أثار مقطع فيديو لمقاتلين يحملون صواريخ "آر بي جي" على أكتفاهم، ويصرخون بهتافات التكبير قبل أن يطلقوها تجاه القوات الروسية في أوكرانيا، الكثير من التساؤلات عن ماهيتهم، حيث يظهر فيديو نشره حساب تابع للقوات المسلحة الأوكرانية على تويتر، ما يبدو أنه هجوم مضاد يشنه مقاتلون إلى جانب جنود أوكرانيين، تم التحقق منه بالقرب من خط السكك الحديدية شمال شرقي كييف، إذ أكد ناشطون وصحفيون ومسؤولون أوكرانيون أن من يظهر بالفيديو هم مقاتلون شيشانيون "متطوعون"، تابعون لما يعرف بـ"كتيبة الشيخ منصور". فمن هم هؤلاء، ولماذا يقاتلون إلى جانب الجيش الأوكراني؟
ما هي كتيبة الشيخ منصور الشيشانية؟
منذ بدء الحرب، في 24 فبراير/شباط 2022، حظي "رجل بوتين" في الشيشان، رمضان قديروف، بمتابعة واهتمام كبيرين من قبل وسائل الإعلام، لدعمه للغزو الروسي لأوكرانيا، وإرساله آلاف المقاتلين لمساندة الجيش الروسي في السيطرة على المدن الأوكرانية.
وتطلَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قديروف لتزويده بالمقاتلين الذين أرادهم، للاستيلاء على مطارٍ شمالي كييف، وإطلاق العنان لتقدُّم روسيا نحو العاصمة والسيطرة على مدينة ماريوبول جنوبي البلاد وغيرها من المناطق. ولجأ بوتين إلى قوات قديروف، متفاخراً بسمعة مقاتليهم "الشرسين"، حيث تخوض موسكو في بعض المناطق بأوكرانيا حرب شوارع مع القوات الأوكرانية والمقاومة الشعبية العنيدة هناك.
لكن في الوقت نفسه تقاتل كتائب من "المتطوعين" الشيشان تقدر أعدادهم بالمئات، إلى جانب القوات الأوكرانية، ويعملون على صد الجيش الروسي وقوات الانفصاليين التابعة له، بالإضافة إلى قوات قديروف، ومن بين تلك المجموعات يبرز اسم مجموعة تدعى "كتيبة الشيخ منصور".
ظهر اسم هذه المجموعة الشيشانية المناوئة لروسيا، في عام 2015، حيث كانت واحدة من ثلاث كتائب مسلمة، تم تشكيلها للقتال إلى جانب الجيش الأوكراني، ضمن ما يعرف بـ"كتائب المتطوعين الأوكرانية"، لمواجهة الحركات الانفصالية المدعومة من روسيا في عام 2014 وصد التدخل العسكري الروسي الذي انتهى باحتلال جزيرة القرم وانفصال إقليمي دونيتسك ولوغانسك شرقي البلاد، بدعم روسي.
وبحسب المصادر المتوفرة وروايات بعض المقاتلين، فإن معظم مقاتلي الكتائب الشيشانية هذه فروا بعد سقوط جمهورية الشيشان (جمهورية إشكيريا الشيشانية) إلى دول أوروبية عديدة، بعدما خاضوا لسنوات معارك ضارية مع روسيا خلال الحرب الشيشانية الثانية التي انتهت في عام 2009 بسيطرة حكومة قديروف المدعومة من روسيا على البلاد، حيث تدفق مئات الآلاف منهم نحو أوروبا وتركيا ومناطق أخرى.
من هو الشيخ منصور الذي جاءت منه تسمية هذه الكتيبة الشيشانية؟
استلهم هؤلاء المقاتلون اسماً لا يزال صاحبه يعتبر بطلاً قومياً أسطورياً لدى الشعب الشيشاني ورمزاً للتحرر والاستقلالية عن الهيمنة الروسية، إذ يقول قائد كتيبة الشيخ منصور "مسلم تشيبرلوف" في حوار سابق مع موقع VICE الأمريكي، إن الكتيبة سميت بهذا الاسم نسبة إلى الإمام منصور الشيشاني، الشيخ المعروف الذي قاد المقاومة الشيشانية في القرن الثامن عشر ضد حملة الإمبراطورة الروسية "كاثرين العظيمة" التوسعية في القوقاز، والذي استطاع أن يلحق بالروس هزائم متكررة في شمالي القوقاز لسنوات طويلة، قبل يتم أسره وقتله في عام 1794.
تذكر المصادر التاريخية، أنه في عام 1785، وفي خضم حروب الإمبراطورة كاثرين مع الدولة العثمانية، بدأت الإمبراطورية الروسية التوسع تجاه أراضي القوقاز المسلمة، وظهر حينها عالم الدين الشيخ منصور ونادى بالجهاد ضد الروس، واستثار الحمية الإسلامية في نفوس القوقازيين، حيث كان ذلك بداية حرب جديدة، لم يألفها الروس من قبل، والتي أطلق عليها منصور "حرب الجهاد المقدس".
وتجاوب مع الشيخ منصور شعوب داغستان، والقبارطاي، والنوغاي، بالإضافة إلى الشيشان، وتجمع لديه جيش ضخم، استطاع أن يلحق بالروس هزائم متكررة في شمالي القوقاز بدعم عثماني، حتى تحول الإمام إلى أسطورة لدى شعوب القوقاز، وصار له نفوذ وتأثير لا يجارى بين الشعوب الشركسية القوقازية المسلمة.
وخاض الشيخ منصور الشيشاني معارك عدة مع الروس على مدار 9 سنوات، متحدياً الإمبراطورة "كاثرين العظيمة"، بعدما نجح بقتل قادة عسكريين بارزين في جيشها، وأسر المئات من جنودها، إلى أن وقع في يد الروس في مدينة أنابا المطلة على البحر الأسود عام 1791، وذلك بعدما نجحت القوات الروسية بأخذها من الجيوش العثمانية، إذ ظل الشيخ صامداً بها حتى سقط جريحاً، وتم نقله إلى الإمبراطورة كاثرين، التي رغبت في رؤية هذا الشيخ الشيشاني، الذي كان مصدر إزعاج دائم لها منذ عام 1785.
في النهاية، تذكر الروايات التاريخية، أن الإمام منصور أودع السجن في شليسلبورغ غرب روسيا، وهناك قُتل، بعد أن قَتَل الجندي المسؤول عن حراسته، في 13 أبريل 1794م."
"عدونا واحد".. كتيبة الشيخ منصور يقاتلون جنباً إلى جنب مع حركات "اليمين المتطرف" الأوكرانية
في عام 2015، أفادت تقارير بأن كتيبة الشيخ منصور خاضت معارك على خط المواجهة ضد الانفصاليين في دونباس (شرق) وماريوبول (جنوب)، إلى جانب كتيبة شيشانية أخرى اتخذت من اسم زعيم الشيشان الراحل وعدو روسيا اللدود "جوهر دوداييف" اسماً لها، والذي اغتالته موسكو في عام 1996 بعدما قاد شعبه لمقاومة الغزو الروسي لمدة عامين.
يقول مسلم تشيبرلوف الذي يقود كتيبة الشيخ منصور في أوكرانيا، في حوار مع صحيفة "الغارديان" البريطانية عام 2015، إنه قضى عقدين في قتال الروس في الشيشان بعدما دفن بيديه العديد من أفراد عائلته الذين قتلتهم روسيا، كجزء من التعبئة الشعبية التي قاومت القوات الروسية في حربين من أجل الاستقلال، ثم لاحقاً كجزء من الحركة المسلحة السرية، التي نفذت عدداً من الهجمات المسلحة الدامية ضد الروس حتى في قلب موسكو.
ويضيف تشيبرلوف أنه غادر جبال الشيشان في عام 2007 وجاء إلى أوكرانيا في عام 2014 بعد عبوره الحدود من بولندا بشكل غير قانوني، سيراً على الأقدام، للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية ومحاربة الروس، مردفاً: "لدينا عدو مشترك لا يهتم بنا ويستبيح أرضنا".
في حواره مع موقع VICE الأمريكي، يقول تشيبرلوف إن كتيبته تقاتل منذ عام 2015 جنباً إلى جنب مع حركات اليمين المتطرف الأوكرانية مثل "القطاع الأيمن" و"كتيبة آزوف"، مضيفاً: "لدينا علاقة جيدة للغاية مع كتائب المتطوعين الأوكرانية، بما في ذلك آزوف، نحن نقاتل معاً على الجبهة، ونتشارك في العديد من الصداقات، ولا نجادل أبداً حول العرق أو الدين".
مشيراً إلى أن كتيبة الشيخ منصور "يقاتلون فقط من أجل أرضهم وليس من أجل المال".. "نحن نشارك الأوكرانيين في هذه القضية، يمكن لمقاتلي القطاع الأيمن وكتيبة آزوف أن يفعلوا ما يحلو لهم، ليس هناك ما يثير الدهشة في تحالفنا، نحن هنا فقط لمحاربة روسيا".
بعد عام 2015، خفت اسم الكتائب الشيشانية في أوكرانيا، لبعض الوقت بعدما تحدثت تقارير عن دمجها ضمن القوات المسلحة الأوكرانية، وحصول بعض أفرادها على الجنسية الأوكرانية لتطوعهم في الدفاع عن بعض المدن الأوكرانية في شرق وجنوب البلاد، ومنع سقوطها بيد روسيا وانفصالييها.
كتيبة الشيخ منصور تعود للظهور مجدداً في أوكرانيا لقتال روسيا
تنظر كتيبة الشيخ منصور إلى الحرب في أوكرانيا ومشاركتها بها، على أنها "جزء من صراع أوسع ضد الإمبريالية الروسية ونظام رمضان قاديروف التابع لروسيا".
خلال الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، عادت الكتائب الشيشانية مثل كتيبة الشيخ منصور وكتيبة جوهر دوداييف للظهور والنشاط مجدداً في أوكرانيا، وانتشرت على مواقع التواصل العديد من مقاطع الفيديو لها وهي تقاتل القوات الروسية في مناطق مختلفة.
وفي 22 مارس/آذار، نشر حساب تابع للجيش الأوكراني على تويتر، مقطع فيديو يظهر أفراداً من كتيبة الشيخ منصور وهم يقاتلون بشراسة ضد القوات الروسية بالقرب من بوتشا وهوستوميل، بالقرب من العاصمة الأوكرانية كييف.
وفي 26 فبراير/شباط 2022، دعا القائد الشيشاني المعادي لروسيا، أحمد زكاييف، والذي شغل منصب نائب رئيس الوزراء في حكومة إشكيريا الشيشان، قبل أن يتولى رئاسة الحكومة في المنفى لعدة سنوات، المقاتلين الشيشان من جميع أنحاء أوروبا للذهاب للقتال من أجل أوكرانيا وصد عدوان روسيا.
وقال زكاييف في مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، إن "العديد من الشيشان المقيمين في عدة دول أوروبية، تواصلوا مع أعضاء "لجنة الدولة الشيشانية لإنهاء احتلال إشكيريا"، وأبلغونا أنهم يريدون الذهاب للقتال من أجل حرية الشعب الأوكراني" وأنه "من غير المعقول أن بعض الشيشان، الذين تعرضوا عدة مرات للإبادة الجماعية من روسيا، يقاتلون اليوم إلى جانب روسيا، هذا غير مقبول في أي دين".
من جهته، يقول أحمد جيزاييف، الذي كان مسؤولاً في وزارة الداخلية في جمهورية الشيشان السابقة، إن "الدافع بالنسبة للمقاتلين الشيشان في أوكرانيا كان واضحاً وكبيراً، لا يوجد فرق كبير القتال في الشيشان أو في أوكرانيا".
وقال جيزاييف لموقع "Open Caucasus Media" المختص بالشؤون القوقازية، في 8 مارس/آذار: "حريتنا تنتهك من قبل الاتحاد الروسي والقيادة الروسية الإجرامية، الشيشان يقاتلون في أوكرانيا لأن روسيا المحتلة عدو مشترك للشيشان والأوكران، الشيشان سيواصلون الحرب ضد المحتلين الروس".
ويقول موقع Open Caucasus Media إن "المتطوعين المسلمين من شمال القوقاز الذين يقاتلون روسيا في أوكرانيا إلى جانب القوات المسلحة الأوكرانية، لم يقتصروا على الشيشان، وهناك مقاتلون من جميع دول القوقاز التي احتلتها روسيا، سواء كان ذلك من الشيشان أو الأنغوش أو الداغستان أو الأوسيتيين".
في النهاية، تعكس حكاية كتيبة الشيخ منصور الشيشانية وغيرها من المجموعات التي تقاتل تحت راية أوكرانيا من جهة، وقوات رمضان قاديروف التي تقاتل تحت راية بوتين من جهة أخرى، حالة الانقسام والاضطراب التي صنعتها 30 عاماً من الحروب والصراعات التي تسببت بها روسيا في الشيشان، لتؤكد أيضاً أن قضية الشيشان لم تغلق بعد، بل إن تبعاتها الأليمة تتعدَّى حدود البلاد المسلمة التي طالبت يوماً باستقلالها عن روسيا ودفعت ثمناً باظهاً إزاء ذلك، وما تزال.