه القوات الآن من الانفصاليين والقوات الروسية، وزاد عليهم تعزيزات من مرتزقة "فاغنر".
"بوتين سيلجأ إلى مضاعفة رهانه على الفوز بزيادة العنف"
لكن بعد مرور شهر على اندلاع الحرب، فإن الأوكرانيين لم ينجحوا في التشبث ببلداتهم ومدنهم الرئيسية فحسب، بل بدأوا في استعادة بعض البلدات التي كانوا خسروها أمام الروس، كما يقول خبراء ومحللون غربيون لصحيفة "التايمز".
وقال جوستين كرامب، المحلل العسكري في شركة الاستشارات الاستخباراتية Sibylline، إن الصمود الذي بلغته القوات الأوكرانية حتى الآن أمام قوات تفوقها عدداً وعدة، يرقى إلى وصفه بـ"انتصار" البلاد في المرحلة الأولى من الحملة، و"قد ثبت أن القوات الروسية (عقيمة)، لا سيما بعد ما واجهته من نكسات محرجة، فقد اعتمدت على معدات قديمة وقليل من مزيج الصدمة والرعب"، على حد وصفه.
وأضاف كرامب أن "هذا الغزو أخمد إلى حد ما التصورات المفرطة في تضخيم هول القوة الروسية، ويقع على مغامرة بوتين الاستراتيجية حصةً كبيرة من ذلك. إلا أن بوتين لن يسلِّم، وسيلجأ إلى (مضاعفة) رهانه بزيادة العنف".
في السياق، يرى قادة عسكريون في وزارة الدفاع البريطانية أن "كل يوم ينجح صمود الأوكرانيين فيه، يساوي مقدار أيام من المعاناة للقوات الغازية"، لذا ركزت بريطانيا على إرسال "أسلحة فتاكة" إلى البلاد.
لكن الوقت ما زال في صالح روسيا
مع ذلك، يقول فرانسيس توسا، المحلل العسكري، إنه يرى أن قوة روسيا النارية الهائلة وتعداد قواتها الضخم يجعلان "الوقت في مصلحة روسيا". وقال بن باري، العسكري السابق وخبير الحرب البرية في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن ما يحدث بعد ذلك يعتمد على قدرة الروس على إعادة تنظيم قواتهم لتنفيذ هجمات أكبر في الشرق، مشيراً إلى أن "الجانبين يتنافسان فيما يمكن وصفه بسباق لوجستي" للحصول على مزيدٍ من المعدات والذخيرة في جبهات المواجهة.
أما جورج باروس، الباحث في معهد دراسة الحرب في واشنطن، فيرى أن "الفائز" بالجولة الأولى كانت أوكرانيا، والدليل فشل روسيا في تحقيق أهدافها.
لكن باروس يعتقد أن حالة الجمود الناجمة عن فشل روسيا في الاستيلاء على أراضي أوكرانيا، وعجز أوكرانيا عن شن هجمات مضادة فعالة، أقرب إلى الاستمرار والتفاقم. وحذر من أن هذه النتيجة تعني مزيداً من "الوحشية والدماء والاستنزاف، واشتداد الأمور وطأة على المدافعين الأوكرانيين"، بحسب تعبيره.
التعثر العسكري الروسي يُعزز موقف أوكرانيا في المفاوضات
في السياق، تقول مجلة الإيكونومست إن الموقف التفاوضي لأوكرانيا تعزز من خلال الأداء العسكري الروسي المتعثر بشكل مفاجئ. وتفاوت مستوى الاحتراف بشكل كبير: فهو أفضل في الوحدات التي تواجه قوات النخبة الأوكرانية في الجنوب الشرقي، والأسوأ بكثير في الشمال والشمال الشرقي وحول كييف.
وهناك، يبدو أن الجنرالات الروس أخطأوا في الحسابات، واعتمدوا موقفاً عسكرياً افترض الحد الأدنى من المقاومة. علاوة على ذلك، فشلوا في الاستعداد بشكل كافٍ حتى لهذا السيناريو الوردي. وقال ضابط مخابرات أوكراني للإيكونوميست، إن روسيا مضت قدماً في هجومها، حتى دون التنسيق الأولي لوحداتها العسكرية، الأمر الذي كان له عواقب متوقعة في أعداد القتلى والجرحى.
وتزعم أوكرانيا أن روسيا فقدت أكثر من 15 ألف جندي منذ بدء الحرب، وهو ادعاء يفترض الكثيرون أنه مبالغة شديدة حتى في واشنطن. ولكن في 21 مارس/آذار 2022، أشار تقرير نُشر في "كومسومولسكايا برافدا"، وهي صحيفة روسية موالية للحكومة، إلى مقتل 9861 جندياً روسياً حتى الآن، وإصابة 16 ألفاً آخرين.
وهذا من شأنه أن يضع ما يقرب من 13% من قوة الغزو الأصلية خارج الخدمة، ويُقارَن بشكل سيئ مع إجمالي الخسائر التي تكبَّدها الاتحاد السوفييتي خلال عقد من الحرب في أفغانستان، عندما قتل حوالي 15.000. وزعمت الصحيفة الروسية في وقت لاحق أنه تم اختراقها وحذف الأرقام، ولكن حتى لو لم يكن التقرير صحيحاً فإن معدل الاستنزاف يبدو مرتفعاً بما يكفي لمنح الكرملين حافزاً للسعي إلى "سلام تفاوضي".
طلب زيلينسكي مرة أخرى إلى لقاء وجهاً لوجه مع بوتين، الذي رفض حتى الآن فرصة التحدث. وقال زيلينسكي الأسبوع الجاري إن المفاوضات يجب أن تنجح لأن البديل هو "حرب عالمية ثالثة". كان ضابط استخباراته أقل تفاؤلاً، وتوقع أن الحرب ستستمر حتى "استنفاد القوات الروسية تماماً"، حسب وصفه. لكن هل تمتلك أوكرانيا الموارد اللازمة لتحقيق ذلك؟ قال للمجلة البريطانية: "يجب أن نحصل عليها، لأننا ليس لدينا خيار، نريد أن نبقى على قيد الحياة".
الهزيمة هو السيناريو الأسوأ بالنسبة لروسيا
لكن السيناريو الأسوأ بالنسبة لروسيا هو السيناريو الذي يتعين على بوتين فيه قبول الهزيمة فعلياً. يجادل الأكاديميان أرفيد بيل ودانا وولف، في موقع Russia Matters التابع لجامعة هارفارد، بأنَّ هذا قد يؤدي إلى اتفاق يوافق على سحب روسيا جميع القوات من أوكرانيا، بما في ذلك القوات الموجودة في دونباس، والتراجع عن الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك. وستبقى شبه جزيرة القرم جزءاً من روسيا، لكنها ستكون منزوعة السلاح. وسيُسمَح لأوكرانيا بالسعي لعضوية في الاتحاد الأوروبي، لكنها لن تنضم إلى الناتو، الذي من المرجح أن يراه بوتين خطاً أحمر حتى في حالة الهزيمة.
في المقابل، سيرفع الغرب جميع العقوبات المفروضة على روسيا ويوافق على إجراء محادثات أمنية مع موسكو حول مستقبل الأمن والدفاع في أوروبا. ومع ذلك، يستبعد العديد من المراقبين أن يتنازل بوتين لهذا الحد؛ نظراً لتأثير ذلك على مكانته في الداخل إذا لم يعُد هو الرجل القوي. لكن عند محاولة استشراف المستقبل من كلمات بوتين، قد نجد هناك علامة خفية على حدوث تحول، كما يقول تقرير لصحيفة "واشنطن بوست".
إنَّ احتمالية التوصل إلى أي اتفاق سلام تستند إلى فهم بوتين أنه أَقدَم على خطوة تتجاوز قدرته على التحمل، التي تدور حولها تساؤلات كبيرة الآن. ويجادل البعض بأنه قد يلجأ حتى إلى أسلحة نووية منخفضة الدرجة قبل المخاطرة بالتعرض للهزيمة في أوكرانيا.
ويقول جون هيربست، السفير الأمريكي السابق في أوكرانيا لواشنطن بوست، إن "الأمر يتلخص في أنَّ بوتين ما زال يعتقد أنَّ بإمكانه بطريقة ما الانتصار في ساحة المعركة. إذا كان قادراً على الوصول إلى النقطة التي يفهم فيها أنَّ ذلك غير ممكن، فربما يبدأ في التفاوض بجدية".